تُظهر الحفريات المعرفية الفكرية شهرًا إثر شهر وسنة بعد سنة، أن النفس الانسانية ميّالة لرواية الحكايات، القصص والاساطير لغايتي الفائدة والتسلية، ومَن يتمعّن فيما توارثته الانسانية من كتابات خالدة، في مقدمتها الكتب الدينية، يلمس لمس اليد أهمية القصة في تعظيم الامور وتوصيل ما في الصدور يمور. وقد لا نبتعد كثيرًا عمّا نود قوله إذا ما قلنا إنه في هذا السبب، يكمن سرّ التشابه بين أساطير الشعوب وحكاياتها المختلفة.. بَله الماضي المشترك بينها.. ممثلًا في هذا التشابه الدالّ. ويبدو أن هذا الميل الفطري لرواية الحكايات والقصص قد تأصل في النفس الانسانية مع تعاقب الفترات التاريخية، ليكتشف الاحفاد دهليزًا آخر لرواية القصص، تمثّل في حكاية الحكاية، وهكذا لاحظنا أن هناك ما لا يعدّ أو يحصى من حكايات وأقاصيص، حول هذه الظاهرة الطبيعية أو تلك، عن هذا الحيوان أو ذاك.. وكان أحدث ما ظهر مع انتشار وسائل الاتصال الاجتماعي، تلك القصص حول هذه الاغنية أو تلك وكأنما لا يليق بأغنية عظيمة، ألا تكون وليدة قصة عظيمة.. حافلة بالعبر والاسرار. 

المُتابع لأغانينا العربية المشهورة ابتداء من "الاطلال" شعر إبراهيم ناجي الحان رياض السنباطي، التي اعتبرها الكثيرون أغنية القرن العشرين، انتهاء بأغنية "لا تكذبي" شعر كامل الشناوي، الحان محمد عبد الوهاب وغناء كل من محمد عبد الوهاب ذاته عبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة، مرورًا بأغنية "ستّ الحبايب" كلمات حسين السيد الحان محمد عبد الوهاب غناء فايزة أحمد، بإمكان هذا المتابع الاطلاع على قصة طريفة رواها واحد أو أكثر وقفت وراء كلّ من هذه الاغاني، وها أنذا أحاول أن الخص كلًا من هذه الحكايات بجُملة أو أقل تاركًا لمن يحبّ التوسّع الابحار في عالم النت للمزيد من الاطلاع إذا أراد أو أحب، فقصة أغنية "الاطلال" كما رواها أكثر من شخص تتلّخص في أن صاحبها الشاعر ابراهيم ناجي ودّ أن يرتبط بالرباط المقدّس بحبية قلبه إلا أنه لم يتمكن لأسباب اجتماعية طبقية، وانه عاد بعد العشرات من السنوات ليجد نفسه في مصادفة أسطورية تمثّلت في أنه وقف طبيبًا أمام مريضة ما، ليكتشف أنها حبيبته التي ارتبطت بسواه.. فلم يكن أمامه من مفرّ سوى أن يتوجّه إلى محبوبهِ الشعر ليكتب قصيدته الخالدة الاطلال!! ونسي أو تناسى راوي هذه القصة أن أغنية الاطلال ما هي إلا تجميع بين أكثر من قصيدة لصاحبها!! مثل هذه القصة نقرأ عن أغنية "لا تكذبي".. وتروي قصة هذه الاغنية أن الشاعر كامل الشناوي كان سمينًا مُحّبًا للنساء غير أن النساء كن ينصرفن عنه، وتتطوّر القصة لتقول لنا إنه أحب نجاة الصغيرة في رواية أو اختها سعاد حسني في رواية أخرى، وأن هذه لم تُخلص له كما هو متوقّع، وخانته مع سواه، فما كان منه إلا أن يتوجّه إلى ملجئه في الحياة.. الشعر.. ليكتب قصيدته "لا تكذبي"، بأحرف من حُرقة ولوعة!! أما قصة أغنية "ست الحبايب"، فتقول إن صاحبها الشاعر الغنائي حسين السيد أراد أن يزور أمه حيث تقيم في أحد المباني القاهرية بمناسبة عيد الام، ويبدو أنه نسي أن يُحضر لها "عيديته"، فما كان منه إلا أن تناول قُصاصة ورقية وكتب عليها كلماته، لترى فيها أمه اغنية لطيفة وليتوجّه بها صاحبها حسين إلى صديقه الموسيقار محمد عبد الوهاب، ولتولد في اليوم ذاته واحدة من أجمل الاغاني العربية في القرن العشرين وربّما أكثرها انتشارًا..

