الى التي دائما أشعر معها أننا لا زلنا في البدايات، حبيبان متشوقان لبدء حكاية حب متجددة. لولاك لما كان لي وطن أعود اليه، كلما توّهني طريق العقل. أنت كذا البداية وأنت النهاية. حبيبان نمضي حتى يموت الوقت.

*

بَوح

يبحث الثائر الحقيقي، كما العاشق، عن حب كبير ينير الدروب ويوسع القلوب.

تدور دوامة عشقه في قلبه وتتدفق سنابل قمح ولاّدة تنحني للريح وترنو للسماء بالشغف ذاته فالحب زاد سنابل الأرض.

*

جديلة جدتي

اجمع ما تبقى منك واربطه، كمفتاح، في شعر امرأة لا زالت تحب الضفائر الطويلة، ففي أصل تلك الضفيرة، هناك عميقًا في روح الرأس، تكمن كل البدايات...

*

بلاد التعب والحب

هذه هي البلاد ذات الجدران تضيق وتتسع كما يتسع وينكمش القلب الخافق داخل الصدر. وان كانت أرض التعب والأسى والفرح، نغيب عنها فنحن لسنا أشجارًا، لكننا نعود اليها كطير هارب على متن الريح ففيها تتدثر أجمل البدايات.

*

لماذا كل هذا؟!

أليس تكالب البشر على شيء يكفي الجميع هو ما يجعل صاروخاً يأكل حلم طفل، لم يطلب من الدنيا الا طائرة ورقية؟

*

حكمة الماء

وحدها قطرة المطر حين تولد تسرع الى أعماق الأرض، هل يا ترى فكرت يوماً أنها ستمسي نهراً يلد بحراً أم هو اللهو الشتائي وحسب؟

*

وهل كتب على الفقراء التعاسة والشهادة؟

كلما ارتفع شهيد ضاقت مساحة الوطن وانتفخ باطن الأرض أكثر فأكثر.

متى ستأتي أسطورة طوفان عاشرة تجلب لنا مصطلحات جديدة وترفع شيئا من البؤس عن كاهل الفقراء؟

*

الحق

الحق ليس له وطن ولا يحمل جواز سفر، الحق كائن موجود قبل الحدود، كائن مسافر يجول في كل مكان وطيرٌ لا يعشش في مكان. ليس للحق لون، لا أبيض ولا أسود ولا أصفر، وليس للحق علامات فارقة. ليس للحق مرجع ديني لا مكتوب، ولا شفهي، ولا راية تميزه، ولا لغة. الحق هو طير يغرد ليسمع الجميع تغريده ولا يبحث عن منصب ولا مكانة اجتماعية. الحق ليس صورة أو سورة أو آية تُعلق على جدار صامت. الحق لغة حياة ضرورية علينا جميعا أن نتعلمها.

*

عن الحب

الحب ليس مهنة، بل اكتمال كل الحواس وتلاقيها في روحيين كانتا، ليس بالضرورة، تائهتين انما مارستا العشق لاكتمال دورة حياة في جسمين هما الآن هنا وغدا في مكان آخر وبين هنا وهناك يجوز للحبيب أن يسمي حبيبته وطنا أو شمسا وأن تسمي الحبيبة حبيبها أرضا وان كانت الأرض أنثى لكنها كالشعراء، تلبس الشعر عباءة لروح أولها ذكر وآخرها أنثى، خلقنا اثنين.

*

طفلة الخيمة وبائعة الكبريت

لم تك الثلوج قد بدأت بالتساقط في تلك الليلة الا أن كل الأشجار كانت تقول ان يوم غد سيكون مثلجا وباردا. من يعرفون لغة الأشجار استبقوا تلك الثلوج وخبأوا ما رمت لهم به الأشجار من عيدان يابسة للغد المثلج. من لا يعرفون لغة الأشجار سافروا من البيت مسافةً تسبقهم فيها الى بيوتهم العاصفة.

هبت العاصفة، ومن كان في البيت تدفأ وتدفأ وتدفأ وتدفأ حتى صار مغرما بالنار...

يحكى أن والد طفلة ممن أحبوا النار دخل غرفة ابنته الصغيرة جدا ووجدها تفتح نافذة غرفتها على نافذة خيمة فيها طفلة صغيرة بمثل عمرها، طفلة تنام متكربلة كالدمية حول شكل يشبه جسد امرأة. رأى الأب ابنته تمسك أعواد ثقاب وتشعلها الواحدة تلو الأخرى وتتمنى وتصلي بصوت عال وتقول: "يا عود الثقاب كن مدفأة لا تنطفىء وكن مائدة طعام دافىء لا ينفد وكن ابريق شاي دافىء لا ينضب وكن أخشابا لا تنطفىء وكن وردا في الصباح وكن قمرا دافئا في الليل ونجوما وشمسا دافئة في يوم مثلج."

انطفأ عود الثقاب، أغلق الأب النافذة وأوصدها بألف قفل فولاذي وأمر زوجته، أم الطفلة، غدا أنت سترتبين أعواد الثقاب في العلب. تقول الأشجار أن الدمية التي كانت في الخيمة عادت للحياة من جديد والطفلة التي أغلق والدها عليها باب بيتها الدافىء صارت دمية يشعل لها والدها أعواد الثقاب كل يوم لتعود طفلة كما كانت...

*

قصة بيضاء الثلج السرية

لم يسع بيضاء الثلج التحدث عن الرجل الذي تحرش بها، لأن مُشكلتها مع الساحرة الشريرة كانت تشغلها كثيرًا. ذلك الرجل لم تُرسله الساحرة الشريرة، بل هو من تلقاء نفسه؛ حين أعجبه جمال بيضاء الثلج قرر التحرش بها، بيضاء الثلج لرقتها لم تخل أن رجلاً بعمر أبيها؛ الملك المقتول قد يفعل ذلك، لأنها ترى كل الرجال الكبار مُعلمين للصغار لا مُستغلين لهم، لكن بيضاء الثلج حين صارت تعرف أن ليس كل الرجال الكبار هم مُعلمون للصغار وحكماء وطيبين وحين عاود ذلك الرجل التحرش بها من جديد صفعته صفعة قوية وحدّثت الأقزام السبعة عنه وما كان منهم إلا أن نبهوه وطردوه من جوار غابتهم لتبقى الغابة آمنة من المُتحرشين.

