غسان كنفاني: "الوطن ليس شرطًا أن يكون أرضًا كبيرةً، فقد يكون مساحةً صغيرةً جدًا حدودها كتفين"

بعد سنوات قليلة تكاد ترافق أصابع الكف الواحدة من اغتيال الأديب والمفكر غسان كنفاني جاءت ولادتي في إحدى مخيمات اللجوء الفلسطينية في قطاع غزة، شربت ماء المطر المتسربلة من سقف الزينكو في إحدى غفوات الشتاء القاسية، وركضت بين البيوت المتلاصقة هربا من ريح صلبة نفخت وعينا بحب الوطن، وبإجابات لا تنتهي عمن نكون ولماذا بتنا مشردين عن أرضنا وقرانا الفلسطينية التي نالت منها مجازر الاحتلال الإسرائيلي ودمرتها.

شهدت طفولتي أعوام لا تنتهي من الفعل النضالي المتواصل، أطفال الحجارة والانتفاضة الأولى 87 ثم الانتفاضة الثانية والمقاومة الشعبية أصبحت سمة ذلك الجيل، وفي هذه الأثناء بدأت أركض بين مكتبات المدرسة الابتدائية ثم الإعدادية أنهل من الكتب وأنحاز للقصص والروايات، كنت مولعة بالأدب المترجم والكتابات العالمية ربما بحثا عن حياة أخرى تشبه حياتنا في فلسطين أو هربا مما نعيشه ونراه من ممارسات الاحتلال الإسرائيلي بحقنا، حتى وقعت بين يدي أولى الروايات "رجال في الشمس" فكأنني وجدت ذاتي، هويتي فلسطين التي نعيش ونرى، وكمن يعثر على معشوقه وجدتني أبحث عن المزيد من المجموعات القصصية والروايات لغسان كنفاني، فنهلت من غيرها "عائد إلى حيفا" "أم سعد"، "ما تبقى لكم"  تسللت كتاباته إلى قلبي وبدت كأنما أرى انعكاس صورتي في المرآة، إنها أنا وأمي وأبي وأبناء المخيم والمدنية، إنها اللوحة الفلسطينية التي تجعلنا نقف مشدوهين من حبكة التوصيف والسردية البارعة، يقول ويكتب ما نشعره يتقدم في عروقنا ويبدو الملهم لشابة صغيرة لازالت في بداياتها الأدبية فكان واحة فكرية وثقافية لا تنتهي، وحتى مع مرور الأوقات وتنوع القراءات إلا أنني حتى اللحظة أجدني أعيد قراءة ما قرأت وكأن الزمن لم يمضى، بل أصبحت كتابات كنفاني أكثر التصاقا بنا ولما نؤمن به، وتحاكي واقعنا وكأنه لازال حاضرا في وعينا بعد خمسين عاما ولازال يكتب قهرنا ووجعنا ويبث الأمل في ايماننا بعدالة قضيتنا وحتمية تحررنا من الاحتلال الإسرائيلي الغادر الذي اغتاله ذات عام أسود في بيروت.

لقد تشربت من أعمال غسان كنفاني الروائية والقصصية أن فعل المقاومة باق مادامت الإرادة الفلسطينية وهي فعل غير قابل للكسر أو الانحناء فطرق جدران الخزان بات شعارا فلسطينيا وتشربته في مرحلة تشكل الوعي واللاوعي فباتت كلماته ونصوصه بمثابة الحاضنة الحامية لجيل ولد بعد النكبة وعاش تجربة اللجوء وأطفال الحجارة حتى بعد ما بعد أوسلو وكل ما عشناه ولازلنا في فلسطين، وها هنا فإننا نستشرف المستقبل بصلابة غير معهودة، وغدونا كما في الأسطورة نبقى نكتب ونناضل والانتصار والتحرر إنما مسألة وقت لكل فلسطيني ومن هنا بدأت مسيرتي الإبداعية في الكتابة الأدبية أو الاعلامية.

شهادة ووقفة

كغفوة وحيدة في ركن مهمل، يشتعل قلما حزينا تارة، هادئا، عاصفا تارة أخرى، هائما/ مناضلا، مختلطا برحيق لحن سماوي. هكذا تتراءى الصور وتحلق الكلمات لتبصر أوجاعهن، ابتساماتهن، أحلامهن، وذلك الصغير بينهن لازال زاحفا يكبر في عالم زئبقي يفقده توازنه، لكنه يبقى إنسان، الإنسان هو الوجع هو الحب هو الحياة هو الموت، الإنسان /كلنا، يأتي للحياة/نأتي به، الإنسان يعيش بيننا/نعيش بينه، الإنسان ينزوي عنا/ نعترف بهلعنا منه، الإنسان/كلنا نحيا نموت ندفن بعضنا/ أحياء، الإنسان يرشقنا بنظرات العابرين/نرشقه، يولد من جديد/نموت نحن، نبقى معا رغم الموت والحياة نشعر وننزف لنكتب، لتكتب ليكتب هو ليس أدبا وحدويا، هو ليس جنس لأجل الكتابة أو كتابة بفعل كون الإنسان ذكرا أو أنثى إنها الروح.

