الصمت المدوّي في غياب المنطق

اخترتُ "رسالة من تحت الأنقاض"، من أجل إتمام حبر على ورق يصفف الحروف بين أسطر من الغضب ونقاط من الدمع، واصفة الحرب على غزة.  لا أتحدث عن الحرب الآنية (طوفان الأقصى)، ولا أعلم أيضا عن أي حرب كتبت. لم أترك بصمة تاريخ أو شامة تعريفية. أخمن أنها حرب ال 2008- 2009 تبعا لمكان الرسالة التي وجدها أبي بين دفاتري، حين رتب بعض رفوف مكتبة بيتنا القديمة. أرسل لي نسخة منها وقال: كأنها كُتبت اليوم. 

هل يهمّ التاريخ أصلا؟ فهي الحروب كلها متشابهة ببشاعتها، وظلمها وسوادها الفحميّ. لسببٍ ما أيضا لم أكتب أسمي، بل واستهلت بمقدمتي أن الكاتب مجرد إنسان يكتب من مجرد مكان. مضحك مبكي، فهذا يتناسب تماما مع كمّ الأفواه وتشكيل كلمة الحق وقائلها بأشكال هندسية متشابكة لطمسها، كما هو حالنا اليوم. 

وأقتبس من تلك الرسالة "يختبئون خلف ستار السلام، يقتلون، يذبحون يهدمون ومن ثم يقولون: هدفنا لا شيئ سوى السلام والقضاء على الإرهاب. نظرت إلى نفسي بصدمةٍ شديدة؛ هل بالإرهاب يقضون على الإرهاب؟" هل نعيد التاريخ، ونجدد فقط أسماء الضحايا وتعدادهم؟ وماذا بعد؟ وماذا عن يوم غد؟ ابتسم مشمئزة مخذولة، أين الإنسانية؟ فقد غابَ الشرق وتعاظم سواد الغرب مبتعدًا عن القيم التي زعمها، أما العرب، سكون داكن وغثيان...

'هم الأدرى هم أصحاب القرار'، كتبت حينها غير مقتنعة، أعلم جيدا أن السلاح بيد الجبان يجرح - والسلاح لا يقتصر فقط على الآليات القتالية، بل يشمل اتفاقيات وصفقات قذرة ومشاريع عنصرية تلغي بها الكيان الأضعف. 

في رسالتي، تلك كما هذه، أحمل غضبا للقادة أصحاب القرار، منهم الأجانب ومنهم للأسف أيضا العرب. فنحن كالدمى، يحركونها بخيوطهم، يلعبون الاعيبهم منها التكتيكية ومنها الصريحة القبيحة. غزة تحولت لمقبرة، لمساحة تجريبية تختبر درجات غير معهودة من الدمار والخراب، تقدم ضحايا أطفال ونساء وشباب من جميع الأعمار، كانوا يحلمون بعيش كريم. وأولئك الذين نجوا من الموت بأعجوبة يواجهون الأصعب منه من جوع وألم الفقدان وأوجاع جسدية ومعنوية ونفسية، بالكاد يتنفسون بيئة ينعدم فيها كل شيء، فالنساء تغرق بدم دوراتها الشهرية والأطفال بجراحهم وجوعهم وأمراضهم التي لا تلقى علاجا يخفف آلامهم أو سريرا يسندهم والشباب مخذولون، فاقدون للأمل، متشبثون بإيمانهم وحده ومتقبلون لمصائرهم. أما نحن - فلسطينيو الداخل، نحن حربُنا من نوع آخر، أفواهنا مكممة والملاحقات السياسية تتربص بنا.