*

ساندريلا تستيقظ من حلمها

وحين عادت سندريلا من الحلم لم يطرق بابها خادم الملك ولا ظهر الحذاء الزجاجي من جديد وظلت ساندريلا تطيع خالتها المتغطرسة الى أن فقدت الأمل من ظهور الأمير الموعود فما كان منها الا أن رفعت صوتها عاليا بوجه خالتها وقالت لها: ساندريلا الأحلام انتهت وانا ساندريلا الواقع. ومنذ تلك الليلة صارت ساندريلا تأكل جيدا وتنام جيدا وتحلم جيدا.

وتقول الحكاية أن ساندريلا تزوجت ابن الحطاب الطيب الذي أحبها كثيرا وبنيا معا بيتا جميلا وأنجبا طفلا جميلا صار لاحقا ملك البلاد

*

أول شجرة

قبل أن تولد الأشجار كانت الريح تزاحم الطيور المهاجرة وتتعلق بها وتطير معها من مكان الى مكان، حتى صارت الريح أيضا طيرا مهاجرا. ويحكى أنه حين صارت الريح لا تنام ولا تهدأ في مكان وتزاحم الغبار والطيور وتسرق أسرار عابري التلال، أن اجتمعت طيور الأرض وحاكت دمية للريح لتلهو بها وسموا تلك اللعبة "شجرة"، مذاك عادت الريح من هجرتها الأبدية وصارت كل ليلة تحكي أسرارها للأشجار وحين تنام الطيور والأشجار تسافر الريح وحدها.

*

من أجل الملك المُعظَم :)

كان لأحد الملوك ابنٌ بارٌّ أراد تخليد ذكرى والده الذي مات غرقًا، بعد أن تحطمت سفينته، أو سفنه، أو أسطوله. أي، قصدت أنه لم يجد من ينقذه حينها، رغم أنه الملك. المهم أن الابن لم يجد فكرة فذّة:) لتخليد ذكرى والده الا أن ينتقم من البحر. لذا، فرض حصارًا عليه وأنشأ حوله سورًا عاليًا، لا تقوى الطيور على تجاوزه، وكم كان سعيدًا عندما انتهى من بناء السور، حتى أن دموعه انهمرت بغزارة، لأن والده الآن سينام مرتاح البال ولأنه أصبح متأكدًا أنه، حتى لو أراد أن يهدم هو ذاته هذا السور فلن يستطع الى ذلك سبيلاً، وبهذا يُخلّد اسم والده للأبد.

سكان المملكة كانوا مسرورين لأن ملكهم بات مسرورًا بإنجازه، لقد ساعدوه جميعًا وتركوا أعمالهم لكي يحققوا حلم الملك الابن وجميعهم، بمن فيهم الملك، فاتهم أن يفتحوا بابًا في السور وبقيت قوارب الصيادين خلف السور والمملكة بقيت خلف السور ولم يكن هناك من طعام يُشبع أهل هذه المملكة الا الأسماك، والأسماك خلف السور، والسور عالٍ عالٍ، فمات الجميع، بمن فيهم الملك ليبقي السور وذكرى الملك المُعظَم.

*

حدود

على الحدود تصبح كل طرقات القلب في حالة انفصام؛ وتصبح كل الأمكنة؛ في أي بقعة على هذه الأرض الشاسعة، مرساة لا تهدأ في قاع؛ ولا ترتفع الى سطح. أن تكون على الحدود، أشبه بأن تكون مستأجراً شقة بمبلغ زهيد، في البرزخ. أن تكون على الحدود؛ بين الروح والعقل معناه ألا يكون لك وطن تسكنه طالما أنك مهاجر عن نفسك.

*

حكمة العصافير

في صباحِ يومِ ما بعد العيد أشرقت ذات الشمس على نفس الطريق وشاهدتُ ذاتَ عصفورٍ يحلقُ في ذات المكان وأنا الّذي اعتقدتُ أن البارحة، يوم العيد، كان مختلفا بالنسبة لذلك العصفور انما لا، اكتشفتُ أن العصافير تجاوزت منذ زمن مسألة التمييز والتصنيف وصار كل يوم بالنسبة لها يوم عيد أو أنها هكذا ولدت وفي عقولها ولدت الحكمة.

*

طفلُ المفترقات

لستَ الوقت، ولكنك تُشبهه حين تركضُ حافيًا لتبيع علكةً عند مفترق بائس بليرة بائسة. وأنا لست الوقت، ولكنني أُشبهه عندما أمرُّ بك ولا أراك.

وها أنت تُذكّرنا الآن والبارحة، ومنذ الأزل، أننا كما الوقت إذ نمر على كل شيء، دون وجل أو خجل، ولا نراك.

*

متاهة

حزمت أمتعتي، حملت غرفتي، ورحلت، وصلت، أنزلت غرفتي عن ظهري، رتبت أمتعتي في خزانتي، صففت شعري، خرجت من باب غرفتي، فوجدتني أطأ باحة بيتنا.

*

أين؟

حين عاد المهاجر، رحل الوطن، حينها كان الوقت صباحا، والأبواب مشرعة، والبيوت لا تعني شيئا، لكن، المهاجر دخلها، بحث عن دفاتره وكتبه، لم يجد شيئا، لم يأت رغبة منه، بل لأنهم هناك قالوا له: "عد الى وطنك، هناك ستجد ما أتيت تبحث عنه هنا"، أجل، قالوا له ذلك، فهم لا يعرفون، يخالون الأوطان نسخا لا تختلف إلا عناوينها، المهاجر صدق الغرباء وغافل قلبه، عاد فلم يجد الوطن، ليس هذا فقط، بل أقفلوا عليه باب الرحيل وبقي مهاجرا.

*

المواطن

- أيها البائس دائمًا، يا أي مواطن يتنفس، كيف تعلمت أن تقتل نفسك ببعض منك وأن تقتل بعضًا منك بنفسك؟

*

موت سريري

مررت بقريتي فألفيتها نائمة، ناديت أهلي، فلم يسمعني الا حراس أتوا من بعيد، سألتهم عن بيتي الريفي، عن توتة الحارة، عن ساحة أشجار الزنزلخت. قالوا لي أنت كلك حلم. هنا لا توت، لا زنزلخت. أنت من كوكب آخر. قيدوا فكري بعصبة سوداء، حملوني الى أقرب مدينة، وضعوني على أول رصيف، صرت لا أشعر بشيء، قلبي فقط ظل ينبض هناك، لكن أطرافي كانت تدوسها أقدام الغرباء.

*

ليمون يافا

"في حانة يافاوية... حانة واحدة ووطنان لنفس المدينة"

أحمد: متى قدمت الى هنا؟

دافيد: قبل قليل

أحمد: أقصد متى قدمت الى يافا

دافيد: آه، الى يافو. أتيت حين لم تكن للشوارع أسماء بعد

أحمد: -شوارع يافا!؟

دافيد: أجل، ووضعونا حينها في بيوت فارغة

أحمد: في يافا!؟

دافيد: أجل.

