أسرار الأمومة غير المحكيّة
"كتير أشياء. بدي أكتب روايات، ألّف العالم، أصير صحفيّة، وأدافع عن الناس المظلومة..."
جميعنا أجبنا حينما كنّا أطفالا عن سؤال ما هو عملنا، حلمنا عندما نكبر؟ وهذه كانت اجاباتي دوما، عندما لم أكن أعرف بعد سقف الزجاج الذي يفرضه المجتمع علينا، حيث اعتدت أن أسرح بعيدا بأحلام طفولية متمردة، ولكن مع تقدم عمري والسنوات أصبحت أشعر أن أحلامي تختلف عن غيري من الطفلات والفتيات.
"شو بدك تصيري بس تكبري؟"
"بدي أصير أم..." "بدي أتجوز" ...
هكذا تحوّلت إجابات من حولي عندما تحولنا من طفلات إلى "صبايا"، تبدّلت أحلام الطفولة لدى الأغلبية وحلّت مكانها أحلام المراهقات، بينما أحلامي أنا لا زالت عالقة في الترحال والسفر والكتابة، وهكذا بدأت تدريجيا أشعر أن طموحي يختلف عن طموح غيري حيث لم أستطع يوما تبديل حلم الحرية والنجاح المهني بحلم الأمومة وتربية الأطفال.
لم أرد يوما أن أصبح أما، لم أشعر أن غرائز الأمومة متقدّة لدي، لم ألاعب طفلا لأكثر من ثوانٍ معدودة، كنت أنظر إليهم من بعيد أبتسم لذويهم وأمضي. إلى أن جاء ذلك اليوم الذي داهمني فيه الحب على باب قسم الإنعاش في المستشفى وانقلبت جميع الموازين وقررت أن أتزوج وأن أنجب طفلين جميلين أجبرتني الحياة أن أقوم بتربيتهم وحدي بدون رفيق، وتقبلت قراراتي وتعلمت العيش بسلام معها وتحمل مسؤوليتها، ولكن علي الاعتراف أن التحول الذي مررت به لم يكن سهلا على الاطلاق.
لم تأت الأمومة عندي بالفطرة كما أوهموني طوال عمري، بل كانت مكتسبة، تعلمتها تدريجيا مع الوقت والتجارب، كما تعلمت أن أحب أطفالي بالرغم من الألم بعد الولادة والتعب والتغيير في نمط الحياة، وقلة ساعات النوم والغياب عن العمل وانعدام الحياة الاجتماعية والشخصية.
لم تكن تجربة الامومة الأولى عندي ساحرة ومشوقة كما صورها الجميع. لأشهر طويلة لم أعرف كيف أتعامل مع طفلي الأول وكان "حقل تجارب" بالنسبة الي. كان هناك شيء في داخلي يرفض هذا التغيير الذي حمله هذا الطفل الى حياتي ما لم يسهل على عملية تقبله، وظللت على هذا الحال مدة لا بأس بها أشعر بالخوف وبعدم الكفاءة والرهبة، وساورتني شكوك عديدة بأنني لم أولد لأكون أما، وأنه ربما قرار الأنجاب كان قرارا خاطئا فهذه الحياة ليست لي.
مع مرور الوقت أصبحت أشعر بالحقد على المجتمع وعلى من حولي، لأن أحدا لم يخبرني كم أن الامومة تحتوي بطياتها شعور صعب بالوحدة، حتى لو كنت محاطة بالأشخاص طوال الوقت، وشعور مدمّر بالخوف من أن لا تكوني قادرة للاعتناء بهذا الكائن وأنك دائما "مقصرة بحقو"، والأصعب من هذا كله خوفك من الإخفاق في منحه الحب والاهتمام الذي يستحقه، لأنه في مكان دفين في داخلك هناك شعور بالغضب من هذا التغيير الذي لم تتوقعي حدوثه أبدا.
مع الوقت، وعندما كبر الأولاد وكبرت أنا، وبدأوا بالكلام والحركة، وأصبح الاعتناء بهم أسهل، وعدت للنوم لساعات طبيعية، وأصبحت قادرة على الاتكال عليهم بمهام حياتهم اليومية، وعودتي لعاداتي كالكتابة والقراءة للحفاظ على صحتي النفسية، وتحولهم إلى رفاق درب وشركاء في المسيرة، تغيرت مشاعري وصرت أشعر بالحب إلا متناهي الذي لا يفنى، وعلمت حقا ما هو الشعور بالأمومة وما معنى بأن هناك من أنت على استعداد فعلا أن تضحي بحياتك لأجله، وتقبلت بحب خالص قراري بالإنجاب وتوصلت لقناعة مفادها أنني طالما اتخذت قرارا بأنجاب الأطفال فأنها مسؤوليتي التي لا أستطيع رفضها أو الهروب منها، وهي تحتم علي الاعتناء بهم ورعايتهم ومنحهم الحب الكامل والصافي حتى بلوغهم بر الأمان وعندها أستطيع أن أقول أن مهمتي اكتملت، وإلى أن أصل هذه المرحلة فهم سيكونون دائما في أعلى سلم أولوياتي.
شخصيا لا أؤمن أن الزواج والانجاب هو هدف كل أنسان على وجه الكرة الأرضية، وبرأيي هو اختيار وليس فرض، ولكن من تجربتي صرت أؤمن أننا أن أخترنا أنجاب طفل إلى هذا العالم فعلى هذا الاختيار أن يكون اختيارا واع ونهائي لأنه قرار لا رجعة منه، وعلينا تحمل مسؤوليته بالكامل والمعرفة مسبقا ما تتضمنه الأمومة والأبوة من تغيير جذري في حياتنا. كما علينا أن نع أنه بعد الإنجاب، شئنا أم أبينا، فأن هذا الطفل سيكون الأهم في حياتنا، وسيكون صاحب الملكية على وقتنا وطاقاتنا لأنه يحتاجها لكي يكبر ويترعرع بشكل صحي وسليم نفسيا وجسديا، وأن وجوده سيصعب أحيانا تقدمنا المهني السريع، وسيكون له تأثير على حياتنا الشخصية، ولكن هذه مسؤوليتنا نحن في الأخير وان قررنا الانجاب فيجب أن نتحملها حتى النهاية، ونكون السور الذي يتكئ عليه عند الحاجة وبر الأمان عند الضياع، ونتقبل ٠هذه الحقيقة بكل حب.
كلامي هذا لا يعني الغاء كيان الأهل طبعا، فمن حقنا كبشر حتى ولو كنا أهلا أن نحافظ على حياة شخصية واجتماعية لكيلا نضيع أنفسنا في زحام المسؤوليات ونحافظ على صحتنا النفسية، انما باعتقادي يجب الموازنة بين أنفسنا واحتياجاتنا وبين احتياجات أولادنا، ولكن بحال التضارب بحيث ممكن المساس بمصلحة الطفل بشكل جذري فأن الأولوية هي للطفل ولاحتياجاته لأن هذه مسؤوليتنا التي تحتمها الأبوة والأمومة.
مستقبل المجتمعات السليمة يكمن في وجود بيئة محبة وداعمة وهذه البيئة تبدأ مع الأهل، فمن حق كل طفل أن يشعر أنه مرغوب به وأن يحاط بالحب والعناية والاهتمام ليكبر ويصبح شخصًا مفيدًا معطاء في مجتمعاتنا البشرية ويتمتع بصحة نفسية لتأهله هو أيضا أن يكون أبا أو أما يوما ما، أن أراد ذلك.