مستقبل أدب الأطفال في بلادنا

أكتب نقدًا من فترة لأخرى من منطلق المسؤوليّة والمهنيّة حول أدب الأطفال. شخصيًا لا أستطيع مدح ما لا أؤمن به، ولن أجامل. علاقتي بأدب الأطفال قويّة وعميقة وطويلة. على المستوى الشّخصي، أحترم الجميع وأكنّ لهم الاحترام والتّقدير، ولكن لي موقف علمي من كتاباتهم وكتبهم وقصصهم. ولنكن صادقين، كيف لنا أن ننتقد السّلطة ونهاجم سياستها تّجاه اللّغة العربيّة، وكتاباتنا وإخراج كتبنا بهذا المستوى! ونقد الذّات فضيلة وفرض. 

أدب الأطفال العربيّ في البلاد، يعاني من أزمة. فهو مستباح من قبل الكثيرين، باختصار هناك استهانة واستخفاف بالكتابة للأطفال. وهذا مردّه إلى عوامل عدّة، سنأتي على ذكرها في هذا المقال المقتضب.

هناك غياب لمؤسّسات علميّة، ترعى هذا الأدب. ومعظم النّشاطات الّتي نراها، تسيطر عليها العفويّة والشّلليّة، وتنتهي الفعّاليّة ويولّي النّشاط والمؤتمر دون فائدة تذكر! فإقامة مؤتمر تحتاج أحيانًا من سنة إلى سنتين ويتوّج المؤتمر بكتاب يضمّ مقالات علميّة ناقدة يساهم بكتابتها من شاركوا بالمؤتمر. وفي مجمع اللّغة العربيّة في القاسمي، كان هناك نشاط في الماضي يشار إليه بالبنان، فقد أصدر المجمع كتابًا يضمّ مقالات نقديّة حول هذا الأدب، وحبّذا لو دعا هذا المجمع الهام لمؤتمر قادم، جديد، ويقوم بإصدار مداخلات ودراساته في مقالات علمية ترتّب وتهذّب وتطوّر بعد المؤتمر. وسنكون جاهزين لأيّ تعاون لتحويل المؤتمر إلى دوليّ، وقد كان لدار الأسوار في عكّا تجربة مماثلة في النّشر والعطاء. ولا ننسى تجربة مجلّة المرايا الّتي تحاول ضمن قدراتها الماليّة والبشريّة المتواضعة، تقديم ما يفيد هذا الأدب. ويشرف عليها د. محمود أبو فنّة والأستاذ أحمد عازم، أطال الله في عمرهما. ما ذكرته في الأسطر السّابقة هدفه تشجيع وتعزيز النقد، فهذا ما ينقص مشهد أدب الأطفال، في ظلّ غياب مراكز لأدب الأطفال تعنى بهذا الأدب.

أتصفّح ما يصدر في بلادي من أدب للأطفال، وبصراحة ألاحظ بأنّ هذه التّجربة تعاني من التّرهّل والضّعف. فالرّسومات لا تتلاءم وجيل الطّفولة، وفيها من الضّحالة والعبثيّة، ما فيها. بعضها لم يكترث للإخراج الفنّي ومعظم الإخراج بهدلة ومسخرة. أمّا بالنّسبة لفنّيّة النّصوص فهي ضعيفة، تعاني من شحّ في الابداع والتّشويق والمهنيّة والتّجديد، وكثير من هذه الكتب، كنت أتمنّى لو أنّها لم تصدر!

والأنكى من ذلك أنّ بعضهم ممّن لا علاقة أكاديميّة أو فنّيًة وإبداعيًة بأدب الأطفال، يقف محاميًا عن هذا وتلك! تحتار ماذا تفعل وماذا تقول! الكتابة تخبيص والإخراج تخبيص! كلّه بحاجة إلى ترميم، لعلّ وعسى!!