أحمد -بيوت فارغة؟

دافيد: أجل.

أحمد: -في يافا؟

دافيد: أجل

أحمد: -وأين كان أهل يافا؟

دافيد -أهل يافو؟ لم نجد فيها أحد.

أحمد: -في يافا!؟

دافيد: أجل.

أحمد: -وكيف؟

دافيد: كانت البيوت فارغة؟

أحمد: -في يافا!؟

دافيد: أجل

أحمد: -ولماذا؟

دافيد: لا أعرف.

أحمد: -حقا لا تعرف؟

دافيد: لا أعرف، دخلنا بيوتا فارغة وشوارع بلا أسماء

أحمد: -في يافا؟ والليمون، هل كان مذاقه لذيذا؟

دافيد: أي ليمون؟

أحمد: -ليمون يافا...

دافيد: لم يكن هناك ليمون.

أحمد: -في يافا!؟ في يافا!؟ لم يكن هناك ليمون في يافا!؟

دافيد: لا، نحن زرعنا الليمون...

أحمد: -في يافا!؟

دافيد: في يافو... دخلنا بيوتا فارغة من شوارع بلا أسماء، زرعنا الليمون، وها نحن كما ترى الآن.

أحمد: -في يافا!؟

دافيد: أجل، ومن أنت؟

أحمد: -أنا من مدينة لم تكن لشوارعها أسماء وبيوتها كانت فارغة ولم تفح من أزقتها يوما رائحة الليمون.

دافيد: أرجوك، أنا لا أحب الأحاجي...

أحمد: -أية أحاجي؟ ألا تعرف أي مدينة أقصد؟

دافيد: لا، فأنا لم أسمع يوما بمدينة بهذه المواصفات...

أحمد -حقا؟

*

أحلام أطفال

وأنا طفل صغير، كنت أعتقد أن السماء تمطر أزهارا، وأن الغبار يمتطي ظهر الريح، وأن الآباء لا يكونون أطفالا بلا شوارب، وأن ألعابي ستكبر معي، وأنا طفل صغير كنت أعتقد أن الناس يجتمعون كل عام لملء البحار وكل بلد تكون مسؤولة عن بحارها وأنهارها، وأنا طفل صغير كنت أعتقد أن السماء.

غطاء يتبدل وأن هناك شخص عين لهذا الغرض، لم أكن أعرف وأنا صغير أن هناك شيء اسمه انتخاب وحتى حين كبرت بقيت الأمور على حالها، المهم تخيلت أن ذلك الشخص كان طويل القامة، لأن الوصول للسماء ليس بالأمر الهين.

وعلى مزاجي الشخصي بنيت لي عالما، بنيت بيتا فوق شجرة وفي بيت الشجرة التقيت الرجل طويل القامة، الذي قال لي أنه ليس هو من يزيح ستارة السماء وأن مهنته هي فقط أنه رجل طويل القامة، ومن يزيح ستارة السماء لا يعرفه أحد.

في عالمي الشخصي، كان بيتي من أغصان الشجر وطعامي كان كل أنواع الكعك والحلويات الممنوعة والمسموحة، كنت كل يوم أمتطي مكنسة القش وأطير بها فوق قريتنا، كنت أرى من فوق طرقات التراب، عيون الماء، الأشجار، الناس فوق السطوح مجتمعين ويضحكون، الأطفال يلعبون، كنت أتجول في سماء القرية لساعات طويلة دون أن أمل، كنت أدور وأدور وأدور. كنت أرى جدتي صالحة تحضر لنا دبس البندورة فوق سطح بيتنا وتجفف العنب ليصبح زبيبا، كنت ألوح لها بيدي، من فوق، لكنها لم تكن تنظر للأعلى أبدا فلم ترني.

حين كبرت، عرفت أن الرياح هي من تسطو على الغبار وتخرجه من منازله العتيقة وأن الآباء ينسون حين يكبرون أنهم كانوا أطفالا وأن الألعاب تصغر كلما كبرنا، عرفت أن البحار لكل الناس لكننا لا نملك بحارنا ولا أنهارنا ولا سماءنا فنحن بلاد غير مسؤولة، الشيء الوحيد الذي لم يتغير حين كبرت هو الشخص طويل القامة فقد ظل هو أول شخص يقول لي الحقيقة ولا يكذب على فحتى الآن لا أعرف بعد من يزيح ستارة السماء وكيف يفعل ذلك. بالطبع عالمي انهار وكذلك بيت الشجرة، أساسا لم يعد هناك أشجار يبني عليها الأطفال أحلامهم، مكنسة القش صارت عجوزا ولم تعد صالحة حتى لكنس الشوارع ولن أحكي عن البلد لأنني لم أعد أراها من فوق ولا أريد، لأن ما أراه وأنا على الأرض يكفيني، ما عادت السماء في قريتنا تمطر أزهارا. 

الحياة اثنان

لا تفتح قلبك وتترك عقلك مغلقا

ولا تفتح عقلك وتترك قلبك مغلقا

الحياة دائما اثنان وأكثر...

*

يقظة

لم تشأ الطرقات، في ذلك المساء، أن تبقى نائمة، صامتة، وذلك المشهد الكوني يحرك حتى الجبال، صار النور يقترب ويقترب، وكلما اقترب أكثر كلما صارت الطريق أوسع وأبهى وكأنها استفاقت في منتصف الليل على أصوات أطفال يدعكونها بأقدامهم ويداعبون جنباتها ويتلمسون بأناملهم نتؤاتها.

صار النور على بعد أمتار من بيتنا، قرب الطريق، والمارة نيام، وكأن الزمان ببحثه عن المكان اختار هذه الطريق.

أنا كنت نائما، أو كان جزء مني نائما والجزء الآخر مستيقظا، بالقدر الذي يتيح لي أن أتنفس وأن آكل وأشرب وألا أعترض وأخاف على راحتي.

اقترب النور أكثر، وصار الطريق أوسع، وانقلب الهدوء ضجيجا.

انهم العسكر...

انهم العسكر...

صوت صاح من بعيد... انهم عسكرنا... أين كانوا... من أين أتوا؟

صار النور الواحد قطعانا من النور، النور يلحق النور، وخلف النور كان ظلام، ظلام يسبقه ظلام...

دخل عسكرنا بيتنا، كنا كلنا نائمين، وبقينا نائمين، جزئي المستيقظ فقط كان حاضرا، لكن، لم يكن له الحضور اللازم، مجرد شيء ككل الأشياء، شيء لا يذكر أمام زحف عسكرنا علينا...

