الصورة الفوتوغرافية وبداية انتاج البطاقات البريدية السياحية في فلسطين كمنتج سياحي

فلسطين أواخر القرن التاسع عشر

كانت فلسطين خلال أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين (1850- 1918) ذات  مكانة دينيّة مهمّة، كما شهدت ازدهار عمرانيّ وسكّانيّ واستقطبت العديد من الوافدين والحجّاج الأوروبيّين لزيارة الأراضي المقدّسة، الأمر الذي أدّى إلى تنشيط السياحة فيها وذلك بسب أهمّيّتها الدينيّة التي جذبت إليها أنظار العالم المسيحيّ من حجّاج وسيّاح؛ جاءوا إليها لزيارة الأماكن المقدّسة بعد أن ازداد نشاط الدول الأوروبيّة الكبرى في البلاد، في ظلّ تحولات عديدة وتطورات على صعيد الحكم العثماني.

إضافةً إلى ذلك، أقامت الدول الأوروبيّة نشاطات تبشيريّة واسعة النطاق، كإقامة الخدمات التربويّة والصحّيّة مثل: المستشفيات وبناء "اللوكاندات" وبيوت الضيافة، لاستقبال جموع الحجّاج لزيارة الأراضي المقدّسة، الأمر الذي أدّى إلى تنشيط السياحة الدينيّة. خصوصا في المدن الدينية الرئيسية مثل بيت لحم، القدس، الناصرة، أريحا، طبريا وغيرها من الأماكن المقدسة التي نشط فيها الحجيج المسيحي.

 من كتاب الذاكرة البصرية للباحث خالد عوض

لذا اهتمّ الحجّاج في جلبِ هدايا تذكاريّة يحملونها معهم عند عودتهم لديارهم، ممّا لفت انتباه بعض المصوّرين الفوتوغرافيّين المحلّيّين لأهمّيّة ترويج الصورة الفوتوغرافيّة للمعالم الدينيّة والأثريّة كمنتج سياحيّ يعود بالفائدة المادّيّة لأصحاب هذه المهنة، ممّا دفع بهم للعمل على تطوير هذا المشروع، في ظلّ زيادة إنتاج البطاقات البريديّة السياحيّة على يدِ المصوّرون الغربيّون، الذين رافقوا البعثات التبشيريّة والقنصليات والمؤسّسات الأجنبيّة المختلفة التي جلبت معها هذا النوع من البطاقات البريديّة السياحيّة لتتميم مراسلاتها في الأعياد والمناسبات الرسميّة والاجتماعيّة، بدورهِ حفّز مصوّرين العرب ومحليين للشروع في هذا المجال وبدء إنتاج بطاقات بريديّة.

كي يتمكّن القارئ من مواكبة الظروف والحقب الزمنيّة التي ظهر فيها التصوير الفوتوغرافيّ المحلّيّ، ومن بعدها صدور البطاقات البريديّة السياحيّة في فلسطين، ارتأينا إبراز الأحوال التي َقدِم فيها هؤلاء المصوّرون الأوروبيّون أولًا، والذين رأوا في فلسطين المكان الأكثر جاذبيّة لالتقاط الصور الفوتوغرافيّة؛ كونها الأرض المقدّسة المذكورة في الإنجيل والتوراة كونهم يحملون أفكارًا ودوافع دينيّة مسبقة، الفوقيّة البيضاء والاستعلائيّة إضافةً إلى دوافع استعماريّة، وتشابك ذلك في عمليّة جذب اقتصاديّ، ورغبة في اكتشاف معالم الشرق، وحضاراته المختلفة. لتسهيل الأمور والتعرّف على المراحل التي قدم فيها هؤلاء المصوّرون المستشرقون، قمنا بتقسيمها إلى ثلاثة مراحل تاريخيّة.

المرحلة الأولى: الاستشراق والتعصّب الدينيّ (1845-1865)

امتازت المرحلة الأولى من الاستشراق بالنظرة الدينيّة المتعصّبة، وقد ظهر فيها طبقة من المصوّرين الغربيّين الذين برزوا بعد اكتشاف الكاميرا سنة 1839م، ورأوا في فلسطين المكان الأفضل لالتقاط الصور، ونقلها إلى المواطن الغربيّ الذي أصبح بإمكانه رؤية الأماكن المقدّسة على حقيقتها الطبيعيّة، مدفوعين إلى ذلك بدوافع دينيّة واستعماريّة، منطلقين من فرضيّة مؤدّاها أنّ الفلّاح الفلسطينيّ والسكّان المحلّيّين ما زالوا محافظين على أسلوب الحياة البدائيّ الذي كان سائدًا لدى السكّان اليهود أيّام العهود التوراتيّة القديمة. شاب تلك النظرة حسّ عنصريّ متعصّب، وكانت النظرة للفلّاح الفلسطينيّ نفسه نظرة حاقدةً وعدوانيّةً، ومشبعةً بالروح الاستعلائيّة الشوفينيّة، إذ أرادوا أن يصوّروا فلسطين بلادًا خاليةً من السكّان؛ فالتقط هؤلاء المصوّرون الغربيّون، مئات الصور لمدن فلسطين وقراها؛ بهدف إثبات أنّ الأماكن الموجودة في فلسطين هي نفسها المذكورة في الكتاب المقدّس، دون أن يعيروا للسكّان المحلّيّين أيّ اهتمام. 