نضيف فنؤكّد بأنّه ليست كل قصّة فيها حيوانات أو حوار أو شمس أو غيمة، أو أب أو أم هي قصّة ناجحة للأطفال... أدب الأطفال عالم سرّي وعميق، له أدواته وتقنّياته. والولوج فيه لا يحتاج إلى ناشر ولا إلى علاقات ولا إلى مال ولا إلى مركز علمي أو اجتماعيّ. يحتاج إلى روح فنّانة، شفّافة، جميلة، جريئة، مجنونة، تكسّر وتجازف، بعيدة عن العقليّة، النّمطيّة، الكسولة، المؤطّرة. وربط التّربية بأدب الأطفال دمّر هذا الأدب. أدب الأطفال فن وأدب. وحشره بالتّربية هو ظلم وسجن، الأمر الّذي دمّره وأنهكه. 

كانت هناك محاولة بريئة من قبل مكتبة الفانوس، لتقديم نماذج أفضل، لكنّها برأيي أخفقت، بسبب اتّكائها على التّرجمة واعتمادها على مترجمين، خانوا النّص الأصلي ولم يستحضروا اللّغة المناسبة للأطفال، ولم يحسنوا سبك الجمل والعبارات. فلم تجذب ترجماتهم الاطفال للنّصوص. كما انّهم حاولوا تهميش قامات محلّيّة لها باع طويل في أدب الأطفال، دراسة وكتابة. كما واستبعد هؤلاء من كل ما يتعلّق بهذا المشروع. وأستغرب السّبب، فمن أعرفهم وعرفتهم في هذا المشروع، هم شخصيّات مسالمة، طيّبة، فلا أدري، حقيقة، سبب هذا السّلوك! بكلّ الأحوال النّتائج تتحدّث عن ذاتها. لقد أخفقت مكتبة الفانوس بفرض نفسها كبديل للإنتاج المحلّي.

وبرأيي فإنّ الكثير من هذه القصص، أي قصص الفانوس غير مناسبة لنا. نحن كأقلّيّة لنا مزاجنا الخاص المتعلّق بتذوّق النّص. وصدقًا هذه النّصوص لم تمتّعنا، الكثير منها طبعًا. وهذا رأي الكثيرات من معلّمات البساتين. وشعبيّة مكتبة الفانوس، تتراجع سنة بعد سنة، وكون هذه الكتب توزّع مجانًا على أطفالنا لا يعطيها جواز سفر إلى قلوب وعقول هؤلاء الأطفال. وصدقًا لا أعرف من يقرّر؟ من يترجم؟ من يختار؟ هل هناك تدخّلات في هذه الاختيارات؟ قد تناسب هذه الكتب بيئات أخرى. ولكن شهادة حق يجب أن تقال بحقّهم، فإنّ الإخراج الفنّي لكتب الفانوس راق وجميل وعلميّ، ويدلّ على مسؤوليّة. المشكلة تكمن في النّصوص من حيث المضامين والمستوى الفنّي. ووجود فعاليات حول هذه القصص لا يمنحها صفة الأدب النّاجح للطفل، فكلّ قصّة مهما كانت رديئة، يمكنك إجراء فعّاليّات حولها. أقترح على مكتبة الفانوس سماع كل الملاحظات النّقديّة البنّاءة ودراستها، من أجل المصلحة العامّة والمضي قدمًا.

ونحن ماذا فعلنا؟ لا شيء، هي جهود فرديّة، هنا وهناك... هناك غياب مطلق لثقافة الفريق، والعمل الجماعي!