المهم، مر العسكر من أمامي، داسوا على سريري وأقلامي ورواية كنت أكتبها عن الحب والمقاومة، وكنت أتفرج ولا زلت، صعدوا الى سطح البيت واستقروا هناك ولا زالوا حتى اللحظة.

مر اليوم الأول والليلة الثانية واليوم الثالث ومر ليل آخر ونهار وليل ونهار، ماتت الأثداء كلها لكن الأطفال الرضع كانوا يستيقظون، كلما مات ثدي يستيقظ رضيع، يموت ثدي ويستيقظ رضيع يموت ثدي ويستيقظ رضيع، حتى صار الرضع بعدد العسكر وأكثر من ذلك، فكلما ولد رضيع مات أحد العسكر، يولد رضيع فيموت واحد من العسكر الى أن خيم الحب فوق قريتنا، وذابت بدلات العسكر.

في الصباح استيقظت القرية على صوت مناد قادم من بعيد ينعق بأعلى صوته ويقول:

"ماتت قريتنا وعاشت قريتنا، راح العسكر، راح العسكر... لكن، صوت المنادي كان مألوفا، ذلك النعيب هو الذي أعلن أيضا عن موت المطر ألف مرة والمطر لم يمت يوما، انما كان زائرا في مكان يمكنه النزول فيه كما يحب وحيث كان العسكر لم يكن يحب أن ينزل... كان المنادي من العسكر...

*

الحرية الاولى

ودعت العصفورة الأم فرخها وأوصته، ولأول مرة، الانتباه لجناحيه… تعجب الفرخ…

وكاد كلام أمه يثنيه عن الطيران، لولا أنه كان يتوق للتحليق…خلع عنه حيرته وطار محلقا بعيدا عن العش…

لكن ولأول مرة راح يتأمل جناحيه ويداريهما من الريح ومن أغصان الأشجار…

وفجأة… ارتطم الفرخ بشجرة عريضة جدا لا يرتطم بها الا طير بلا جناحين…

لم تكن تلك أول مرة يطير فيها الفرخ من العش انما كانت أول مرة يطير فيها مقيدا بفكرة…

حين عاد الفرخ الى العش مكسور الجناح لم تتفاجأ العصفورة الأم فقد تحققت نبؤتها

في الشمال، وبعد غياب طويل، تعلم الدوري ألا يحتل بيوت السنونو وأن البيت معناه أن تبنيه أنت وأن تلهو روحك فيه. بعد أن قتله الحنين الى ملاعب الطفولة عاد الدوري من رحلته الطويلة وأثناء تحليقه راح يبحث عن مكان يبني فيه عشه. أعشاش السنونو الجميلة كانت تغريه كلما وقعت عيناه على عش من تلك الأعشاش، ولكنه تمسك بما عقد العزم عليه "لا احتلال لبيت ليس لك".

في الجانب الآخر كانت كل سنونوة، يمر الدوري من فوق عشها، تترك العش وتطير بعيدًا... ويبدو بالنهاية أن الدوري لم يستطع المقاومة أكثر... مر أمام عش احدى السنونوات، التي طارت مُباشرة من بيتها عندما رأته يُحلق فوقها، ليدخل الدوري البيت فقد أنساه هروب السنونوات كل الدروس التي تعلمها في الشمال...

*

قمر الشام الهارب

قالت لي الشمس يوما أنها ظلت تلاحق قمر الشام من مكان الى مكان وتسأله، من سرق أحلام الأطفال؟ من سرق أحلام الأطفال؟ لكن القمر صار يهرب من مكان الى مكان وحتى اللحظة لا زالت الشمس تلاحقه، ولكنها لا تدركه ليبقى السؤال في حلق السماء. من سرق ويسرق أحلام الأطفال؟

*

بلاد الأحلام

حين ينتظر الأطفال الشهداء الأطفال الداخلين من النوم الى بلاد الأحلام ماذا يقولون لهم؟ وان رأوهم خائفين من الاستيقاظ من الحلم ماذا يقولون لهم؟ وحين يبقى الأطفال الشهداء في بلاد الأحلام ويعود الأطفال المستيقظين من الحلم ماذا سيقولون لنا عنهم؟ أخالهم مقبلين علينا بأعداد النجوم ليقولوا لنا انهم أروع من في بلاد الأحلام لماذا سمحتم أن يسجنوهم منذ الآن هناك. وأقول، من يمكنه ان يخرج صورة الأطفال الشهداء في مجزرة الحولة من رأسي ومخيلتي وأعطيه كل أحلامي الجميلة؟

*

كابوس الملك

استيقظ الأسد، ملك الغابة يوما مكتئبا من كابوس راوده في الليل اذ رأى أن حيوانات الغابة تنقض عليه وهو في غفوة وتقطعه اربا وهو الذي كان يدرك أن الخوف الذي

زرعه في نفوس حيوانات الغابة يحتاج دهرا لأن يزول وينتهي. حين استيقظ صباحا استدعى كل حراس المملكة من الضباع والذئاب وكل الحيوانات التي كانت تدين له بالولاء الأعمي وأمرها أن تبيد كل تلك الحيوانات التي تراءت له في الحلم.

تم للملك ما شاء فنجى من نجى من الحيوانات ومات من مات لكن الحقيقة الواضحة كانت أنه لم يتبق في تلك الغابة الا ملك الغابة وأعوانه وحراسه وكلهم كانوا من محبي اللحم واللحم لا يهطل من السماء، بل يؤكل من خاصرة وأطراف وأحشاء الحيوانات التي لم تعد موجودة في الغابة لذا، ما كان من تلك الحيوانات اللاحمة الا أن بدأت تنهش بعضها بعضا الى أن ماتت جميعها. لكن، لكي تكون نهاية قصتي سعيدة كما تحب حكاياتنا أن تنتهي... تقول الحكاية أن من هجروا الغابة عادوا اليها بعد أن صارت أنقاضا وأعادوا بناءها من جديد والآن يعيشون هناك بسلام وأمان.

*

يا صديقي

لا تختر الموت بعد يا صديقي فحتى الحرب تكره نفسها... ليلنا الطويل على انتهاء فانهض ونادي على كل المروج الخضراء التي اختبأت؛ أن تعود... وان كان الحراس، العبيد، لا زالوا في الطرقات، اقرع باب السماء، ثلاث مرات، فينزل المطر؛ وينمو مكان الحراس شجر، شجر لا يورق حرساً، بل المزيد من الشجر...

*

زهرة وطير وشمس

كانت الزهرة على مرمى رمق واحد من الذبول، لولا أن طيرا قادما من الشرق حمل اليها قطرة ماء في فم عطش للأمان وشعاع شمس واحد باق من ألف جيل.

