دور المثقف وتربية الأمل
تجتاح المجتمع الفلسطيني في الداخل موجة من انهيار القيم وفقدان الثقة؛ وانصراف التفاؤل، عدم الوضو واليقين، عدم الأمان الشخصي والجماعي، فوضى الراهن، استقالة الارادة، النزوح عن الجوهر، التسطيح، تفشي الانتهازية والفردانية، نظام التفاهة، الظلم، الاستسلام والتسليم، وتردّي الحيز العام، الانشقاقات والعصبيات، وظواهر ومشاعر أُخرى. جزء ممّا ذكرنا متعلق بالنظامِ الاجتماعيّ الداخليّ وآخر متعلق بالعلاقة مع الدولة وعلاقات القوّة، الاستبداد الاحتلال، القهر، الهيمنة، الإنهاك، والقمع. إذ أنها تتمظهر جميعها كما لو كانت قَضاؤنا الحتمي ولا يمكن تغييرها.
دون الإسهاب حاليًا في عرض أسبابها المتعددة مع التأكيد على دور العولمة والهيمنة الأميركيّة، الحداثة والتقنية، السياسات العنصرية، الاستعمار الإحلالي، تراجع القيادة في جميع المستويات، ثقافة الاستهلاك، وضعف المرجعيات الفكرية والأخلاقية، في تفاقم هذهِ الظواهر. إلا أن هنالك تقصير من قبل جهاتٍ وقوى كثيرة في أخذ دورها وتحمّل مسؤولياتها في سبيل إصلاح الوضع القائم والتغلب على المعيقات وتغييره، ومن بين هذه الفئات هي فئة المثقفين العرب في الداخل التي نهدف إلى تسليط الأضواء عليها ودورها ضمن هذه المساهمة المقتضبة.
من هو المثقّف؟
رغم أن عدد الخريجين والخريجات العرب من مؤسسات التعليم العالي والحاصلين على الشهادات الأكاديمية الرفيعة آخذ بالازدياد بشكل لافت ومشرف، في السنوات الأخيرة، إلا أن هذه الظواهر السالف ذكرها آخذة بالتفاقم والاتساع أيضًا. صحيح ليس بالضرورة أن يكون كل متعلّم وصاحب معرفة هو مثقّف، بينما زيادة أعداد الأكاديميين المنخرطين في الحقل الثقافي يحسّن إمكانات التغيير الاجتماعي.
وما دمنا قد افترضنا أن هنالك تقصير من قبل المثقفين، وزيادة عددهم وتفعيل دورهم يمكّن إحداث التغيير المرجوّ، من هنا نعرض بعض الأسئلة الملّحة؟ هل هنالك دور للمثقف في التعاطي مع الأزمات والمُشكلات التي أسلفنا ذكرها أعلاه؟ وما المتوقع منه من أجل المساهمة في التحرّر منها؟ ولكن قبل أن نباشر في الإجابة على هذه الأسئلة يترتب علينا تدقيق المفهوم وتعريف من هو المثقف.
عُرّف "المثقّف" من قبل مجموعة من المفكرين العرب، مع العلم على أننا لن نستطيع الإحاطة في جميع التعريفات في هذا السياق. لنبدأ من قولِ المفكّر محمد عابد الجابري: "إن المثقف هو ناقد اجتماعي، إنه الشخص الذي همّه أن يحدّد ويُحلل ويعمل، من خلال ذلك على المساهمة في تجاوز العوائق التي تقف أمام بلوغ نظام اجتماعي أفضل، نظام أكثر إنسانية وأكثر عقلانية، إنه بذلك يصبح ضمير المجتمع"، كما يقول: "هم أولئك الذين يعرفون ويتكلمون ليقولوا ما يعرفون، وبالخصوص ليقوموا بالقيادة والتوجيه في عصر صار فيه الحكم فناً في القول قبل أن يكون شيئاً آخر".
أما المفكّر برهان غليون فيرى أنّ "المثقفين هم تلك المجموعة من الناس التي تتميز من غيرها بأنها تجعل من التفكير في الواقع والسعي إلى المصلحة العامة أحد همومها الرئيسية وتشارك في الصراع الاجتماعي والسياسي من أجل تحريك هذا الواقع".
إضافةً إلى ذلك هو تعريف المفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد والذي تعتبر إسهاماتهِ في تعريف الثقافة والمثقف الأكثر أهميةً وانتشارًا عالميًا، إذ أنّ المثقف بالنسبة لسعيد "أن يبقى في حالة معارضة دائمة لمواجهةِ السلطة، كما يتوجّب عليه أن ينأى عن الانتماءات الضيقة للنزعات- الإثنية، والقومية، والدينية لأن هذه الانتماءات المتقوقعة والمنغلقة لها عواقب وخيمة تجعل المثقّف يحيد عن مسار العدالة وقول الحقيقة".