قبل أن ندنو من نهاية المقال، لا بدّ من التّنبيه لحقائق ربّما تسمح بها هذه العجالة. الانسان الكاتب يولد والقلم بيده، بالفطرة والموهبة يتطوّر ويتقدّم. أدب الأطفال فن ومن يملك روح الفنان يقدّم النّافع لهذا الأدب، ومن لا يتماهى مع روح الفنّ يعيش في رصّ السّطور فقط، ولن يفقه روح هذا الأدب. وكون أدب الأطفال يحظى بشعبيّة في المشهد الأدبي الثّقافي وقد انتقل منذ مدّة من الهامش إلى المركز، لا يعني أن نمتطيه لنحظى بالشّهرة! بعضهم أو بعضهنّ يستبيح هذا الأدب، ويصدر قصصًا يكتبها تلميذ في الصّفّ السّادس. أين الإبداع والفن والتّريّث والمسؤوليّة! النّصوص الّتي بقيت وحافظت على ديمومتها، نججت بفعل ذلك، بفضل فنّيّتها وليس بفضل مضامينها فقط، وكما قال أديبنا الموقّر الجاحظ: "إنّ المعاني ملقاة على قوارع الطريق، وإنمّا يتميّز الناس بالألفاظ، فالمعاني يعرفها العجميّ والعربيّ، البدويّ والقرويّ، وإنّما الشّأن في إقامة الوزن وتخيّر اللّفظ".

اقتراحي في هذا الصّدد، حان وقت العمل، ونقد دون عمل، هو نقد فاشل بامتياز. يمكننا تشكيل مجلس أعلى من مجموعة أكاديميين ممّن سبروا أغوار هذا الأدب وألموا به وبنظريّاته. وهذا بحاجة لمأسسة، لذا يجب مأسسة أدب الأطفال، وأرشفته ووضع النّقاط على الحروف وتخصيص المنح لكتابة الأبحاث والدّراسات حول هذا الأدب، والسّعي، بصوت قويّ وجماعيّ، من قبل الجميع، لإقامة مركز لأدب الأطفال ويكون شاملًا، وبعيدًا عن الشّلليّة. ودمتم في عافية وإبداع.


رد مكتبة الفانوس على ما جاء في هذا المقال:

"ردًّا على ما جاء في مقالة د. رافع يحيى حول كتب مكتبة الفانوس، نودّ توضيح بعض الأمور: مشروع مكتبة الفانوس هو مبادرة مهنيّة لتحبيب الطفل بالكتاب وتشجيع الأهل على قراءة الكتب مع أطفالهم. تقوم لجنة من اختصاصيين في تطوّر اللغة، وأدب الأطفال، وتربية الطفولة المبكرة، وعلم النفس النمائي في اختيار كتب، تطمح إلى احترام عقل الطفل ومشاعره وذائقته الجماليّة. ينشر المشروع نصوصًا للعديد من الأدباء المحليّين المعروفين، أمثال فاضل علي، ونبيهة جبّارين، وهديل الناشف، وأبو سلمى، وحنّا أبو حنّا، وغيرهم، وأدباء من العالم العربيّ، أمثال تغريد النجّار وفاطمة شرف الدين وغيرهما. كما ينشر ترجماتٍ لكتبٍ حازت على جوائز عالميّة، إيمانًا بأهميّة أن ينكشف الأطفال على كتب نوعيّة من ثقافات مختلفة. يقوم على الترجمة فريق من المترجمين المتمرّسين، وتمرّ الترجمات بقراءاتٍ عديدة، من ضمنها قراءة القيّمين على الإرشاد اللغوي في وزارة التربية والتعليم.

تسعى مكتبة الفانوس أيضًا إلى النهوض بأدب الأطفال المحليّ من خلال عقد ورشات عمل مع كتّاب ورسّامين محلّيين، أثمرت عنها مجموعة كتبٍ ستُوزَّع في السنة الدراسية القادمة. يخضع المشروع لتقييم دوريّ مهنيّ ومفصّل في أوساط المربّيات والأهل والأطفال، يشير إلى إقبالٍ طيّب على الكتب، ويدعم تطوّر المشروع وتحسينه. يرحّب المشروع بكلّ نقدٍ عينيّ وبنّاء." 

د. رافع يحيى

محاضر، وباحث، وكاتب.

شاركونا رأيكن.م