تبسمت الزهرة واستجمعت قواها ورفعت رأسها ملوحة، للطير والشمس، بما تبقى لها من أوراق، بعد حين، صار الماء وفيرا وأشعة الشمس التي كانت تختبىء من برد الليل كانت تعود مع الفجر مسترقة النظر من بين الغيوم. الا أن طير الشرق عاد هذه المرة متكئا على غيمة وكان يومىء من بعيد أن خذوا عني رأسي وريش جناحي واتركوني أنام.

حوم الطير حول الوردة ونام تحت ظلالها وجاءت الريح خلعت عنه جناحيه وسافرت بهما بعيدا.

بعد أيام عاصفة خرجت الشمس من وكرها العتيق فلم تجد لا الزهرة ولا طير الشرق ومذاك اليوم بقيت في تلك البقعة شمس واحدة وكثير من التراب وبعض الشجيرات التي فقدت حسها مع زوال كل ما حولها ومذاك كانت أول ولادة للصحراء.

*

كل السهام أحرقت كل الخيام ولم نعرف أي سهم اخترق القلب أولا... لكن الياسمين ياسمين والشوك شوك... حكت لي جدتي مرة أن البلاد التي تزين سماءها عناقيد النجوم الصغيرة والكبيرة هي بلاد كان يوما يملؤها الطغيان وبعد حين صارت جدائل ورد وريحان.

 

*

هذا ليس ذات الطفل

مُنذُ زمنٍ لم يحدث أن رأيتُ ذلك الطفل يضحكُ، ليس هذا وحسب، سمعته اليوم يصفّر مترنماً، رغمَ أنه يوماً لم يُظهر حُبًا للموسيقى، لكنه كان سعيدًا على غير عادة، احترت، ومن فرط حيرتي قلت: أمر عليهُ بناظري من رأسه حتى قدميه، وهناك وجدت الجواب، كان ينتعل حذاءً جديدا غير ممزق، ومذاك صار يحب الموسيقى.

*

ثرثرة

كيف أصبح لون الخريف لدينا، يا ترى؟ أيمكنك أن تستحضر تلك الذاكرة الى هذا المكان الآن، هل تعتقد أن شمسنا لا زالت تشرق كالمعتاد ولا زال الهواء صافيا؟

-لا أعرف، يراودني حلم كل ليلة، أرى شمسا ليست كالشمس التي كانت تقودني كل صباح الى بستاننا العالي، أرى الخريف أكثر هديرا وكآبة، والريح ما عادت تكتفي باتجاه واحد تدخل منه، لكن، في الحلم أيضا، أرى أطفالا صغارا يشبهوننا، يحاولون بناء هرم بأجسادهم، كما كنا نفعل أنا وأنت وأصدقاءنا، هل تذكر؟

-أجل، بالطبع، كيف لا أذكر؟ لقد كان ذلك الهرم الطفولي الذي شكلناه بداية لمشوار لا تزال تفاصيله حاضرة حتى اليوم، ربما تباعدنا قسرا، لكن، الهرم لا زال حاضرا في مخيلتي، أتعتقد أننا كنا على صواب؟

-كيف، لم أفهم؟

-حين طورنا لعبة الهرم، وتجاهلنا أننا أطفال، وأردنا لهذا الهرم أن يصبح أكثر من مجرد لعبة؟

-لم أفهمك بعد...

-يا إلهي، كم أنت بليد، أخشى أن يزل لساني، افهمني، أرجوك، الهرم، أنا وأنت ورفاقنا الذين كنا نلعب معهم.

-آه، فهمتك.

-الحمد لله.

-لا أعرف، أحيانا، أشعر أن ذلك الهرم كان مقلوبا، يرتكز على قاعدة حادة، لا يمكن الانطلاق منها الا للأسفل، وكلما حاولنا إعادة المحاولة كان رأس الهرم يغور عميقا في الأرض. وأحيانا كنت أشعر أن في الهرم أحجار ثابتة وراسخة، في يوم ما، ربما ستعيد ترتيب الهرم.

-لا بأس، أخبرني، هل اشتقت لحبيبتك؟

أنا، أي حبيبة؟

لا تكذب، ألم نتعاهد؟ لا كذب بين الأصدقاء، الحب سر يجب أن يعرفه العالم لأن الحب يولد الحب. ألسنا هنا لأننا نحب؟

-ليست حبيبتي، انها صديقتي، منذ الطفولة، لا أعرف، أتعتقد أنني أحبها؟

-تسألني أنا، غريب أمرك، ألا تعرف ان كنت تحبها أم لا؟

-لا، لا أعرف، لكنني الآن أحس أنني لا أريد أن أرى غيرها، أتعلم؟ لم أكمل الحلم، جيد أنك ذكرتني، رأيتها في الحلم وهي توصد النافذة بقوة، مانعة الريح من احتلال غرفتها الى أن مل الانتظار فتركها وانصرف، وبقيت هي متربصة به ان حاول العودة من جديد، كنت أنا حينها أنظر من مكان ما، لا أعرف أين كنت، شعرت أنني أعين كثيرة ترصد المكان، لا وجود لي الا من خلال ما أراه، فما تفسيرك؟

-تحبها.

-حقا؟

-يا لك من أحمق.

لماذا؟

-انظر كيف أصبحت، وكأن لك جناحان وأنت تتكلم، لا تحبها؟ أنت أكثر من تحبها. عهدت فيك الحب لأشياء كثيرة غير نفسك، ورأيت فرحك عندما تحب أي شيء، لكن، هذه المرة للحب الذي تنطق به طعم آخر. أنت عاشق ولهان.

-حقا، أتعتقد أنني كذلك؟

أجل، وأكثر، أتعرف؟! ربما الأفضل أن أحاصرك دائما بالأسئلة وأهدم ذلك السور الذي تغلف به قلبك وتبوح لي بمشاعرك الجميلة.

-لا، أرجوك، يكفينا حصار واحد وملايين الأسئلة وآلاف الدقائق. دعنا ننام، سنكمل حديثنا غدا، لأن أحدا منا لن يهرب من الآخر، حتى لو كان ذلك جل ما يتمناه.

-حسنا، جيد أننا في هذا المكان، ولدينا متسع من الوقت لنتحدث قبل أن نعود لنرى الشمس كما يحلو لنا وبالقدر الذي نشاء دون صفارة تعلن انتهاء استراحة الشمس. تصبح على خير.

-وأنت من أهله.

*

رقص السنابل

كان جدي يلفظ، ربما، آخر أنفاسه ويعد حبات القمح في البيدر، كان يبتسم، بما استطاع أن يسرق من أنفاس، كان القبر أقرب اليه من القبر وكنا جميعا نجلس في صمت مطبق.

