مقدمة: معالم في الطريق نحو المجتمع الذي نريد

قبل أن أدلف إلى صلب الموضوع لا بد من التأكيد على أن هذا المقال يصبو إلى التنظير لمستقبل أفضل وتعزيز الأمل بحياة أمثل، في هذه اللّحظة الفارقة من مصير المجتمع العربيّ الفلسطينيّ في إسرائيل. 

كما أنّه يعولُ أيضًا ويعتمد على كتابات سابقة في مسألة التغيير والنهوض في المجتمعات، فإنه يطمحُ كذلك لإعادتها إلى الواجهة من جديد، من خلال استكتاب الكتّاب والمثقّفين في هذه المسألة تحديداً، وذلك أملاً في تراكم إنتاجٍ معرفيّ يسهم في إفراز نهضة المجتمع العربي في إسرائيل في جميع المجالات، من خلال محاولة فهم المتغيرات الرّاهنة واستثمارها بالشّكل الأفضل. المراد بذلك، أنّ هذا المقال هو مبتدئُ الكلام وليس آخره فهو محاولة للسير قدماً نحو ربيع فكريّ جديد، مع الإيمان أنّهُ بالتّأكيد سيكون هناك من سيُصّوب الطّريق ويكملُ المشوارَ وبالتّالي هي محاولةٌ متواضعةٌ لوضع لبنة واحدة لإحداث نهضة مجتمعيّة.

فما انفكّ المجتمع العربيّ الفلسطينيّ في إسرائيل على مواجهة التّحدّيات الجسام بدءا من النّكبة، مروراً بالحكم العسكريّ، مصادرة الأراضي، سياسات الإقصاء، التهميش والتجهيل وصولا إلى سياسة هدم البيوت، تعاظم ملاحقة القيادات السياسيّة للمجتمع العربيّ التي بلغت ذُروتُها من خلال حظر الحركة الإسلاميّة الشماليّة (2015) وتشريع قانون القوميّة العنصريّ (2018). 

على الرغم من هذه السياسات المتصاعدة في حدتها، نجح المجتمع العربيّ الفلسطينيّ حتى الآن، بالمستوى الشعبيّ على الأقل، في الصمود أمام التّحدّيّات الجمّة.

بيد أنه في العقد الأخير، أمام استفحال هذه السياسات وتعاظمها وبلوغها ذُروتها من خلال تفشي العنف والإجرام المستفحل في المجتمع العربيّ - والذي بات واضحًا أن الدّولة ومؤسسّاتها هي من تفرزه وتوجهه - ومقابل تآكل الديمقراطية ومفهومَي الحفاظ على حقوق الإنسان وحقوق الأقليات وأمام تعاظم قوة اليمين الفاشي في إسرائيل، فإنه بات من الضروري بلورة مشروع نهضويّ يهدف إلى الحفاظ على المجتمع العربيّ الفلسطينيّ في إسرائيل من المخاطر المحدقة به، لا بل الارتقاء به ثقافيًّا وحضاريًّا من خلال السّعي للوصول الى مجتمع قيمّي مثاليّ.

إن الواقعَ المعقد الذي يعيش فيه المجتمع العربيّ والتّحدّيّات المتراكمة، خاصّةً في ظل غياب الدّولة وعدم اكتراثها بمستقبل المجتمع العربيّ، يُحتم العمل على بلورة مشروع مضادٍّ ومقاوم لتعزيز صمود أبناء هذا المجتمع.

إنّ الطّريق الأقصرَ والأمثلُ للتّرويج لمثل هذا التّغيير، هو من خلال تحقيق الوحدة بين القوى والأحزاب السياسيّة الفاعلة في المجتمع العربيّ الفلسطينيّ في إسرائيل، إلا أن الوهن الذي أصابها واضمحلال فاعليّتها وقدرتها على حشد النّاس، يجعلها غير مؤهلّة للضلوع بهذه المسؤوليّة. فالتّجربة تشير إلى أنه في حالة المجتمع العربيّ الفلسطينيّ في إسرائيل سيكون مصيرها إما الفشل الذاتيّ; أو الحظر والمنع من قبل الدّولة في حال كانت فاعلة ومؤثرة، بالتّالي فإنّه على العكس من المجتمعات العصريّة والحديثة، لا يمكن للمجتمع العربيّ التّعويل على المؤسسات كرافعة للتغيير وذلك بالأساس نتيجة السّياسات السّلطويّة المعاديّة التي تتربص بها. 

