سير المعلّم شكيب جهشان تحت الحكم العسكريّ: من أجل استعادة روح تربوية نضالية

"أحبكم

لو تعرفون كم يحبُّ والدٌ بنيهْ

وصيتي لكمْ

تستوطنون دارة القمرْ

وتضربون الجذر في الأعماقِ

في الأعماقِ

مثلَ

اعرق الشجرْ"

شكيب جهشان

شدّتني كلمةً ارتجاليّة ألقاها الفنان الكبير محمد بكري في أحد بيوت العزاء في البعنة، من مدّة قصيرة، ذكر فيها الشاعر والمرّبي طيب الذكر شكيب جهشان وكيف استطاع هو وغيره من المربين الوطنيين الملتزمين تربية جيلًا معتزًا بهويته الفلسطينية وانتمائه متمسكا بحقوقه "لا يعرف الانكسار" في أحلك سنين الحكم العسكري البغيض ظلمة حين كان "يحصـــــي دقات القلوب" وأذرع الضبط والرقابة والرقباء "الذين انبثوا في كل مكان، في المدرسة وفي الشارع، وبين الناس... لأن المعلم ــ كما صرح مرة أحد المسؤولين عن الأمن - قادر على إحداث ثورة" (ش ج، 2001). كان الطلبة يشعرون بمعلميهم وبرسائلهم الحقيقية الصادقة ومواقفهم وحبه لهم فكانت الروح الوطنية والإنسانية والنقدية تنتقل إلى الطلبة من معلميهم حتى بدون كلام، بدون وعظ رغم المنهاج الغادر والكتاب النادر والقيود المفروضة على المعلمين.[1]

كان لكلمات الفنان وقع خاص على مسمعي فهي أصابت نقطة ملتهبة تشغلني منذ سنين حول دور المعلمين والمعلمات العرب هذه الأيام في مجتمعنا وحاجتنا إلى نموذج المعلم والمعلمة الملتزمين الذي يحّب مهنته وطلابه وشعبه ويعرف كيف يمارس دوره القيادي المتحدي للهيمنة وللسلطة في واقعنا المركب، فتعمقت مجددًا في قراءة شعر جهشان وكتاباته وكل ما كتب بعد وفاته وبشكل خاصّ من طلابه لأفهم أكثر سر هذه العلاقة بينه وبينهم. فشهادة الفنان تؤكد أن السلطة بمقدورها أن تفرض المناهج والمواد، ولكن نحن قادرون، إن أردنا، أن نقرر الروح والثقافة والرسالة التي تمرر فعليا للطلبة في الصف. هذا الأمر منوط أولًا بالإرادة- بوعي المعلمين والمعلمات وبتحررهم وبهويتهم التربوية التي يتبنونها. وهنا لا بد من المقارنة والسؤال، إذا كان بالإمكان في حقبة الحكم العسكري أن تكون ممارسة تربوية نقدية، بل وثورية وأن يكون هناك معلمين أحرار قاموا بدور عظيم متحدين الصعوبات كافة، فلماذا لا يكون معظم معلمينا اليوم مثلهم؟ 

لم يكن الأستاذ شكيب، الإنسان العربي والفلسطيني والمعلم الذي تركت النكبة آثارها عليه، بطبعه صداميًا وكان في "أول الطريق" يحاول أن يحرص على عمله فهو بأمس الحاجة إليه، بل وأنه حاول جاهدًا الابتعاد عن الأضواء وسعى أن يبقى في "الصفوف الثانية"، رغم تأييده المطلق ودعمه واحترامه الكامل للمعلمين الصداميين، ولدورهم البطولي، ووقفاتهم المشهودة، وتضحياتهم. رغم هذا الحرص ورغم كثيرة النقاط التي حاول تجنبها وظروف المرحلة، عرف هذا المعلم أن يقوم بدور وطني وتربوي رائد يشهد له طلابه وكل من عرفه:

"رغم كل هذه الصعاب، عليك أن توصل الحقيقة التي تؤمن بها إلى الأجيال التي تحبها، وأن توصلها جميلة وناصعة. عليك أن تضيء شمعة في هذا النفق المظلم الطويل" (ش، ج). لم يكن جهشان لوحده، كما كتب، بل "كانت المدارس مليئة بالمعلمين الصادقين" و"الطلائعيين" "وكانوا هم أيضًا صداميين في الممارسة والفعل، وفي أقسى الظروف وأمرّها". لقد ميز الناس البسطاء الذين عانوا من ويلات النكبة والتهجير والحكم العسكري بين معلّم ومعلم وثمنوا دور المعلمين الملتزمين مقابل "المعلمين المتخاذلين"، " وانتهى بهم الأمر الى الربط بين الوطنية والعطاء العملي".