ربما كنا نعد عليه أنفاسه أو نحاول التمسك بما تبقى لنا من أمل في صمت. وحده جدي كان سعيدا، على الأقل أسعد منا نحن الذين غادرتنا السنابل منذ زمن بعيد منذ صار بيت جدي بلا مناجل.

في تلك اللحظات، غادرتُ مع جدي الى البيد، لم أكن هناك، لكنني رأيت كل شيء. وتذكرت شكسبير بلهفة، أجل، فالبيدر كان مسرحا كبيرا، بحجم راحة الشمس وحريتنا وما فقدناه منها عبر الأثير ودونما توقف أو مقاومة أو حتى تساؤل لا سؤال، لم تكن هنالك مقاومة لأحد لأنه لم يكن هنالك جلاد حاضر، كحضور جدي، انما كان الجلاد يعشعش في كل زاوية من الزوايا، كان حاضرا بسوطه غير المرئي...

رأيت جدي خائفا، انما كان يحصد وكلما خاف أكثر حصد أكثر وأكثر وأكثر... كان الخوف يرقص في الهواء، حقيقة لم أره، فأنا لم أكن هناك، أين كنت؟ آسف، لا أعرف، حقيقة لا أعرف، لكنني رأيت مسرحية الحصاد، كانت السنابل تتمايل وترقص للمنجل، تتمايل وترقص للمنجل فيقتلها، تتمايل فيقتلها. خلف المناجل كانت لاقطات القوت، الطبول، الحصادات البشرية، الأيدي، الآغاوات، وخلف كل الجوقة رأيت عشرين طفلا يسابقون الريح لما تبقى من القمح الهارب من تحت النعال والجيوش الزاحفة على السنابل، ونحن في الغرفة كنا سكارى، فقد كان الشعير في بلادنا وفير.

خدعني جدي، كان يهرب بفرح، تذكر القمح لكنه لم يتذكر البيدر، الآن عرفت أين أنا، أنا ونحن الآن في البيدر وجدي صار حبة قمح ستكبر وتكبر وتصبح سنبلة تتمايل للمنجل ويقطعها المنجل، لكن جدي قال لي مرة هامسا، حين كنت طفلا لا يفشي السر: "يا حفيدي الغالي فلتشهد أنني لن أقبل بعد اليوم أن أكون فلاحا بالأمر، لن أستيقظ بأمر، لن أفرح بأمر، لن أتعب بأمر".

جدي الآن صار سنبلة، غريب أمرك يا جدي، أي سنبلة أنت وفي أي مكان نزلت، في أي بيدر، هل تراك تسمع قرع الطبول؟ جدي... جدي... جدي... تصبح على خير، بل صباح الخير، بل الى اللقاء في بيدر آخر...

عدت في ذلك الحين وبقي جدي، أجهش الجميع بالبكاء بينما بقيت أنا هادئا، صامتا، أردت أن أودع جدي بابتسامة لكن، كان الرقيب يرصدني، حيث لا ابتسام مع الموت، يجب أن تحزن بالجزمة، فالموت ليس كتحول الجليد الى ماء، أنا أؤمن أنه كذلك.

*

أنا والليل

أذكر وفي ليلة شتائية، كالحة،  أنني حين كنت أهم بالعودة من العمل، سمعت مواء قط لكنني لم أعرف أين هو ذلك القط، كان المواء هو الصوت الوحيد في ذلك المكان، كنت أعرف أنه قط فلا الكلي يموء ولا الذئب ولا الانسان، انما كان القط مجرد صوت، وبالطبع في الشتاء تدور رحى الخيال، فتخيلت أن هذا القط يتربص بي، رغم أن حجمي يفوق حجمه، لكن، لحسن الحظ قمعت خيالي وبقيت أنتظر كشف مصدر الصوت، لم يخطر ببالي أن هناك شجرة قربي وأن القط متسلق جيد، لكنه متسلق عن حق وليس كغيره، المهم أن القط كان هناك، لكنه لم يكن يموء علي بل كان هناك شيء متكتل أمام ناظري، لم أره بداية، لأنني كنت منشغلا بالبحث عن القط، لكنني الآن رأيته بوضوح، رأيت الكتلة، وصرت أنا والقط خائفان من ذلك الشيء الداكن الماثل أمامنا بكل جبروته، لا يتزحزح، الغريب أن القط لم يعد يخاف مني ومن تحركاتي، فكل ما كان يشغل تفكيره هو ذلك الشيء المخيف المرعب، ترى هل كان يدور في خيال القط ما كان يدور بخيالي، بأن ذلك الشيء الرهيب، والذي حجمه أقل من حجم القط، هو مخلوق مخيف غريب يمكنه ابتلاعي في لحظة أم أن خياله كان أوسع من خيالي، الأكيد أننا وقفنا على مسافة واحدة من ذلك الشيء الداكن، انما أنا كنت أسفل الشجرة وهو فوقها.

مرت اللحظات بصمت وخوف وكأن كل مدافع العالم موجهة الى تلك المساحة الضيقة، كان الليل يسرع أكثر فأكثر، وها أنا أقف هنا منذ ساعة وليس في رأسي الا أسئلة الندم، لماذا تأخرت في العمل، لماذا لا أحمل معي مصباحا، لماذا ولماذا ولماذا، ولا بد أن تلك كانت حالة القط فقد كان يسكت بين الحين والآخر ولا بد أنه كان يسأل نفسه الأسئلة ذاتها انما من وجهة نظر مختلفة، لكن الغريب أن القط يمكنه أن يقفز على السطح المجاور وينزل من الجهة الأخرى وينجو انما أنا ليس لدي الا هذه الطريق لأسلكها، لماذا اذا يا ترى لا يهرب، ربما كان يستعد اذا لمواجهة ذلك الشيء، لم يخطر هذا ببالي الا الآن، صحيح، وأنا أيضا ما عاد بامكاني الانتظار، نظرت الى القط وكأنه شريكي في معركة دقت ساعة بدئها، حملت بيدي حجرا وحملي ساقي وقلبي وعقلي وتقدمت دفعة واحدة وأصبحت أمام ذلك الشيء الداكن، يا للهول، انه حجر فقط!!! حجر حولته العتمة الى وحش بحجم راحة اليد، نظرت خلفي لأجد القط لا زال مكانه انما استطعت الآن أن أرى قطة الى جانبه وكانا معا يتقربان القمر حين يطل تارة ويختفي تارة بين الغيوم وكلما كان يظهر كان القط يموء وحين يختفي كان يسكت ويحدق أمامه وكأنه خجول أمام حبيبته من غياب القمر، لعله لا يحسن كلام العشق الا بظهور القمر... لم أعرف ماذا أفعل هل أغضب من نفسي أم من القط أم... لا أعرف... نظرت حولي، لأتأكد أن أحدا لم يرني وحين اطمأن قلبي، نفخت صدري ومشيت بعزم الى سيارتي.

