أطفال غزّة والصديق الأليف

تخيل نفسك في غزة، ضجيج التفجيرات المتتالية يقترب بسرعة هائلة ومرعبة، فتشعر بخليط من الهلع والمسؤولية، وعليك التصرف بسرعة، ها قد أتت الساعة، عليك إخلاء بيتك مع العائلة لتجنب الكارثة المقتربة. قد تصرخ على أطفالك بأن يستعدوا للخروج بأكبر سرعة ممكنة من بيتهم المألوف لمصير مجهول.

تلتقي عيناك بعيني زوجتك… حينها يصرخ أحد الأطفال: "يابا البسة، البسة.. يابا!"، يجنّ جنونك، وتشعر بالضيق لعدم إدراك الابن لخطورة الموقف، أنت تحاول أن تقنعه بترك القطة لمصيرها، فالأعمار بيد الله، قد تنجو المسكينة وقد تهلك مثل عشرات الآلاف من أبناء شعبك، لا وقت لديكم للبحث عن القطة الهاربة من صوت القصف المدوي. إلا أن صراخ الابن يزداد، ينجح بالتحرر من قبضتك ويركض عائدًا إلى المنزل، قد تستشيط غضبًا، فكيف تعرضون أنفسكم للخطر بسبب قطة؟ لكنك تلحق بابنك وتساعده على الإمساك بالقطة. خارج المنزل الشارع مليء بالحطام والدخان ورائحة الموت في كل مكان. الولد متمسك بقطته والهلع يملأ عيناه، لا تفهم كيف تجرأ ابنك على اتخاذ هذه الخطوة الشُجاعة والمجنونة في الوقتِ نفسه. 

فما الذي يجعل طفل يفكر في قطته تحت هذه الظروف؟ وماذا يوفّر الحيوان الأليف للأطفال؟

في مواقف وأزمات قصوى مثل الحرب، حين يتخذ البالغون المسؤولية بخصوص عائلتهم وصغارهم فإنهم يعيدون لأنفسهم جزء من الشعور بالسيطرة على الموقف، أما الأطفال فتكون إحدى طرق تعاملهم مع الشعور بالعجز هي إنقاذ الحيوان الأليف. يمنحهم ذلك الإحساس بالسيطرة والقوة، إلى جانب الحفاظ على الشعور بالألفة، وكون الحيوان كائن أضعف من الطفل، فإن إغاثته تعيد جزء صغير من الشعور بالمقدرة، وتوفر له الطمأنينة والإحساس بأهميته الذاتية، في وقت تكون حياته وحياة عائلته التي يحبها تحت تهديد الخطر.  

بالرغم من أننا لا نحمل في ذهننا صورة لمجتمعنا الفلسطيني كمحب للحيوانات الأليفة، لكثرة القطط والكلاب في الشوارع وفي حاويات القمامة…  إلا أن كمية القصص عن أطفال وبالغين تحت القصف في غزة الذين قد بذلوا جهدًا كبيرًا لإنقاذ حيواناتهم الأليفة تفوق التوقعات. من طفل مصاب رفض التخلي عن قطته خلال نقله إلى المستشفى يتمسك بها رغم اصابته، إلى امرأة تركض إلى منزلها وسط القصف لتحضر أقفاص طيورها، إلى إغاثة الحيوانات الأليفة من تحت الركام، إلى تضميد جروح الكلاب والقطط ومشاركتهم بمياه الشرب.

ممارسات الاحتلال عبر القتل العشوائي والتدمير والتجويع تهدف إلى تدمير القيمة الإنسانية لمجموع السكان ويتعرض الأطفال لجزء كبير من هذه الممارسات بشكل مباشر أو غير مباشر. في الوضع الطبيعي قد لا يتصرف أطفال غزة بالشكل الذي نراه الآن، فكالعديد من الأولاد في مجتمعات أخرى التي لا تولي أهمية خاصة لرعاية الحيوانات الاليفة بالضرورة، قد يركلون القطط ويلاحقونها ولا يهتمون لأمرها. في زمن الحرب يظهر الاهتمام والعطاء بتقديم المياه والطعام للقطط وكأن الأطفال قد فهموا أن مصيرهم بات مشتركا تحت وطأة القهر والموت الطائش، فمعاملة الأطفال للحيوانات الأليفة في هذه الظروف هي تعبير خالص عن العاطفة لمن هو أضعف منهم، وهي ربما النافذة الوحيدة للتعبير عن هذه العاطفة في الجو الهستيري والفوضى من حولهم. 