لقد آمن جهشان برسالته التربوية ايمانا حقيقيًا صادقًا ملموسًا ومحسوسًا، ايمانًا مجبولًا بالمحبة والايمان بالطلبة وبقدراتهم. فليس صدفة أن عمله كمعلم للعربية دام أكثر من نصف قرن حسب حساباتي البسيطة. وقد أهدى كتابه "أحبُّكم.. لو تعرفون كم" الذي أصدره في العام 1988 حين خرج إلى تقاعده الأول إلى طلابه فكتب لهم الإهداء التالي “إلى طلابي الذين عشت معهم أحلى لحظات عمري". وكتب في المقدمة "إن علاقة المعلم بطلابه، في كل زمان ومكان، هي علاقة انسانية متميزة، قد تصل في سموّها وحلاوتها الى علاقة الأب بأبنائه، ولكن علاقة المعلم العربي في هذه البلاد بطلابه، لها فوق طابعها الإنساني، طابع وطني". لقد علم الأجيال اللغة العربيّة زارعًا في نفوسهم حب لغتهم ووطنهم وهويتهم. وكتب: “فلن يتأتى لك النجاح إلا إذا استطعت أن تقدم لطلابك ما يرغبون فيه، وما ترغب فيه أنت.. أن يتعرفوا على لغتهم وعلى أدبهم، تعرفا واعيا وأمينا. واللغة والأدب توأمان سياميان. وهل هنالك وطن بغيرهما.. وهل يكون إبداع، وهل تكون هوية بدونهما؟".

لم يكبل المنهاج ولا أعين الرقباء المعلم جهشان. فقد وجد الطريق دائما لإيصال رسالته ففي هذا النص الذي كتبه يوجد إطلالة معينة لممارساته التربوية: "وهكذا أخذت تلقي على الطلاب، متعمدا بعض الأسماء وبعض الإبداعات من كل العصور. لم يكبلك المنهاج بقيوده الصارمة الجارحة… لقد تحايلت عليه! ومن وراء ذلك التحايل، عرفوا إبراهيم طوقان، والجواهري، وأدهشهم الرمز الثوري في كليلة ودمنة، وهزّتهم النخوة في معلقة عمرو بن كلثوم. لم تكن تلك دراسة منهجية مقررة.. لكن ملاحظات عابرة، فتحت عيونهم البكر على وفرة من الحقائق الجميلة والعظيمة".

وعندما تتمكن من تطوير الحسّ النقدي عند طلابك وتنمي بهم القيم والمشاعر الإنسانية ومبادئ العدالة والوعي وتمنحهم حرية الرأي يمكنك أن تثق بهم حتى عندما ينكشفون لنصوص هدفها الخفي زعزعة ثقتهم بهويتهم وبتاريخهم وبحضارتهم. المعلم جهشان الذي أحب مهنته وطلابه وشعبه كان يفحص نفسه باستمرار فها هو يتساءل: "هل نجحت في تحايلك على المنهاج؟ وهل أتقنت السير بين النقاط؟ وهل رضي طلابك؟" لا شكّ أن المرحلة التي نعيشها اليوم لها ظروفها ومميزاتها ومشاكلها الخاصة، ولكنها بالتأكيد ليست أصعب من مرحلة الحكم العسكري ومن حالة مجتمعنا النفسية والاقتصادية في السنوات الأولى التي تلت النكبة.