كما أن تشتّت الرّأي العام العربيّ، نتيجة انشغاله المتزايد بالحروب والانقسامات في العالم العربيّ; والعالميّ، نتيجة انشغاله بقضايا حارقة ملحّة أخرى مثل المناخ وتغيّرات الإقليم والغلاء المعيشيّ، يجعل التّعويل عليهما لحماية وجود المجتمع العربيّ، يُجافي الواقع المتوقع.

أمام كل هذه المعوّقات، فإن توسّعَ وتزايدَ نموّ الطّبقة الوسطى في المجتمع العربيّ الفلسطينيّ يجعلها مؤهّلة لأن تكون المحرّك الأساسيّ لمثل هذا التّغيير الثقافيّ الاجتماعيّ وذلك أملا في الوصول إلى ربيعٍ فكريّ جديد. وإنْ كانت هنالك في الفضاء العامّ الكثيرَ من الأفكار النهضويّة النيّرة إلا أنه هنالك شحٌّ في رؤى ناجزة التي تضيء الطّريق نحو المجد التّليد. بكلمات أخرى هناك ضرورة في إجراء تمايز فكريّ في المجتمع ما بين حياة النخب وحياة العّامة، من خلال التنظير لمنظومة مجتمعيّة قوامها العادات النّافعة التي فيها خير للأفراد ولعموم المجتمع، بحيث تشّكل القيّم والأفكار قاعدةً لنخبٍ فكريّة نافعة، تكون رافعة لمجتمعها.

بناء على ما تقدم، هذه الأفكار النهضويّة تسعى إلى إحداث التّغيير من خلال التأثير على النخب والأفراد واستنهاض الطاقات المجتمعيّة المعطّلة، من خلال الترويج لمنظومة أفكار نهضويّة مستدامة تُفضي إلى بناء مجتمع مثاليّ، قوامه التأثير على ممارسة فكرتي التّدين لدى النخب، في المجتمع العربيّ الفلسطينيّ من خلال الإجابة على التساؤلين: 

ماذا يعني أَن تكون متديّناً في المجتمع العربيّ الفلسطينيّ في إسرائيل؟ 

ماذا يعني أن تكون وطنيّاً في المجتمع العربيّ الفلسطينيّ في إسرائيل؟ 

حيث إنَّ هذا المقال لا يحتمل الإسهاب والإطناب أكثر، وأملا في إثراء الفضاء الجماعيّ مستقبلا، يمكن الإشارة حاليّاً، على سبيل الذّكر لا الحصر، إلى بعض الأفكار النيّرة التي تنفع الناس وتحقق مصالحهم.

فمثلاً انخراط النّخب في لجان شعبيّة فاعلة في القرى والمدن العربيّة في البلاد، تعمل ضمن ميثاق موحّد ومشترك، بحيث تكون هذه اللّجان رأس الحربة في مواجهة العنف والإجرام في المجتمع العربيّ.

أما المجال الدّينيّ فإن الأفكار فيه شاملة ومتعددة وأهمُّها نقل الخطاب الدّينيّ من التّركيز على العبادات إلى التّشديد على المعاملات حيث إن الصّدق في القول والأمانة والإتقان في العمل هما من الدين أيضاً.

إنّ الطّريق الأمثل هو المزاوجة بين هذين المفهومين من خلال انتقاء منظومة من الأفكارٍ المشتركة بحيث يطّبقّها المتديّن إيمانا بالله; ويطبقها من يرى بنفسه وطنيّا انتصارا لوطنيته ولفلسطين التي يحب.

على النخب التّحرر من " ثقافة الكسل" والبدء في العمل، على الأقل فكريّا ونظريّا في هذه المرحلة، للإعداد لمنظومة قيميّة نهضويّة، محورها التّحرر من الظلم، خاصّة أن الأوضاع مرشحة للتدهور في ظل تعاظم تفشّي العنصريّة في المجتمع الإسرائيليّ.

عمرو اغبارية

مُرَب، مُدرِّس ومحاضر فِي كُليَّة التَّرْبية فِي الجامعة العبْريَّة وَناشِط اِجتماعي

رأيك يهمنا