الكتابة روح نحاول أن نحبها في إطار قصة كانت أم رواية أم شيء آخر، إنها الصورة التي نلتقطها للحياة الدامعة فيما بيننا، هي سر لا يعرفه الكثيرون رغم أنها لم تكن سرا وهي تحيا في قلب النص، الكتابة روح ومشاعر هكذا أراها ألمسها أعشقها، إنها أبجدية الولادة واحتضار الموت، هي تختصر الكون بحروف لنعيد الحياة تارة وتارة أخرى، حين تصحو تلك الصفحات البيضاء ذات ليلة وتعود لتغفو وتصحو مع خيوط الشمس لتقبل نصا غزلته كاتب/ه ذات مساء تهتز أوتار الحب.

وقفة: لي شهادة ووقفة: أما الشهادة فهي ختم بنا وبه ولدنا، نرى الشواخص بعيون ونحس بها بعيون أخرى عيون مزروعة بالقلب، تدق خطوات الروح في القلب ليعلو صوت الخوف، الحب، العشق، الموت، الحياة باختصار، ونهذي ونعي ما نهذي لنكتب وأكتب- مادامت شهادتي- عن معتقلة في الأسر، وعن أم مهاجرة مرغمة، وعن عامل فلسطيني يئن، وعن الفقر في غزة، وعن الحب الجميل يوم كان جميلا، وعن العشق الذي لم يصرح به، وعن زينة تلك التي أحببتها في النص ولازلت أقابلها سرا بعيدا عن العيون الجاحظة، وعن مريم التي فقدت مأوى كان كل شيء، وعن فاطمة حبيبتي، وعن ذلك الرجل، وأقف طويلا عند باب الصمت علي أصغي لأنينه..

كتبت عنها وعنه وعنهم وعنا وكنت أراهم ولا زلت أسمع صوتهم يخترقني، حاولت في النص أن أخترقهم كما اخترقوني لأخترق القراء بدوري. أما هذه فكانت شهادة. أحببت الكتابة وزاد عشقي لفلسطين حين تشربتها بين ثنايا نصوص كتابات غسان كنفاني حين قال "أنا من شعب يشتعل حبًّا، ويزهو بأوسمة الأقحوان وشقائق النعمان على صدره وحرفه، ولن أدع أحدًا يسلبني حقي في صدقي"

وأعود للوقفة: سنوات طويلة بعمر الزمن كافية لأعلن غضبي للامبالاة بملكات قصصي، وأعترف أن لي حق مشروع بأن أقول لهم لقد خذلتموني/ خذلتموهن لكني بقيت وعشت وأحييت زينة ومن أحببتهم في بيت يضمهم/ن، والأصل ليس كتابا يحتفي بهم/ن بل حياة تضمهم/ن جميعا، فهم يحلمون معا، وأنا/منكم أحلم معهم فلما الابتعاد عن هموم الكاتبات/الكتاب ولما تبتعدون عمدا وإهمالا عن أحلامنا الصغيرة/الكبيرة.

تحديات متعددة

الواقع أن التحديات – من وجهة نظري الخاصة والتي طرحتها من قبل- فيمن يتلقى في بداية حياة الكاتبة أو الكاتب فقد كانت معلمتي في المدرسة الابتدائية أول معيق واجهني ووقف في وجهي فلم أحفل منها سوى بشبح ابتسامة حين قرأت قصتي قائلة: لا نريد الكتابة بموضوعات تتعلق بالسياسة أو فلسطين هنا فقط مكان دراسي يجب أن تكتبي قصة أخرى… وكم كنت أود في حينه أن أهديها قصص "أم سعد" أو "أرض البرتقال الحزين".