المرحلة الثانية: مرحلة التمثيل أو التقليد (1865-1910)

أصبحت نظرة الرحّالة المستشرقين، خصوصًا الألمان والإنجليز في هذه المرحلة، أقلّ عدوانيّة وأكثر موضوعيّة، فنشط المصوّرون في تصوير السكّان المحلّيّين؛ لاعتقادهم أنّ هذه الصور تشكّل عامل جذب لبيعها وانتشارها، لمحاكاتها الواقع القصصيّ في نصوص التوراة وتطابقها من ناحية الأوصاف مع ما ورد في الكتب المقدّسة؛ فاجتهد بعض المصوّرين في التقاط صور تمثيليّة قاموا بتحضير أدوارها مسبقًا على غرار قصّة: "السامريّ الصالح" ، وقصة "راعوث نعمي وبوعز" المذكورة في التوراة، وصورة الرعاة التي تعيد إلى الأذهان حكاية ولادة المسيح، وصورة المرأة التي تملأ الجرار من البئر، والتي تذكّر بمشهد اجتماع المسيح بالمرأة السامريّة، وغيرها من القصص التوراتيّة والإنجيليّة. إلّا أنّ أوّل من التقط صورًا للسكّان المحلّيّين كان النقيب "هنري فيلبس"، مصوّر بعثة صندوق استكشاف فلسطين سنة 1867م، إذ أخذ هنري- ما مجموعه- سبعًا وعشرين صورة لبعض سامريّي نابلس، وبعض الأرمن والعرب في القدس، ويهود حجّاج من بولندا، وبدو التعامرة من بيت لحم، وبعد ذلك احتلّ السكّان المحلّيّون جزءًا حيويًّا من الصور الغربيّة، فأعطى وجودهم دفعة قويّة لشرائها، وقد بات هذا النوع من الصور مرغوبًا في الغرب، ولدى الزوّار الذين زاروا الأراضي المقدّسة في فلسطين.

المرحلة الثالثة: مرحلة الوعي المحلّيّ والاحتراف (1910-1947)

برزَ مصوّرين محلّيّين احترفوا مهنة التصوير وطوّروها خلال أواخر القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، حيث إنّ التصوير الفوتوغرافيّ قد وصل إلى فلسطين كما رجّح الباحث عصام نصّار في كتابه "لقطات مغايرة"، عبر الحملات الأوروبية كجزء من المشروع المعرفيّ الاستعماريّ والسيطرة على المنطقة. بالمقابل، تطوّره كصناعة محلّيّة أحد سمات مظاهر القرن العشرين، وذلك بعد ازدهار السياحة وبدء التوافد بأعداد كبيرة من السيّاح الأوروبّيّين إلى المنطقة.

أضف إلى ذلك تطوّر أساليب التصوير، والتي أصبحت أكثر سهولة للاستعمال، وقد ظهرت الاستوديوهات في المنطقة العربيّة خصوصًا في العواصم المركزيّة مثل القاهرة وبيروت ودمشق. أمّا محلّيًّا، فقد ظهرت الاستوديوهات في عددٍ من المدن الفلسطينيّة، أهمّها القدس، لتنتشر فيما بعد إلى باقي مدن فلسطين الرئيسيّة، مثل: يافا التي برز فيها المصوّر عيسى الصوابيني ومحمّد صالح الكيالي، ويعتبر الأخير أوّل مصوّر مسلم يمتهن حرفة التصوير، وحيفا التي برز فيها المصوّر الأرمنيّ "ملّا دجيان"، وفي الناصرة التي حظيت بنصيب وافر من عدسة الفوتوغراف، خاصّة أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كونها من أهمّ المدن الروحيّة للطوائف المسيحيّة في العالم، فقد لمعت فيها أسماء، شاع وذاع صيت بعضها، واختفى إنتاج وصيت بعضها الآخر. خلاصة القول، وعلى الرغم من تعدّد الأسباب التي دعت المصوّرين الفوتوغرافيّين الأوروبيّين للسفر إلى فلسطين في القرن التاسع عشر، بالإمكان الادّعاء بأنّ سببًا واحدًا واضحًا وبسيطًا شكّل القاسم المشترك فيما بينهم، وهو الرغبة بتصوير الشرق، أو بمعنى آخر بتعريفه بصريًّا لمشاهدي الصور الفوتوغرافيّة في بلدان أوروبا ومستعمراتها المختلفة. 

وكما أشار الدكتور عصام نصّار في كتابهِ المذكور آنفًا: أن نظرة الرحالة المستشرقين، "تمثّلت في نقل صورة عن معالم الشرق للمشاهد الأوروبيّ، ما أدّى إلى خلق تصوّر ومخيّلة أوروبيّة لشكل الشرق وسكّانه ومعالمه التاريخيّة".


الصور المرفقة في المقال من كتاب "الذاكرة البصرية" للباحث خالد عوض.

خالد عوض

باحث مختص في التراث الفلسطيني ومؤسس ‎متحف التراث الفلسطيني

شاركونا رأيكن.م