بل إن إمكانيات العمل المتاحة اليوم أكثر بكثير وحتى أن بعض المواد التي منعت أو غيبت آنذاك حاضرة في المناهج أحيانا أو أنه بالإمكان استعمالها وكان هذا بعد نضالات وضغوطات وتغييرات وإصلاحات الخ. لذلك لا بدّ أن نطرح على أنفسنا أسئلة صعبة بالنسبة لدور المعلمين والمعلمات. لا شك أن طواقم التربية والتعليم والمثقفين والطلبة لمهنتهم ولطلابهم أعدادهم كثيرة، بالتالي خلق حالة جديدة في التربية والتعليم في مدارسنا تتطلب أن يكون غالبية معلمينا كذلك. تجربة الأستاذ شكيب تؤكد أنه بالإمكان استبدال ثقافة العجز والاستسلام للدور الذي تريده المؤسسة للمعلمين، بثقافة التحرّر والنضال التربوي حيث يقوم المعلم والمعلمة بدور أخر كمثقف وكمثقف متداخل مع قضايا مجتمعه وطلابه وشعبه.

من الواضح أن للهيمنة في العصر الحالي طرقها المحكمة والمتطورة للسيطرة وبلورة هوية الأفراد ورغباتهم واهتماماتهم وأحلامهم وفق ما يخدمها. كذلك لدينا جيل آخر، غير جيل النكبة، وتحديات جديدة كثقافة الاستهلاك والانشغال أحيانا بالقضايا الهامشية، بل والتافهة إلى جانب الانشغال بالقضايا الحياتية. فلكل مرحلة ظروفها وتحدياتها وكذلك فرصها وإمكانيات جديدة للعمل لم تكن في السابق. كذلك في عالم التربية والتعليم اليوم فإمكانيات وفرص العمل النقدي والثوري اليوم هي أكثر مما كان في السابق رغم قوة الهيمنة على فرض سطوتها بشتى الوسائل المحكمة. بقي أن يعرفها العاملين والناشطين في التربية حيث تعيش في مخيلتهم حدود تكبلهم أَضيق بكثير مما هي في الواقع.

نقد مناهج التعليم ونقد المؤسسة وسياساتها والنضال لتغييرها هو أمر غاية في الأهمية. لكن ما لا يقل أهمية اليوم هو أخذ مسؤولية على وضعنا والمبادرة لخلق روح جديدة في المؤسسات التربوية تلائم احتياجات مجتمعنا والتغيير من القاعدة الذي يساهم في تغيير بنيوي أعمق. هذا يتطلب منا أولًا أن نحرّر وعينا وننطلق للعمل فنحن بحاجة إلى روح جديدة وأحيانا بناء من جديد. هذا كفيل بجعل المنهاج أقل تأثيرا لأن الروح والثقافة يقررها البشر وفي هذه الحالة المعلم.

المعلم هو ليس اللاعب الوحيد، ولكنه غالبا الأهم. هناك لاعبين أخرين يمكن أن يكون لهم دور كالأهالي والطلبة القياديين وأصحاب القرار وكل من له صلة بالحقل التربوي. قدرة الهيمنة على فرض توجهاتها تكون عادة عندما تتمكن من النيل من وعي المتضررين من الهيمنة، فيفقدون القدرة على الحلم وعلى الإيمان بقدراتهم فيستسلمون للوضع القائم، بل ويجدون المبررات والأيديولوجيات التي تبرر كسلهم وقلة حيلتهم. تجربة الشعوب المختلفة وتجارب شعبنا والتجربة التي استعرضت أعلاه تؤكد أنه بالإمكان الخروج من هذه الدائرة وإمكانيات العمل اليوم لمن يريد أكبر مما أتيح في عصر المعلم شكيب.


[1] معظم الاقتباسات في هذا النص مأخوذة من كتاب جهشان " على شوقٍ لأيّامٍ غوالٍ -لقطات من مفكرة معلم" الذي صدر في العام 2001، وهو متاح في الموقع لذكرى الشاعر "كلمات وفاء لذكرى البللبل الذي صمت": http://shakeeb-jahshan.com/index.asp?f=sera.htm. أنصح الجميع بقراءته.

د. شرف حسّان

رئيس لجنة متابعة قضايا التعليم العربي ومعلم ومحاضر في كلية التربية "أورانيم"

عائشه Aisha
كل الاحترام أستاذ شرف ع ما تقدمه انت المعلم والانسان. التي ترفع لك القبعه 🙏🌹
الجمعة 1 أيلول 2023
شادي خوري
كان الشاعر الكبير شكيب جهشان استاذي ومعلمي، جعل حبي للغة العربية يتضاعف حتى درجة العشق، رحمه الله، وشكرا لك استاذ شرف على مساهمتك واضاءتك، بوركت⚘️
الاثنين 4 أيلول 2023
رأيك يهمنا