النموّ الاجتماعي والعاطفي في مرحلة الطفولة المبكرة

وهبَ الله الإنسان الكثير من الميزات والغرائز التي توارثها من جيل إلى آخر، البحث الأمن، كما أعطاهُ مشاعر وأحاسيس مثل الفرح، الحزن، الخوف كما تكوين مجتمعات وعلاقات. فالإنسان بطبيعته يُعتبر مخلوقا اجتماعيا- عاطفيا. في مراحل الحياة المبكرة كالطفولة والمراهقة هذه الجوانب الاجتماعية- العاطفية تكون بسيطة، قصيرة المدى، ومتقلبة، ولكن مع مرور الوقت وعند الانتقال من مرحلة نموّ إلى أخرى تتعقد أكثر فأكثر وتأخذ صورا ثابتة نسبيا.

في العامِ الأول يكتسب الطفل العديد من المهارات الاجتماعية خلال تفاعلهِ مع أمهِ والتي تزيد من تواصله معها من أجل تلبية احتياجاته الجسدية كالجوع، النظافة، التواصل الجسدي، وحاجاتٍ نفسية، التي تعتبر أساسية في تطوره العاطفي فيما بعد وبناء ثقته بنفسه. فعلى سبيل المثال الأم تُدرب طفلها على النظر إلى وجهها والابتسامة والمناغاة مما يزيد من قدرتهِ على التمييز بين الأشخاص المألوفين لديه، والنظر إليهم أثناء محادثتهم له والابتسامة لهم حين مداعبتهم له. هذه العلاقة الاجتماعية- العاطفية الأولى والمميزة التي تشكلها الأم مع طفلها تؤهلها لأن تدرك جميع احتياجاته ومشاعرهِ وأن تجيب عليهم بسرعة وبفعالية.

وأكد عالم النفس جون بولبي في مساهماتهِ النظريّة حول الترابط والتواصل بين الطفل وألام منذُ العام الأول للطفل، إن هذه الظاهرة تعتبر ظاهرة عالميه لأنها تحدث في مختلف الثقافات الإنسانيّة، ولكن هنالك فروق شخصيه في جودة العلاقة العاطفية التي تُشكل بين الأطفال وأمهاتهم، مما جعل الباحثة ميري إنسفرت المؤيدة لهذه النظرية أن تصنّف التواصل إلى أربعة أنواع أساسية: التعلق الآمن، التعلق المقاوم، التعلق غير الآمن، والتعلق العشوائي. بحيث أن التعلق الآمن بين الطفل وألام يحدث لدى غالبية أطفال العالم في هذهِ المرحلة بينما الأنواع الأخرى من التعلق التي تعتبر غير مرغوبة لنمو الأطفال تحدث لدى أقلية الأطفال. 

مع بلوغ السنة الثانية من الحياة يتناول مسار التنشئة الاجتماعية (المجتمعة) دورا كبيرا في حياة الأطفال نسبةً إلى تطورهم العاطفي والاجتماعي، ومن خلال هذا المسار يكتسب الأطفال قيم ومبادئ ومعايير اجتماعية وأخلاقية وعاطفية التي تؤثر في سلوكياتهم خاصة وأن هذه العناصر المكتسبة تذوّت إلى داخل مبنى شخصية الأطفال عندما يلقنهم الآباء إياها مرة تلو الأخرى. لذلك تُظهر تطورات جديدة في المجال الاجتماعي التي تتعلق بتطورهم الذهني ومن هذه التغيرات نذكر انتقالهم إلى مرحلة الاستقلالية بشكل أكبر عن طريق تقليص التواصل الجسدي مع أمهاتهم من أجل اللعب واستكشاف المحيط والاكتفاء بالتواصل النفسي بواسطة استعمال اللغة وطرح السلام وتبادل النظرات.

من ناحية أخرى هنالك تغيرات عاطفية إضافية في هذه المرحلة المبكرة وحتى جيل الروضة مثلًا وعيهم الذاتي لمشاعرهم الذاتية ووعي مشاعر الآخرين البسيطة كالفرح والحزن والذنب نتيجة عزمهم على مخالفةِ الوالدين، وإبداء مشاعر متحدية لهم التي تتمثل بالعناد وعدم الانصياع إلى إرشاداتهم والشعور بالخجل خاصة لدى معاقبتهم، وتقييمهم الذاتي الايجابي لدى قيامهم بسلوكيات التي ينال فخر واعتزاز الآخرين خاصة تلك التي تتعلق بالنظافة والنظام. في هذه المرحلة يتوجّب على الوالدين ملائمة أنفسهم لقدرات وحدود الطفل عن طريق مساعدته في استخدام اللغة ومشاركته في استكشافاته الجديدة والسماح للطفل في مدى معين من الاستقلاليّة للفعلِ والتجربة، والتواجد الدائم لمساعدته عند مواجهة صعوبات أو عراقيل. 