لقد ساهم الكثير من المفكرين في تعريف وضبط مفهوم المثقف على سبيل المثال لا الحصر، أنطونيو غرامشي وجوليان بندا وجون بول سارتر وميشيل فوكو ومحمد عمارة وعلي شريعتي وطه عبد الرحمن وفؤاد زكريا وهشام شرابي وهشام جعيط وعلي حرب ومحمد حامد الأحمري وطه حسين وعلي الوردي وزكي نجيب محمود وعبد الوهاب المسيري وآخرين. وأُجريت تصنيفات عدة مثلًا "المثقف الرسولي" و"التقليدي" و"العضوي" و"المشتبك" و"الفرداني" و"المجتمعي"، والخ.
باعتقادي أن المثقف ليس نبيا ولا مُخلّصًا، ولكنه قادر على التأمل في الواقع ورصده، فهمه وتفكيكه ومن ثم المساهمة في إعادة إنتاجه من جديد. ولذلك فالمثقف قادر على الربط بين الفهم النظري والتداخل العملي وهذا ما يميزه عن غيرهِ فبمقدوره الدمج بين القول والفعل من أجل التأثير على الواقع للأفضل، فهو مشغول ومهمومٌ بشكل دائم في الشأن العامّ ويقوم بالفعلِ والممارسة بحسب مفهوم الفعل "Action" عند الفيلسوفة حانة أردنت، من حيثُ شعوره بالمسؤولية والالتزام من منطلق الإيمان العميق بالحرية والتنوّع.
القطيعة ودور المثقّف
تسود القطيعة بين بعض المثقّفين والنخب من جهةٍ، والجماهير من جهةٍ أخرى، لأسبابٍ متعددة منها أوهام النخب، والرؤيا الطوباوية والانعزال والاستعلاء والزعم بـ"عدم وجود لغةً مشتركة" وتراجع في فهم المثقف لدورهِ الاجتماعي، التنويري، التحرري والتوعويّ. ولذلك المهمّة الأساسيّة هي إعادة الربط بين المثقف والجمهور، ودون ذلك ستتفاقم الظواهر المذكورة سالفا. من هذا المنطلق توسيع حلقة المثقفين وتواصل المثقف بالمجتمع بمقدورهما المساهمة في إخراجنا ممّا نُعانيه من ويلاتِ ومصائب على المستوى الداخليّ وعلى صعيد المواجهة مع الدولة والأغلبية اليهودية.
يترتّب على المثقفين؛ أخذ دورهم في التاريخ، وتحمّل مسؤولية مصير المجتمعات والشعوب، وتربية الأمل والربط المتين بين العلم والعمل والقول والفعل، إضافةً إلى ذلك تربية العطاء للمجتمع والموازنة بين المصالح الفردية والجماعية، والتدرب على تجاوز المعيقات وتجاوزها فعليًا ثمّ التأكيد على ممارسة الخير والأخلاق والإبداع في خوض التجارب المدروسة والخروج من مناطق الراحة؛ والتعلّم منهما، والتفاؤل بالمستقبل وبناء الثقة ودومًا إحياء الارادة والعمل على التغيير للأفضل "فالإنسان الطيّب هو الذي يعطي الدنيا أكثر مما يأخذ منها" كما قال برنارد شو.
نحن لا نعيش الحاضر فقط، بل نعيش جزء من الماضي الذي نرثُ منه أمورًا كثيرة بحلوها ومرها، ونشكل مدماكا للمستقبل. فحركة التاريخ لا تتوقف، وإن لم نتحكم في حركتها قد تقودنا إلى محطاتٍ من الردى والانحطاط والعكس صحيح. في كتابهِ "العقل ضد السلطة" يقول المفكر الكبير نوعم تشومسكي، " إذا نحن تخلّينا عن الأمل واستسلمنا الى السلبية، كنا نساعد على حدوث الاسوأ؛ وأما إذا حافظنا على الأمل، وعملنا بجدّ واجتهاد للدفع بوعودهِ الى التحقيق، فإن من شأن ذلك أن يدفع بالأوضاع نحو الأفضل". في هذا الموقف الأخلاقي وكأن تشومسكي يتكاتب ويتناص مع تراثنا الروحي والفكري الذي يؤكد العلاقة المتينة بين الأمل والعمل فإذا أجهض اﻷمل انقطع العمل، ولذلك يجب أن نحيي الأمل ليتواصل العمل. ونخلص إلى أن المثقف الحقيقي هو الذي يحيى الأمل ويخلق الآفاق الممكنة فالراديكالي الحقيقي كما يقول ريموند وليامز "هو الذي يجعل الأمل ممكناً، ولا مَن يجعَل اليأس مُقنعاً".
ونجد في مقولة جبران خليل جبران الحكيمة بأن الحياة لا تتوقف "بسبب بعض خيبات الأمل، فالوقت لا يتوقف عندما تتعطل الساعة". مقولة محفزة ودافعة للعمل والإخلاص به ومن ثم الاستقامة والوفاء لأن التاريخ يتقدم إلى الأمام ويجب علينا أن نترك بصماتنا وأثرنا الطيب فيه، عندها سنغير في ذواتنا وفي مجتمعنا وفي العالم.