عدا عن مشاعر الخوف والهلع والقلق على مصير ذويهم… لدى الأطفال الحاجة للتعبير عن التعاطف والاهتمام بالحيوانات الأليفة مثلما يهتم أهاليهم الكبار لأمرهم، وهو نوع من المحاكاة للجوّ العام الذي يبذل فيه الجميع المساعدة والاهتمام، فيجدون مكانهم لممارسة دورهم في هذه الظروف القاسية، وهي وسيلة لمقاومة نزع إنسانيتهم منهم من قبل الاحتلال، فيؤكدون عليها بما يبذلونه من اهتمام لمصير الكائنات الأضعف منهم.

عليك النزوح، لأن بيتك لم يعد آمنا، ولا تحظى الواحدة منّا بأكثر من ساعة واحدة لجمع كل أشيائك القيّمة والأغراض الضرورية للحياة، والتفكير في جميع احتياجات أطفالك في واقع مستحيل، يصعب على الخيال. الخوف يدبّ في قلبك وكل ما تعرفينه أن عائلتك تحت الخطر وعليكم الانصراف بأسرع وقت ممكن، والمضي في طريقكم جنوبًا، سائرون على الأقدام مع الحشود النازحة جنوبًا. بعد أن وضعت أغراضك في أصغر حقيبة، تقف إبنتك أمامك حاملة قطتها على يديها، معلنة بنظرة غير مساومة تقول: "لاكي" آتيا معنا.

في قصتنا الثانية، نزحت طفلة مع صديقها الأليف تحمله بين يديها، ثم واصلت الاعتناء به في ظروف حياتية مخيفة وغير مألوفة. على الأرجح، سيمرّ كلا من الطفلة والحيوان الأليف مراحل متشابهة من التعامل مع الصدمة والواقع المرعب الجديد، يتأقلمون سويةً، بل يساعدها على التأقلم ويواسيها ويشعرها بأهميتها بسبب تعلقه بها، وبهذا يكون التواصل بينهم ضروري لتحقيق الاستقرار والرفاهية والطمأنينة، فيوفر هذا ملاذًا هادئًا للتغلب على الصدمة واستكشاف العواطف، ويعزز مشاعر تقدير الذات، وترى الطفلة في حيوانها الأليف شريكا في مصيرها.

يكوّن الأطفال في الوضع الطبيعي نوعين من العلاقات مع الحيوانات، الأولى علاقة موضوعية، يرعى الطفل فيها الحيوان الأليف كما يعتني بألعابه ووظائفه، والأخرى علاقة خاصة يبني فيها علاقة مباشرة معه، يفهم من خلالها مشاعر الحيوان ويتنبأ باحتياجاته، فتتطور علاقة صداقة يعتني فيها الطفل بالحيوان من دافع حب وتواصل. في الحالة الأولى قد يترك الطفل الحيوان الأليف لمصيره في وقت الأزمات كما يترك اغراضه وألعابه، أما في الحالة الثانية فإنه على الأغلب سيبذل جهدًا لإنقاذ صديقه وإغاثته.

عندما يبني الطفل علاقة خاصة مع الحيوان الأليف، يحكم هذه العلاقة نوعان من التواصل: علاقة مكملة وهي عبارة عن علاقة من طفل يملك مقومات الحياة الطبيعية، لكنه يحب تربية الحيوانات الاليفة، أما في النوع الثاني فإن الحيوان الأليف يلعب دور البديل، يملأ فراغ تركه شخص مفقود كأحد أفراد العائلة أو صديق، فيعوض الطفل عن هذا الفقدان بالتواصل مع الحيوانات الأليفة والاهتمام بها ورعايتها. 

العلاقة الطبيعية مع الحيوانات الأليفة هي العلاقة المكملة، فتعود تربية الحيوانات الأليفة بالفائدة على أصحابها، ومن بين فوائدها دعم جهاز المناعة، تخفيض ضغط الدم، وتخفيف القلق ،والتوتر والاكتئاب. أما في وقت الأزمات المصيرية كالحرب، حين لا تعود الحياة الطبيعية شيئا مألوفا، تكون العلاقة البديلة ذات فائدة، في هذه الحالة يكون الحيوان الأليف بمثابة وسيلة علاج لفترة معينة، كرد على الصدمة في وقت الأزمة، يحافظ على ما هو مألوف، يعطي دعم واستقرار في وسط الدمار والفوضى ويعوض عن الفقدان. 

معاملة الحيوانات الحسنة تكشف عالم الأطفال الداخلي وتعكس احتياجاتهم الداخلية بالعطف والحنان، وبذلك توفر لهم إمكانية التعامل مع الظروف التي يمرون بها بشكل مفيد وانساني حتى يعود التوازن من جديد بعد انتهاء الأزمة.


تصوير: معتز عزايزة.

د. منى شاهين

طبيبة بيطرية وناشطة بيئية

سناء سلامة
جميل ومؤثر.. شكرا ع المقالة..
الجمعة 19 كانون الثاني 2024
رأيك يهمنا