لا أنتقص من قيمة هذه القصص، بالمرّة، هذا ليس قصدي، بقدر ما أود الاشارة إلى التركيبية الليجوية/ التركيبية الواضحة في كلّ من هذه القصص المروية حول هذه الاغنية أو تلك، ويُخيّل لي أن مُختلِق هذه القصة أو تلك إنما هدف لعدة أمور أشير فيما يلي إلى أهمها:

  • أنه أراد أن يجذبنا أكثر إلى الاغنية وذلك عبر إضفائه مجموعة من الخيوط القصصية المتشابكة والمحبوكة حبكًا محكمًا، وهو لعمري ما يهدف إليه الكاتب القصصي الحاذق عندما يشكّل ويكتب قصته. يؤكد هذا ويثبته أن العقل الانساني يميل إلى الحَبكة المترابطة ممثّلة في التسلسل المنطقي للأحداث.

  • أنه أراد أن يقول لنا إنه يوجد هناك في الحياة مصادفات طيّبة أو ساعات قدر تقرّر لنا ما لم يكن موضوعًا في حسابنا الخاص، وانه بإمكاننا أن ننتظرها.. فقد ننال بعضًا مما ناله صاحب هذه الاغنية أو تلك، وهذا مقصد نبيل قد يصرفنا للانفصال عن واقعنا اليومي المعيش والنعيم بأحضان أحلامنا الدافئة من ناحية إلا أنه لا يعفينا من العودة إلى الواقع وصدمته.

  • كما أنه أراد إضفاء هالة من التعظيم تساهم في جذب المزيد من الناس للاستماع إلى الاغاني، فهذه الاغاني لم تولد من مُخيّلة صاحبها الشاعر.. أو الشاعر الغنائي وحسب وإنما كمنت وراءها قصة إنسانية من طراز رفيع، الامر الذي يجعلها أكثر جدارة بالاستماع والاندهاش بها.

يؤكد ما نذهب إليه من الليجوية القصصية هنا، ظاهرة أخرى عرفتها البشرية في كلّ زمان وكلّ مكان، على ما يبدو، تمثّلت في تلكم الشخصيات التي عرفت واشتهرت في المجالات الساخرة وحتى المجالات القاسية، من هذه الشخصيات نشير إلى أشهرها وهو التركي نصر الدين خوجة المعروف بـ "جحا"، فهذه الشخصية هي شخصية تاريخية ولدت وعاشت بين الناس وعلى الارض، وعُرفت بحكاياتها المثيرة للسخرية والتفكير، كما يقول الكاتب العربي المصري عباس محمود العقاد في كتابه عنه، إلا أن شهرة هذه الشخصية، جعلت كلّ مَن هبّ ودبّ لأن يروي الحكاية تلو الحكاية عنها وكأنما هي حقيقية وسبق ووقعت لها، وهذا ينطبق على شخصية الحسن ابن هانئ / أبي نواس، الذي عُرف بخمرياته ومحبّته للغلمان، إضافة إلى استهتاره، فقد اختلق العديد من الرواة الحكايات تلو الحكايات مما حدث معه ومما لم يحدث أيضًا، حتى أن احد الرواة المبدعين أدخله إلى حكايات الف ليلة وليلة لنقرأ عنه القصص الفكهة الساخرة مع الخليفة العباسي المشهور هارون الرشيد وزوجته زبيدة.. بل وسيّافه مسرور. يرتبط بهذه الليجوية القصصية ليجوية أخرى جديدة مُشابهة، ساهمت وسائل الاتصال الاجتماعي في انتشارها، تمثّلت في إلصاق الاقوال والكلمات الرنّانة بهذا الشاعر أو ذاك أمثال نزار قباني أو محمود درويش، يدلّ على هذا أنك ما إن تقرأ هذا القول أو ذاك لهذا الشاعر المشهور أو ذاك حتى تتبيّن، أحيانًا بالطبع، بُطلانه فهو كثيرًا ما يكون حافلًا بالأخطاء النحوية والتعبيرية، الامر الذي يشكّك أكثر في نسبته إلى هذا الشاعر أو ذاك ممن عُرفوا بانتباهتهم اللغوية ويقظتهم التعبيرية.. وهذا لا يعني بالطبع أن كلّ ما ينشر من أقوال هؤلاء ليس من أقوالهم. 

مُجمل القول، ان محبة الحياة والابداع دفعت الكثيرين من محبيها وعشاقها إلى اختلاق القصص والحكايات الواضحة في تركيبيتها، كما فعل آخرون من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، مع الكثير من الشعراء والمفكرين، أحيانًا وليس دائمًا بالطبع، لأهداف قد تكون ابداعية واسعة حينًا وقد تكون تسويقية ضيّقة حينًا آخر.

ناجي طاهر

كاتب صحفي ومحرر أدبي من مدينة الناصرة

شاركونا رأيكن.م