في هذا النطاق يتوجب علينا أن نحذر الوالدين من إهمال أو إساءة معاملة الأطفال في الأعوام الأولى حتى يلوغهِ الثالثة، علمًا أن الطفل في هذهِ الأعوام يميل لإزعاجهم كثيرا خلال تجاربهم الهادفة للتعبير عن استقلالهم وميولهم في القيام بسلوكيات مخالفة خلال استكشافهم للمحيط، السبب لذلك هو أن الأطفال بهذه الأجيال قادرين على ذلك. بالتالي يتسرّع بعض البالغين في تقييم هذه التصرفات كأنها عصيان متعمّد أو أذى، لذلك يرون ضرورة العقاب الصارم بهدف تقويم سلوك الطفل. بالمقابل بالغين آخرين يتخلون عن العقاب الجسدي ويفضلون إهمالهم، وكلاهما غير محبّذ.

عند الانتقال إلى مرحلة الروضة (3-5 سنوات) يتسع عالم الطفل في ذهابهِ إلى الروضة واللعب بشكل متكرّر مع أبناء جيله من الجنسين بحيث أنه يتفاعل مع أطفال جدد مختلفين عن إخوته وأقاربه مما يزيد من قدراته ومهاراته في مجال العلاقات الاجتماعية عند تفاعله ولعبه مع هؤلاء الأطفال. وبالتالي يكتسب الطفل مهارات اجتماعيه جديدة ويتدربون على تصرفات ومفاهيم جديدة إذ أن اللعب يمنحهم المساحة ويُشكل ورشة عمل اجتماعية، ويمنح الأطفال ساحة للتعبير عن المشاعر الايجابية والسلبية. 

في جيل الروضة تتطور تدريجيا القدرة على تفعيل التحكم بالذات والإدارة الشخصية، ويتمثل ذلك عن طريق طاعتهم لإرشادات وتوجيهات الآباء والأمهات، ولكن هذه القدرة لم تتطور كليا حتى الآن. من التطورات الأخرى التي تحدث في الذات لدى الأطفال بجيل الروضة نذكر قدرتهم على مشاهدة أنفسهم والتعبير عن سلوكياتهم ووعيهم وإدراكهم للتجارب المختلفة التي يمرون بها كاللعب والرقص، والغناء، والطهي، وغيرها. ومن خلال جميع التجارب السابقة يطور الطفل التقييم الذاتي الذي ينبع من طبيعة العلاقات مع الشخصيات القريبة منه. 

 وعلى مدار هذه المرحلة يطور الطفل أجزاء مهمة من هويته الجنسية، بحيث يستخدم الجنس كقاعدة لتنظيم معلوماته وفعالياته حول العالم ويطور مفهوم الذات الذي يرتكز على الجنس والذي يتطلب تبني تصرفات نموذجيو ملائمة للذكور والإناث ومعرفة أنماط ثقافية متعلقة بالذكور (شجاع، كريم، قوي وغيرها) وأخرى متعلقة بالإناث (ناعمة، رقيقه، حساسة، أديبة وغيرها) ومن ناحية أخرى تطوير التزام عاطفي وعلاقة حميمة مع الأطفال من نفس الجنس مما يساعدهم على فهم ثبات الجنس رغم التغيرات في الجيل، والملبس، وتسريحة الشعر، والسلوك.

ومن التطورات الاجتماعية التي تحدث في فترة الروضة نذكر بناء الصلة الاجتماعية بين الطفل وأبناء جيله والتي تشير إلى قدرته للتواجد معهم والإجابة عليهم بمشاعر ايجابية من أجل إثارة اهتمامهم وإكتساب الاحترام الضروري، ويكون قادرا على أن يقودهم أو أن يُقاد من قبلهم أو مثلًا إقامة فعالية تبادل الأدوار معهم. أما بالنسبة للتطورات العاطفية ففي هذه المرحلة تنمو عملية فهم المشاعر كقدرة هؤلاء الأطفال على تمييز المشاعر الايجابية كالفرح، الحب، والإعجاب في البيئة الطبيعية التي يتواجدون بها. ولكن حتى الآن يصعب عليهم تفسير نطاق المشاعر السلبية مثل الغضب، الخوف، الحزن، والتمييز بين شعور الإنسان الحقيقي وبين الشعور المخادع (كالمرض والتمارض). 

وأخيرا جميع هذه التطورات الاجتماعية- العاطفية وأيضًا الأخلاقية التي تكتسب مرحلة الطفولة المبكرة (0-5 سنوات) من خلال فعالياتهم وتجاربهم المتنوعة مع الأطفال الآخرين والبالغين كالوالدين والمربين تشكل تغيرات طبيعيه من أجل انتقالهم تدريجيا وبشكل منطقي إلى مرحلة الطفولة المتوسطة التي تتطلب ميزات أخرى اجتماعية وعاطفية معقدة أكثر. 

د. إيهاب ربيدات

محاضر كبير ، يحمل لقب الدكتوراة في علم النفس العلاجي والصحي. مركز المعلمين الجدد والمربيين في وحده الدخول للتدريس في" كليه سخنين"، له أبحاث في مجالات الجوانب العاطفيه والاجتماعيه والتعليميه للطلاب والمعلمين.

شاركونا رأيكن.م