ما بين نيسان وأيار
لا أعرف إن كانت الصدفة وراء اختيار أسمائهم، أو هناك من قصد أن يتباركوا بأسماء الأنبياء والصالحات. ولكن ما أعرفه أن خروجهم من قرية عبلين ذلك النيسان لم يكن صدفة. لقد خرجوا محملين ببعض الأغراض على ظهر الفرس وبأمل كبير بالعودة بعد عدة أيام. أصغرهم كان عيسى وأكبرهم كانت خديجة، وتوسطهم محمد وأحمد وموسى.
وجهتهم كانت إلى "العِشْ"، منطقة تقع ما بين بلدة عبلين ومدينة طمرة، هناك مكثوا عدة أشهر حتى بدأت تتوارد الأخبار عن احتلال اليهود للقرية.
"علينا شد الرحال باتجاه الشمال"، قالت الجدة حليمة، وانطلقوا مشياً من العِشْ إلى بلدة الرامة الجليلية، ومن هناك إلى مخيم برج البراجنة إلى أن استقروا أخيراً في مخيم عين الحلوة في لبنان.
طال خبر العودة، إلى أن جاء اليوم الموعود بعد سنة من رحيلهم. "اليهود فتحوا الطريق وبإمكانكم العودة اليوم". لم يكن ثمة وقت للتفكير أو مجال للنقاش، فربما سيغلق اليهود الطريق غداً. ولكن العودة كانت على مراحل، أولى العائدات تكون الجدة مع أحفادها الثلاثة خديجة وأحمد وموسى. امتطت الجدة الحصان وخلفها أحمد، بينما حملت خديجة أخاها موسى الصغير على كتفيها من لبنان إلى عبلين. أما أفراد العائلة الآخرون، فيعودون في اليوم التالي. ولكنه القدر والاحتلال معاً. فقد أٌغلِقت الحدود في اليوم التالي ولم يستطع باقي أفراد العائلة العودة.
ربت الجدة حليمة أحفادها وكانت خديجة هي الأم والأخت والصديقة وكل شيء بالنسبة لأحمد وموسى بعد أن سجلوا الأخوين في هويتها.
مرّت الشهور وغابت السنوات وانضم الأب محمود نجمي إلى الثوار وجاء للزيارة في ليلة حالكة. تسلل إلى داخل المنزل وأيقظ أبناءه الثلاثة. ضمهم إلى صدره ونام بجانبهم حتى الصباح. ذلك الحضن الذي نسي الأبناء رائحته. ولكن هذه الضمة كانت كافية لتكون الزوادة لسنوات طوال من الفقدان بعدها.
ومع شروق الشمس وصل خبر عودة محمود المطارد إلى البلدة كلها. الكل يعرف شجاعته في الهروب مجدداً في كل مرة. وكانت الزيارة الأولى لشخص يحمل معه رسالة بأن خوري البلدة يريد مقابلة محمود. وبعد أن تناول فطوره ذهب إلى الكنيسة. ودعته خديجة مع ابتسامة عريضة من القلب. "هذا ألذ فطور أكلته في حياتي"، قالت والدموع تخرج من عينها بدون استئذان.
سرعان ما عرف محمود أن هذا كمين. فلم يكن الخوري بانتظاره ولم يوجه له الدعوة أصلاً. لقد كانت محاولة للقبض عليه ولزرع الفتنة بين أبناء البلد الواحد. وهذه المرة كانت محاولة ناجحة. اعتقل محمود وتم نفيه إلى جنين، ومن هناك وصل إلى الأردن وبعدها إلى سوريا ومن ثم إلى العائلة في لبنان، حيث كانت قد انتقلت من برج البراجنة إلى مخيم عين الحلوة.
أربعون سنة مرّت لتلتقي العائلة مجدداً. كان ذلك في أواخر الثمانينات في الأردن، كبُر الأب وكبرت الأم وكبر الأبناء ومعهم كبرت الذكريات ورحلة التهجير. الأم، كلثوم، لم تعد تحتمل البعد والهجرة وقررت العودة إلى فلسطين التاريخية. لُم شمل العائلة.
الأب محمود رفض العودة، مبرراً ذلك بعدم قبوله فكرة سقوط فلسطين وعاد أدراجه إلى مخيم عين الحلوة ودُفن هناك مع ابنه محمد. عادت كلثوم الأم إلى عبلين في بداية التسعينات لترى أبناءها قد كبروا ولكل منهم أولاد وأحفاد.