أعود لنفسي وأتساءل، أصلا من هي تلك القادة ومن كلفهم بأمرنا؟ ومن نحن؟ ولمن نتبع؟ وماذا نريد أصلا؟ فهل نتفق على مسار واحد، أم اتفق العرب على ألا يتفقوا، وذهب الصالح بعزاء الطالح؟ ما مصير قضية فلسطين؟ ما هي استراتيجيتنا؟ هل نقرأ ذات الصفحة أم كل على هواه يسير؟ وهل نتبع أسلوب اللوم والتوبيخ أم أن هناك مجالا، بل ضرورة للتصرف الذكي البناء بعيدا عن مجريات حرب الآنية واسقاطاتها الكارثية؟ وماذا عن فصل الدين عن الدولة؟ أم ستنحصر فلسطين الأرض والتراث والتاريخ بأبعادها الدينية كما يريد لها البعض؟

أسئلة عن يوم غد

من سيبني غزة عن جديد؟ وكيف ستكون ملامحها؟ وكيف تطيب جروح من تبقى من أهلها؟ وماذا عن أهلنا في الضفة الغربية؟ وأهلنا في القدس والشتات، وأولئك من بيننا المهددين بسلب البيوت أو هدمها؟ 

وماذا عنّا فلسطينيو الداخل؟ هل ستفرض علينا وضعية جديدة؟ وهل ستضيق علينا مساحة الحياة والوجود؟ وهل ستتفاقم العنصرية تجاهنا سوءا والاعتداءات وربما الإعدامات الميدانية مع إتاحة التسلح لكل من هب ودب؟ وهل سنعود لمشاهد الإرهاب المدني الذي كان التهديد الأكبر علينا قبل الحرب مع انتشار السلاح غير المرخص في بلداتنا على مرأى ومسمع وتقاعس سلطات إنفاذ القانون الاسرائيلية المتواطئة مع هذه المأساة؟  

وماذا عن الشباب الذي همه أن يستقل؟ هل تتحول أفكاره المتزايدة للهجرة ملاذا أخيرا أمامه؟ 

وماذا عن موطني فلسطين؟ هل نراه سالما منعما وغانما مكرما؟ هل من حل سلمي منطقي يلوح في الأفق؟ 

ومن سيعيد مجدنا التليد؟ يبدو أننا سنحتاج الألف ميل من الحديث والشرح لإعادة موضعة البوصلة نحو قيم الحق والعدالة والإنصاف. وهل سيرفرف الأخضر، والأحمر والأسود والأبيض؟ أم ستسيل الألوان مختلطة ببعضها لتصبح لونا بنيا شاحبا فاقدا للحياة؟! 

نحنُ في حالة سريالية بعيدة عن المنطق، وكأننا حاضرون غائبون، نفتقد للقيادة القوية المؤثرة، نترقب الحلول وأيادينا مكبلة، فمن سيجيب على كل هذه الأسئلة؟!

أعلم أنها بداية عام جديد، وكم كنت أتمنى أن افتتحه بكلمات إيجابية وأمنيات عطرة، ولست قادرة على فعل ذلك كما الكثيرون من بيننا، فالمفتاح في ما ستؤول إليه الأمور في غزة، ومع أطفالها ونسائها الذين يدفعون أثمانا باهظة في هذه الحرب المستعرة والظالمة. ستعود تلك الكلمات حين تعود هي، حين تحيا وتزهر عن جديد. ستعود مجروحة، ولكن أقوى بعزة أهلها. سنعود نحن أيضا أقوى باجتهادنا وعزتنا بأفعالنا ونجاحاتنا العلمية والأكاديمية والثقافية، فهذا ما لدينا لنتركه من أثر، إيمانا بقدراتنا، ومحبتنا للحياة و تشبثا بقيمنا الإنسانية-  في الغربة كما في الوطن.

'نحن نعلمكم الحياة يا سيدي - We teach life, Sir - رفيف زيادة'

ربما أترك هذه الرسالة أيضا دون تاريخ وزمان ومكان.

التوقيع: إنسان

المكان: مكان ما؛ التاريخ: يومًا ما. 

د. حنان خميس

مهندسة مختصة في مجال الهندسة الطبية، مديرة منتج في شركة Siemens Healthineers  الألمانية، ومؤسسة شريكة لجمعية نساء عربيات في مجالي العلوم والهندسة AWSc.

شاركونا رأيكن.م