"هبة الكرامة" - ملاحظات واستنتاجات

في أحد الملفات الذي أمثل فيه ناشطاً سياسياً، وفي جلسة الرد على لائحة الاتهام، وقفت مندوبة النيابة لتقدم مرافعة مطولة، حامية الوطيس، تشرح فيها بإسهاب كيف أن منشورات هذا الناشط في شبكة التواصل "فيسبوك"، شكلت "تحريضًا مباشرًا لأحداث الشغب التي شهدتها البلاد في شهر أيار 2021"، في إشارة منها لـ "هبة الكرامة". المفارقة أن المنشورات المقصودة كتبت في عام 2018، بينما قدمت لائحة الاتهام ضده في شهر تموز 2021، اي بعد ثلاث سنوات على نشرها! 

ملاحظة واحدة من طرفي كمحامي الدفاع كانت كفيلة بشطب الجملة التي تتحدث عن " أحداث أيار" وتعديل اللائحة بما يتعلق بهذا الجانب، لكن المفارقة أن اللائحة قبل التعديل كانت الانعكاس الحقيقي لما يحصل في محاكم النشطاء السياسيين الفلسطينيين داخل دوائر المؤسسات القانونية الإسرائيلية، سواء نيابة أو قضاء.

النيابة الاسرائيلية.. جهاز قانوني أم ذراع طويلة للمنظومة السياسية والأمنية؟!

نظرياً، يفترض أن تكون النيابة العامة الجهاز القانوني المهني المسؤول عن تقديم لوائح اتهام ضد المخالفين، لكن تقع ضمن مسؤولياتها أيضاً السياسة القضائية للدولة في مختلف الملفات. فهي من تراجع مواد التحقيق وتقرر إذا ما كانت هنالك مواد كافية لتقديم لائحة اتهام، وفوق كل هذا تقرر الأولويات في معالجة قضايا معينة، سواء بواسطة تقديم لوائح اتهام أو من خلال المطالبة بتشديد العقوبات لتشكيل رادع، وتحديداً في ظواهر متفشية في المجتمع مثل ظاهرة العنف. أي أن من ضمن صلاحياتها تحديد السياسات القانونية للأجهزة التنفيذية، بشرط أن يخضع كل هذا الإجراء لمبدأ أساس هو الحق في محاكمة عادلة هدفها تجريم المذنبين فعلاً والمساواة في تطبيق هذه السياسات دون تمييز على خلفية قومية أو إثنية أو دينية.

هبة الكرامة

بعد مرور سنة على أحداث هبة الكرامة، أصدرت النيابة العامة بياناً قالت فيه أن 616 لائحة اتهام قُدمت ضد المشاركين في " أحداث شغب" أيار 2021. وأكدت في بيانها أن 90% من لوائح الاتهام هذه قُدمت ضد متورطين عرب، بينما قُدمت 10% ضد متورطين يهود. 

هذه الإحصائية، وإن كانت تقول الكثير بحد ذاتها، إلا أنها تسكت عما هو أعمق وأخطر، وهو عشرات الحالات المعروفة لدى الجمهور والتي تم فيها الاعتداء على عرب دون حتى أن يتم تسجيل اعتقال أو تحقيق، وبالتالي مؤكد أنه لم ولن تقدم فيها لوائح اتهام. شهادات موثقة كثيرة تم تداولها لأحداث مثل هذه، في حيفا مثلاً تم الاعتداء في وضح النهار على وقفة سلمية أمام أعين عناصر الشرطة الحاضرين، في رمات غان تم الاعتداء على ممرض عربي من سخنين، وحالات كثيرة أخرى لا يتسع المجال لذكرها هنا تم فيها الاعتداء على عرب من قبل يهود، لم ولن تدخل في هذه الإحصائيات التي هدفت كما يبدو لتجريم الاحتجاجات العربية وتقويضها مستقبلاً. لعل أكثر مثال بارز على هذا التمييز الممنهج والمقصود هو تعامل أذرع المنظومة القانونية الإسرائيلية مع الشهيد موسى حسونة، الذي قتل برصاص مستوطن في اللد لم يدم اعتقاله سوى بضع ساعات معدودة، فضلًا عن إغلاق الملف لاحقاً واعتبار أن عملية القتل كانت بهدف "الدفاع عن النفس"!

ملفات هبة الكرامة، من الاعتقال إلى القضاء

مئات لوائح الاتهام قُدمت ضد شبان عرب شاركوا في الاحتجاجات ضد محاولة طرد سكان الشيخ جراح، والتي أدت لاحقاً إلى مواجهات اجتاحت البلاد من شمالها إلى جنوبها، وتم خلالها توثيق عشرات حالات الاعتداء من قبل يهود على عرب أيضاً.

