ماذا يحدث عندما نصمت؟
يتناول هذا المقال موضوع الصمت في ظلّ الأزمات والحرب, ماذا يحدث عندما نصمت؟ على المستوى الفردي والمجتمعي، ماذا يعني أن نصمت في وجه ما يحدث، كيف يبدو صمتنا، وما هو دور الصمت في صياغة الواقع؟ سأقوم في تحليل الظاهرة عبر منظورٍ نفسي-مجتمعي.
أود أن أفتتح في هذا الاقتباس "يعدّ الصمت في علم النفس بمثابة أحد ردود الفعل المباشرة عند اختبار حالات قصوى من الصدمات التي يتعرض لها الإنسان. وما يعبّر عنه الصمت أو العجز عن الكلام في هذه الحالة يعتبر حالة من "عدم الاستجابة" كرد فعل أولي نتيجة للتعرض لحالات الإرهاب والصدمات". في هذه الحالة يعتبر الصمت أو العجز عن الكلام آلية دفاع نفسية يوظفها الشخص لحماية نفسه من الخطر المهدّد، يلجأ الفرد (أو الجماعة) إلى الصمت ظنًّا منه أنه الملاذ نحو الأمان للنفس وللجسد. والسؤال الذي نطرحه هنا: ماذا لو كان الإرهاب والصدمات التي يتعرض لها الإنسان موقدة للرغبات النفسية في التعبير والدفاع عن النفس؟ ماذا لو كانت الصدمات المرهبة بمثابة فتيل قنديل أشعل كل هذه الرغبات بالتعبير، بل والصراخ، ولكن بدلًا من ذلك، يتجسد الإرهاب بلجمِ الأفواه خوفًا وذعرًا من صراخ الحقيقة؟ وماذا يحصل حين تتحول آلية الحماية إلى آلية قمعيّة أخرى؟
عندما يشهد الإنسان ممارسة لأقصى حالات الفجور الأخلاقي والإنساني في بثّ حيّ ومباشر، عندما تقتصر الرؤية على لونين لا ثالث لها، فيختفي الامتداد بين النقيضين، وتتجلّى الحقيقة في حضور متكامل وصريح، فتتشكل حالة وجوديّة تثير كل حفيظة النفس البشرية، فيعقب كل هذا حالة من الصمت الصارخ، صمت ذو زئير يدوي في الأعماق.
فان أكثر ما تتسم به هذه الممارسة هو إضفاء لحالة اللاعقلانية البحتة في خلق المسافة ما بين حالة الإتاحة والانكشاف الشديد مغلفة بوضعية الشلل الكامل في الحاجة الملحة للتعبير والصراخ. هذا يتجلى جيدًا في واقع فيه قاب قوسين أو أدنى، حالات القتل، العبث، الاستنفار، المناجاة، كل هذا وذاك بمسافة لا تتعدى لمسة لشاشة أو لجهاز إلكتروني "ذكي"، لتجد أمامك أهوال من المشاهد المفجعة التي تشاهدها وتستشعرها بكامل قواك الحسية، عبر مختلف المنصات الرقمية، ودون حاجة إلى تلفاز.
ولإضافة عنصر المفارقة على النص الذي هو حتمًا مستمد من واقعٍ تغمرهُ المفارقات، وعند بداية كتابتي للمقالة، وخلال تصفح أولي للإنترنت حول الموضوع، كان أول ما ظهر هو هذا الإصدار "لغة الصمت" وفي مقدمته الجملة التالية مترجمة من الإنجليزية: "ولكن، … فقد أصبح الصمت أداة مقبولة وفعّالة لتصوير أحداث تاريخية من الرعب أو الصدمة التي تستمر في تحدي الحدود الأخلاقية للخيال". ويختتم في الجملة بترجمتها للعربية: "يقع خارج حدود الكلام كما يقع خارج حدود العقل". وهو إصدار لدراسة منذ العام 2009، يُعنى بالحالة الأدبية التي ظهرت ما بعد الحرب العالمية الثانية لتوثق وتنقل أحداث الإبادة، مشيرة إلى الحركة التي نادت بالتزام الصمت بدلًا من وصف الأحداث باعتبار ما حصل يقع خارج حدود اللغة وأن اللغة في دورها كانت قد فشلت في أدائها لمهمتها في التعبير عن الحالة الوجدانية الإنسانية بادعاء أن الوجود لم يشهد حالة مثيلة لها منذ الأزل.
في هذه اللحظة، لم أعد أتساءل "كيف من الممكن؟"، أو "كيف لهذا أن يحصل؟". وأصبح السؤال أقرب إلى "متى ينتهي الفلسطيني من أقداره المحكمة باسقاطات مرضية لم يختبرها الوجود قط". فيبدو جليًّا أن للصمت وظائف عديدة في هذا السياق. فتارة يعتبر حالة من الجماليات الأدبية المبتكرة للإشادة بحالة إنسانية "مبتكرة"، وتارة أخرى يصبح الصمت أداة لشراء حالة "الرضا" و"الاستسلام"، لتصميم نشوة "انتصار" زائفة في معركة ربما كانت قد نشبت، ولو بصمت. فهل لا زال الصمت علامة الرضا؟
من جانبٍ آخر، يعتبر الصمت "بالإرادة" أداة بليغة التعبير ومن شأنه إيصال رسائل صارخة لا سيّما في حالات ومواقف تخوننا اللغة فيها. عن دور الصمت في أحداث مؤلمة وترك الأثر على المستوى الجمعي، كانت قد نشرت مجلة "ذي إندبندنت" البريطانية مقالة حول دور الصمت تاريخيا بعنوان: "عندما لا يكون هناك ضجيج، يحدث الضجيج حقًّا". مضيفة انّ الصمت الذي يقف عند حدث إرهابي جلل أو ذكرى حرب ويشكل حالة امتناع جماعية له صدى كبير في أوساط الجماعة هذا أنه يحمل تصميمًا جماعيًا، على عدم السماح بتكرار الحدث.
فتقودني هذه العبارات في النهاية، وفي حين شهد التاريخ قوة وحالات انتصار للتعبير الصامت، أتساءل، كيف لو قامت الإرادة الجماعية باختيار الصمت كلغة للتعبير، ماذا لو لم يقتصر الصمت على الكلام؟ وأي الممارسات "الصامتة" كانت حتمًا ستحدث ذلك الضجيج وذلك الصوت؟ وهل أصبح الصمت جزءًا وركيزة أساسية في ذاكرتنا الجماعية؟ وإلى أي حالات الذاكرة "الجديدة" يقودنا كل هذا؟