*

الأبواب

1. إن الباب بين زنزانتين يفتحهما شرطي ويخرج، يصبح طاقة للحرية انفتحت لجهتين، كل واحدة منهما نهايتها جدار وسجن آخر... غريب أمر الأبواب...

2. باب الصف في مدرسة بنات، في قطر شقيق أو صديق، هو آخر مكعب اسمنتي توضع خلفه نصف أمة، إن لم يكن أكثر، ولن أتحدث عن كل الأبواب في مدارس البنات في تلك الأقطار، غريب أمر الأبواب...

3. باب زريبة الأبقار يدخله مخلوقان مختلفان أو أكثر، ينام المخلوق الأول في الزريبة، ونصف الباب مفتوح، ويحلم بالسهول والمراعي. بينما يدخل المخلوق الثاني من باب آخر، ويوصده خلفه وينام فوق سريره، ولا تخرج الزريبة من رأسه... غريب أمر الأبواب...

4. كان باب الحديد يقف هادئا كعادته، يتأمل الباب الزجاجي أمامه، ويتحسر على حاله، بينما يرمقه الزجاجي بنظرات الاشمئزاز، وكأنه سلطان عليه. كيف لا، وقد عُيين الحديدي حارسا على الزجاجي؟ ورغم أنه لا حياة للباب الزجاجي بغياب الحديدي، لم يكن يمضي يوم واحد دون أن يهزأ الزجاجي من باب الحديد، وفي يوم ما، نسي ابن مالك البابين، باب الحديد مفتوحا، فهبت ريح قوية عصفت بالزجاجي، ليصطدم بالجدار ويتناثر شظايا. الباب الحديدي خاف، رغم ذلك حدقت شظايا الزجاج بالباب الحديدي وقالت له "أخبرني، ألم تمل مكانك بعد؟". ..

أليس غريبا أمر هذا الباب؟

5. كان صديقي حين يدعوني لزيارته في جامعة القدس، يملأ رأسي بالحديث عن الأبواب، لدرجة أنني كنت أشعر أنه لا يوجد بشر في القدس، بل ان كل القدس أبواب تلو أبواب. أخيرا، زرت صديقي في القدس، ودخلنا من كل الأبواب، أو البوابات، كان صديقي محقا، لكن، أدركت ان الأبواب أو البوابات هناك مختلفة، لماذا؟ لا أعرف، حتى أصوات صريرها مختلف، لكن، كلها أبواب. والغريب أنني لم أشعر أنها أبواب، فالباب يُقفل ويُفتح، أو يُفتح ويُقفل، لكن تلك البوابات ظلت مفتوحة، رغم الشعور العام بأنها مغلقة، وأنك تخترقها بقدرة خارقة للطبيعة، دون أن تراك، لكن بقدرة خارقة للطبيعة الخارقة يراك الحراس... كانت الرحلة جميلة...

6. كان لأحد الملوك ابنا بارا، أراد تخليد ذكرى والده الذي مات غرقا، بعد أن تحطمت سفينته أو سفنه أو أسطوله، أي أقصد لم يجد من ينقذه حينها، رغم أنه ملك. المهم لم يجد الابن فكرة لتخليد ذكرى والده، إلا أن ينتقم من البحر. لذا، فرض حصارا عليه، وأنشأ حوله سورا عاليا لا تقوى الطيور على تجاوزه. وكم كان سعيدا حين انتهى من بنائه. حتى أن دموعه انهمرت بغزارة، لأن والده الآن سينام مرتاح البال، ولأنه أصبح متأكدا أنه، حتى لو أراد أن يهدم هو ذلك السور فلن يستطيع. سكان المملكة كانوا سعيدين لسعادة ملكهم، لقد ساعدوه جميعا، وتركوا أعمالهم لكي يحققوا حلمه، لكنهم جميعاً وبما فيهم الملك، نسوا أن يفتحوا بابا في السور، فبقيت قوارب الصيادين خلف السور، والمملكة كذلك. كانت الأسماك قوت المملكة، لكن الأسماك صارت خلف السور. فمات الجميع وحتى الملك، وبقي السور وذكرى الملك المعظم.

*

ذاكرة

كنت طفلا فضوليا لدرجة لا يمكن تصورها، كان بالقرب من بيتنا جدار عال، لا مكان لاختراقه الا ذلك الفضاء الذي يلتف بخيوط فارغة تصل الى السماء، وبالطبع كان توقي شديد لمعرفة ما الذي يختبىء خلفه، لكن، حجمي كان لا يعادل حجرا من أحجاره المتزاحمة، قلت، حين أكبر، أخطو فوقه، لذا، رحت أراقب ارتفاع قامتي كل يوم ،  من خلال أي مرآة أو بقعة ماء تقع فريسة ناظري ومن ثم أهرع الى جانب الجدار لأقارن قامتي بارتفاعه ، باختصار سيطر الجدار على  حياتي ، وكم كنت أحزن حين أدرك أنه كلما ازددت طولا كلما رأيته يرتفع أكثر فأكثر، لذا، قررت استخدام عقلي حين خلصت الى أن جسدي لن يقاوم ذلك المارد،  وأن رغبتي بأن أخطو فوقه لن تتحقق، جمعت كل الأخشاب التي تطالها يدي ورحت أصنع سلما امتد لمسافة تكبرني بست مرات، ما جعلني أدرك أنني الآن بحاجة لجسدي ثانية، وهذا يستدعي مني أن أسترضيه، لأنني تخليت عنه سابقا دون أن أدرك كم أنا بحاجة اليه، ولم يخذلني، لكنه بالاقناع جعلني أطلب مساعدة خمسة أجساد أخرى بحجم ذلك السلم، وكان أن حققت له ما أراد، رفعنا السلم، وكم كنت سعيدا حين رأيت حافة السلم تعانق أول خيط فضاء ملقى على قمة الجدار، أسرعت بتسلق درجاته وعند كل درجة كنت أطلق صيحة فرح، نجحت! نجحت! سأرى ما خلف الجدار! مرحى! مرحى! تحقق حلمي! وعند آخر درجة، أدرت ظهري، نظرت خلسة وببطء لئلا أصاب بذهول لما سأراه من أشياء رائعة خلفه، ألتفت على مهل لأمتص الصدمة. ومع كل التفاتة ضوئية كانت الأحلام تجتمع بعقلي محدثة متعة لا تعادلها متعة. وفجأة، رأيت لا شيء، لا شيء خلف الجدار. لا شيء، اكتشفت أنه جدار تقف عنده الحياة ويستحوذ على العقل، شعرت بالهزيمة والغباء في آن، ويا لهول الصدمة، شعرت أنني سأسقط، لكن، أدركني جسدي، احتضنني، حملني بصعوبة ونزل بي درجات السلم الواحدة تلو الأخرى، دون كلمات، الى أن لامست قدمي الأرض.