مع تلك العودة لكلثوم الأم عادت الحياة إلى جدتي خديجة محمود أسعد نجمي، لتبدأ حينها الاستثمار في كل لحظة لقاء في العائلة لتحكي وتروي لنا قصتها، نحن الأحفاد من الجيل الثالث للنكبة التي طالما حاول أهلنا من أبناء الجيل الثاني تجنب الحديث أمامنا حولها وحول ما كان وما سمعوه عن التهجير. وقصتها كانت وما زالت قصة شعب كامل عاش التهجير بكل حذافيره.
لجدتي اليوم 31 حفيداً، لكل منهم قصته ومعتقداته ودينه. منا المسلم والمسيحي واليهودي، نلتف كلنا في المناسبات العائلية حولها لتقص علينا أجمل وأصعب القصص وتزرع في ذاكرتنا بذور المعرفة عما كان؛ قصصاً لم نتعلمها في المدارس بهذه الدقة. ودائماً كانت تنهي قصصها بتوصيتنا بالاعتناء بهذه البذور وريّها لتستمر بالانتقال جيلاً بعد جيل.
75 سنة مرت ولا زال الاحتلال قابعاً في مكانه، وخلال هذه السنوات طوّر الفلسطينيون العديد من آليات النضال ونشر الرواية الفلسطينية. منها المتفق عليه ومنها ما زال رهن النقاش عليه. ومع اندلاع الانتفاضة الثانية وعقب دخول أريئيل شارون إلى المسجد الأقصى، كان أكتوبر 2000 محطة مفصلية في حياة المجتمع الفلسطيني في الداخل، عندما خرج أبناؤه للتضامن مع أبناء شعبهم في الضفة وغزة. حينها، أعدمت الشرطة الإسرائيلية 13 شخصاً من أبناء مجتمعنا. وهذا الحدث الجلل أعاد لجزء من الأحفاد قصص الجدة خديجة عن الخوف وألم الفقدان.
كان هناك جيل لم يردعه الخوف، جيل لديه قيادة سياسية قوية تقوده وتعزز نشر الرواية وتدعم آليات النضال الفلسطيني بطرق جديدة، منها القضائية من خلال المطالبة بالتحقيق لإظهار حقيقة تخاذل وتعامل الشرطة مع المجتمع العربي، وطرق أخرى عديدة هدفت إلى إيصال رسالة وقصة شعب لكل بقاع العالم. فنحن لم نعد نخاف، الرواية الفلسطينية يجب أن تصل إلى المحتل، قبل الصديق في العالم أجمع.
مرت السنوات وجاء أيار 2021، "هبة الكرامة" محطة أخرى في حياة المجتمع الفلسطيني، حاولت من خلالها الدولة والقادة السياسيون والعنصريون فيها إخراس الصوت والحق الفلسطيني من الصلاة في المسجد الأقصى، لكن هذه المرة جاء آيار مع قيادة ضعيفة، أضعفها التناحر فيما بينها على المستوى المحلي الداخلي، لكنها قيادة استطاعت على مدار سنوات طوال زيادة وعي المجتمع الإسرائيلي والدولي حول حقوقنا كفلسطينيين. واليوم، أكثر من ذي قبل هناك قوى يهودية تتحدث حول التمييز والاضطهاد الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني.
قد يعارضني البعض، وهذا شرعي للغاية، ولكنني اليوم على قناعة تامة بأن روايتنا يجب أن تصل بكل الطرق المتاحة أمامنا، تماماً كما تفعل جدتي حتى يومنا هذا، وأيضاً من خلال خلق وتطوير طرق أخرى.
في الأشهر الأخيرة أدير "المركز اليهودي - العربي للسلام" في "جفعات حبيبة"، وهو مكان أطمح من خلال إدارته إلى إيصال صوت جدتي وصوت أهلي وصوتي أنا والمجتمع العربي لتعزيز دائرة الوعي العام في المجتمع الإسرائيلي حول الرواية الفلسطينية، مع الاعتراف بوجود شعب يعيش معنا وعلينا تعلم العيش معاً دون التنازل عن حقنا في العيش الكريم وفي زرع روايتنا جيلاً بعد جيل.
الصورة: من أرشيف "المكتبة الوطنية" في القدس.