اللافت هنا أنه في كل هذه الحالات التي ثبُتت فيها مشاركة شبان فلسطينيين، سواء في القرى والمدن العربية داخل مناطق الـ 48 أو في مدن الساحل، تم التحقيق فيها بواسطة "الشاباك" - جهاز الأمن العام الإسرائيلي، حيث لا حسيب ولا رقيب على آليات وأساليب التحقيق، وفي كثير من الحالات تم منع المعتقلين من الحصول على استشارة قانونية، كما ينص القانون. وهو ما أدى، بالتالي، إلى انتزاع العديد من الاعترافات غير القانونية تحت الضغط وبأساليب ملتوية. مثال صارخ على هذه الحالات هو ملف الشابيين اليافيين اللذين اعترفا بحرق منزل عن قصد، بينما تبين لاحقاً وبعد جهد من محامي الدفاع، الذي حقق بنفسه حتى وجد توثيقاً مصوراً للحادثة، أنهما حضرا إلى المكان بعد حصول الجريمة بدقائق طويلة. هذان الرجلان مكثا في الاعتقال بضعة شهور، وقد مددت المحكمة اعتقالهما مرة تلو الأخرى رغم القصور الواضح في التحقيق. وهذا القصور كان سيد الموقف حيث تم اعتبار كل المعتقلين العرب معتقلين في "ملفات أمنية" ومنعهم من حقوق أساسية، منها عدم لقاء محامٍ وعدم توثيق التحقيق، وهو ما لم نعرف أنه حصل في أي من الملفات التي اعتقل فيها يهودٌ ضالعون في الأحداث. 

بالتالي، نحن ننظر إلى مسار كامل يعتبر المعتقل العربي خطراً أمنياً ويحقق معه على تلك القاعدة، ليصل الأمر إلى تمديد الاعتقال مرات متتالية في المحاكم، تماشياً مع "المواد الخطرة" التي يتم عرضها عليها. والنتيجة؟ لوائح اتهام مضخمة تحت "قانون مكافحة الإرهاب" الذي يتيح مضاعفة الأحكام. هذا القانون، الذي سُّن عام 2016 من أجل تشكيل حالة ردع ضد الفلسطينيين داخل مناطق الـ 48، لم يستخدم إلا ضدهم، باستثناء حالات نادرة. لهذا رأينا حكمًا قضائيًا مخففًا على أحد مرتكبي الاعتداء الوحشي والعنصري على سائق عربي بريء في " بات يام" رغم أنه كان من المعتدين بالضرب والركل والسحب، حتى أن مشاركته استمرت بعد حضور سيارة الإسعاف وشارك في سحبه من سيارة الإسعاف والشرطة (وفقًا لما جاء في قرار الحكم). ولكن قوله في التحقيق أنه شعر بالخطر من السائق العربي كان كفيلاً ألا تعُتبر جريمته ذات خلفية قومية، رغم نشر إعلامي مكثف عن كون عمليات الاعتداء هذه في "بات يام" وفي غيرها جاءت على خلفية قومية ومن خلال مجموعات نظمت ودعت لها على تطبيق "واتس أب" قبيل وقوعها.

في الختام

المتابعة القانونية لملفات "هبة الكرامة"، وعلى الرغم من مرور سنتين، لم تنته بعد. بل لا نرى نهاية قريبة لها في بعض الملفات. هكذا في "ملف زلفة" الذي أترافع فيه عن معتقلين، وهكذا في ملفات أخرى. 

لا أكتب ما كتبت أعلاه كي أثبت تمييز المنظومة القانونية الإسرائيلية عندما يكون المتهم عربياً، بل للتوضيح أن هؤلاء المعتقلين يواجهون منظومة قانونية بأكملها، والتمييز القائم فيها يبدأ من لحظة الاعتقال وصولًا إلى أعلى هيئة قضائية.

باعتقادي، هذه المنظومة بحاجة إلى منظومة مقابلة تواجهها، مؤسسات قانونية تفضح هذا التمييز الصارخ وتستفيد منه قانونياً، ومؤسسات إعلامية تخرج جماهيرنا من خلالها من خانة الاتهام والإدانة التي تؤدي إلى المزيد من التعامل العنصري ضدنا في كل مكان، واخيرًا بمؤسسات سياسية من واجبها توجيه كل هذا العمل بهدف ترجمته إلى خطة عمل استراتيجية تخدم مجتمعنا. هذا كله لا يمكن أن يقوم به أفراد لوحدهم، نظراً لما يتطلبه الأمر من ميزانيات ضخمة وجهود تنظيمية كبيرة ورؤيا واضحة. 

تجدر الإشارة هنا أيضاً إلى التكلفة المالية العالية لإدارة مثل هذه الملفات، والتي لا تحظى عائلات المتهمين فيها بالحد الأدنى من المساعدة رغم كون غالبيتها من الطبقات محدودة الدخل والوسطى في أحسن الأحوال. 

على مدار أشهر أثبت شعبنا أن لديه الكثير من الطاقات وفي مختلف المجالات، غير أننا نتحدث هنا عن حدث تاريخي يتطلب طاقات كبيرة ومنظمة لمواجهته وإلا، فإن النتائج قد تكون وخيمة على مجمل نضالنا الفلسطيني داخل مناطق الـ 48. فطالما بقي هذا الشباب لا يشعر بحماية وغطاء مجتمعه بالكامل، فلن نجده في مقدمة نضالاتنا المستقبلية، عندما نحتاج إليه.


تصوير: سيرين محمد جبارين.

أحمد خليفة

محام متخصص في القانون الجنائي - الأمني وحقوق الإنسان

رأيك يهمنا