*

تأملات ورق التوت

كانت البومة تتنقل من مكان الى مكان في الغابة تروي الحكايات لكل من يطلب منها ذلك، فالرقود كان أكثر ما تحب، سرد الحكايات كانت ذريعتها لتقنع حيوانات الغابة أنها ليست كسولة، بل ان ضرورة سرد الحكايات بشكل هادىء أمر هام للغاية ولا يجوز أن يتحرك راوي الحكاية كثيرا لأن ذلك يؤثر على تركيزه ومن جملة حكايات البومة كانت حكاية طالما أثارت فضولي، وهي حكاية ورقتي توت كانتا تنتظران عصف الريح، وتقول الحكاية كما سردتها البومة.

كنت يوما أحلق فوق شجرة توت باحثة عما أسد به رمقي واذ بورقتي توت شاحبيتن واحدة صغيرة والأخرى كبيرة تتبادلان الحديث، ولأنني أحب الحكايات، شعرت بالفضول وأدركت أن فوق أغصان هذه الشجرة حكاية، اقتربت منهما، ولاحظتا وجودي، لكنهما لم تتوقفا عن الحديث، فأدركت أن الأمر ليس سرا وأن بامكاني البقاء دون أن أزعجهما، دخلت تقويرة في الشجرة جهزت ذاكرتي وسمعت ورقة التوت الصغيرة تسأل مرتجفة جارتها ورقة التوت الكبيرة:

يا جارتي العارفة، أتعتقدين أن الغد سيكون يوم موتنا؟

- لا أعرف، ربما، وربما لا، الأمر متعلق بالريح.

إذا، طالما أن الأمر متعلق بالريح فهو الموت على أي حال؟

- ربما وربما لا.

وكيف، سألتك سابقا ولم تجيبي، هل سقوطنا يعني موتنا؟

-ربما وربما هي حياتنا، ربما نورق من جديد وربما لا.

دائما تجيبينني بربما، أوليس لديك إجابة أخرى؟

-بلى، لكن، المشكلة بمعنى الموت لديك.

ماذا تقصدين؟

-أنا كنت أسقط ومن ثم أعود أسقط ومن ثم أعود، تأخذني الريح برحلة من مكان الى مكان، يفتتني كل عابر سبيل، ولكن في فصل الربيع كنت أعود خضراء من جديد لكنني دائما أشعر بالموت.

وكيف، طالما أنك تتنفسين من جديد؟

-صحيح، كنت أتنفس من جديد، ولكنني لم أكن يوما صاحبة الخيار، أشرب ما يقدم لي وأطبخ ما على أن أطبخه وأترك بيتي متى تشاء الريح، وتدوسني كل أنواع الأحذية دون أن أرفع صوتي، هو الموت اذا.

وماذا عني؟ انه عام تساقطي الأول وأنا خائفة، بعد قليل تجيء الريح، تقتلعني من مكاني بمؤامرة محاكة بين كل الفصول وبين كل الأشجار، نحن الأوراق فقط من لا حول لنا ولا قوة، دائما نحن المفعول بنا، ولكن، طالما أنني سأعود لآكل وأشرب واتنفس وألعب مع نسمات الصباح، إذا، تساقطي لا يعني موتي، أليس كذلك؟

-ربما، ربما، ربما...

وهنا كانت البومة تنهي حكايتها دائما رغم أنني في كل مرة كنت أشعر أن هنالك بقية لم ترويها بعد، ودائما كان الشعور الذي يتملكني هو أن البومة نامت في آخر الحكاية لتبقى كلمة ربما حائلا بيني وبين نهاية الحوار...

*

عندما سكت النهر

سكت النهر عندما قالوا له سنحول مجراك الى بركة جميلة نزرع حولها الورود ويسبح فيه الكبار والصغار وننظف ماءك كل يوم دون ان تظل تدور وتدور وتدور. سكت النهر وصدّق الحكاية فصار بركة ماء مرصوصة ومحاطة بالاسمنت خالية من الحصى وقاعها لا تلهو فيه الأسماك ولا تنبت فيه الأعشاب وشيئًا فشيئًا نسي اسمه انما ظلّت تراوده منامات كل ليلة عن مياه متدفقة لا يحدّها جدار تجري في كل مكان، ولكن عندما يستيقظ من المنام لا يتذكر اسم تلك المياه المتدفقة.

*

حكمة الطيور

وعلّمتني الطيور أن أبحث دائمًا عن مكانٍ أفضل وبأن الوطن يسكنك ولا تسكنه وأن بين الهجرة والهجرة وطن واحد وأوردة تمتد في كل الكون... سأكون يومًا ما أكبر من الأنا والمكان والوطن...

إياد علم الدين مدّاح

مُترجم وكاتب أدب أطفال من قرية مجدل شمس في الجولان المُحتل صدرت له عدة قصص باللغة العربية، منها  "نيروز"، "عصفور وسمكة"، "قرية وقمر مستدير"، "رسالة إلى ملكة الغابة"، "لو كنتُ"، وقام بترجمة عدة قصص أطفال من اللغة العبرية والانكليزية للعربية ضمن مشروع مكتبة الفانوس منها، "دحداح وطنّان"، " ابتسامة أمير"، "لماذا أشعر كل ليلة بالتعب"، "أرنوبية"، "النشال الصغير"، "زحزوحة وشمس"، "شجرة الكتاب"، "مفاجأة"، وغيرها، كذلك تمت ترجمة  قصته "عصفور وسمكة" للغة الألمانية ضمن مشروع للمعهد الأفريقي الآسيوي في فيينا/النمسا.

شهباء
رائع بحق.. اياد الانسان المليء بالحرية والعقل المنفتح اللا محدود.. اياد الذي يحب الوجود ويؤمن بالخيال الجميل، الذي يطمح للافضل دائمًا وأبدًا، الذي يرى تفاصيل كثيرة لا يراها العابرون.. لمزيدٍ من النجاح والتألّق 🙏🙏
الجمعة 1 أيلول 2023
شاركونا رأيكن.م