.. التحدي هو الكلمات الأولى التي نتلقاها منذ نعومة أظافرنا فالثالوث المقدس يرهب الكبار فيحاولون إرهابنا ورغم صغر سني وقتها فقد كانت ملاحظتها كفيلة باستفزازي تجاه نتاجي الأول والذي كنت أتوقع عليه الثناء بعدما عرضته على إخوتي وأخواتي وغيرهم، إلا أنها كان من الممكن أن تتحول لمعيق فبدلا أن أحظى بملاحظاتها ورؤيتها للقصة التي كانت رمزية وتمثل الوطن أجبرت على تغييرها لتتلاءم وما يتنامى في مخيلة المعلمة -تقليدية الفكر. والمعلمة قد تكون لدى آخرين المعلم، أو الأب، أو رئيس المؤسسة، أو آخرون يمنحهم المكان والمنصب هالة تخفي دواخلهم وجهلهم.

كما أن المؤسسات الثقافية غائبة عنا نحن الكاتبات والكتاب، وإذا وجدت فهي بلا تخطيط ولا استراتيجية عمل ولا استمرارية فهي أشبه بالمشروع التجاري الذي لا يحقق ربحا فيذوي كأنه لم يكن، إنها المؤسسات التي من المفترض أن تأخذ بيد الكتاب والكاتبات في بداية طريقهم تصقل موهبتهم وتنمي قدراتهم والأجدر أن يكون القائمين عليها أيضا أهلا لمنح خبراتهم وتجاربهم للكتاب الناشئين، وكان الانقسام بمثابة القشرة التي قضمت ظهر البعير فجعلتنا في قطاع غزة نئن تحت وطأة الحسرة والقهر سنوات طويلة وبعيدين عن المشهد الثقافي مكرهين لا نملك إرادة حرة للفعل الثقافي بعمقه فيما مضى، باستثناء السنوات الأخيرة التي بدا واضحا فيها أولوية للمشهد الثقافي واستمرارية إقامة معرض الكتاب وكافة الفعاليات المواكبة له والتي تلامس شغف الجيل الشاب وتشكل دافعا وحافزا للمشاركة والانخراط بالقدر المتاح والممكن نظرا لواقع قطاع غزة.

والمؤسسات الأهلية والنسوية- ليست أحسن حالا- تجدها تهتم لفترة ما بالكتاب والكاتبات ثم يزول اهتمامها، فهي قد تعقد دورات أو ورش عمل أو تنشر بعضا من الإبداعات لكن الاهتمام بشريحة المبدعات والمبدعين هو اهتمام من وجهة نظري شكلي ووقتي مرتبط بفعاليات لمناسبات وطنية أو ثقافية وليس ذات نهج ورؤية طموحة مستمرة تسعى لتشكيل وتثبت الرواية الفلسطينية. كما أن هنالك الإحباط الذي يصيب المبدعين والمبدعات من استخفاف الآخرين بالكتابة بشكل عام واعتبارها ترفا وليس أمرا جوهريا أو رسالة، فإذا لم يتذرع المبدع بقوة الإرادة والعزيمة لتوقف حتما.

وللأسف يعتبر الكثيرون أن المؤسسة الزواجية تحكم على الإبداع وخاصة للكاتبات بالعدم والتلاشي وهذا اعتبره إجحافا بحق الكاتبات وأؤكد أن هذه المقولة ليست جوهرية وليست أساسية ولا يمكن تعميمها على الكاتبات عموما فلابد من معرفة الأسباب الحقيقة الكامنة وراء ابتعادهن عن الساحة الأدبية وليس التخفي خلف المبررات الجاهزة، وأجد في نفسي نموذج مختلف تماما فالزوج سبب رئيسي في اتاحة مناخ ابداعي وفكري وهو ملجأي الأول كناقد وصديق وقارئ.

ولا نغفل عن تعقيدات المجتمع وتحكم الثقافة الذكورية فيه لا تساعد المبدعات، بل تشكل معيقا إضافيا في محاولتهن للاستمرارية، والدور التقليدي المنوط بالمرأة، ورغم كل ذلك ولن أشير الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يؤثر على الجميع، ويزيد من تعقيد الحالة الفلسطينية والمشهد الثقافي الفلسطيني تحديدا لكاتبي وكاتبات غزة إلا أنني من باب المسؤولية أيضا أؤكد أن الوعي الذاتي والالهام والدافعية الأولى يجب أن تكون من الكاتب نفسه.

كلمة أخيرة

حاولت وكتبت وسأكتب وسأبقى أكتب، وسأموت كتابة لأحيا.. فالكتابة فعل حياة..

وأختم قولي بما قاله كنفاني: "أتعرفينَ ما هو الوطن يا صفية؟، الوطن هو ألَّا يحدث ذلك كلُّه"


(استخدام الصور بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected]).

هداية صالح شمعون

كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة

رأيك يهمنا