لمحات عن هبّة أيار 2021 في عكا

من لم يشعر بغضب عارم حين شاهد تسلسل الأحداث في أيار 2021؟  التهديد بإخلاء الفلسطينيين في الشيخ جراح، اعتداءات المستوطنين اليهود على العرب في يافا واللد، مقتل الشاب موسى حسونة على يد مستوطن يهودي، الاعتداءات على الشباب في باب العامود وعلى المصلّين في الأقصى، تلتها الغارات على غزة والتي استشهد خلالها أطفال ونساء ورجال عزّل، إضافة إلى تراكمات التهميش التي باتت واضحة لكل شاب وشابة فلسطينيين تحت المواطنة الإسرائيلية.

غضب مصحوب بخوف وقلق وتوتّر ساد الأجواء. كيف لنا أن نقبل الصمت ومشاهدة أرواح أبناء الشعب الواحد تزهق وحقوق الإنسان الأساسية تُنتهك، وكيف لنا أن نقف مكتوفي الأيدي ونحن، في عكا وباقي أنحاء فلسطين، نرى أنّه لا شيء قادر على منع وصول هذا البطش إلينا، سوى الوقت أو تحرّكنا. 

انتشرت في تلك الأيام بكثافة رسائل عبر الواتس أب والسوشيال ميديا تكشف تخطيط مجموعات من المستوطنين اليهود للدخول إلى عكّا مستهدفين سكّانها العرب بالعصي والسكاكين وتشكيلة غريبة من أدوات الضرب والتنكيل.

في الحادي عشر من أيار 2021 تنطلق مظاهرة حاشدة لسكان عكا العرب في موقع الاحتجاج المعروف في عكّا، دوّار غسّان كنفاني (دوّار المدفع)، بحضور متنوّع كبير من سكّان المدينة، كبار السن، شباب وشابّات، رجال ونساء وعائلات. منهم من يحضر مظاهرة لأوّل مرة كالفتيان والأطفال مع أمّهاتهم، تحيط بهم جميعًا من ثلاث جهات، قوات الشرطة وحرس الحدود بسلاحهم وخيولهم.

سرعان ما يحدث اشتباك بين بعض الشباب الملثمين من المتظاهرين مع القوات المسلحة، فتقوم الشرطة بدورها بإلقاء قنابل الصوت والغاز المسيل للدموع على المتظاهرين، يليها إطلاق رصاص مطاطي بشكل عشوائي، دون اعتبار لوجود عائلات وأطفال.

تتفرق المظاهرة، نرى مصابين يحاولون العثور على مكان يحميهم وأمّهات تبحث عن أطفالهن، يتوجّه غالبية المتظاهرين إلى المهرب المتاح الأقرب: داخل أسوار البلدة القديمة حيث تتم محاصرتهم بشكل محكم، بينما تدخل، بمرافقة وحماية الشرطة، مجموعات من المستوطنين إلى الأحياء الجديدة من عكا، والتي يشكل العرب أغلبية سكانها، رافعين الأعلام الإسرائيلية وهاتفين بأعلى صوتهم "الموت للعرب".

كانت أوقات عصيبة دامية على مدار ليلتين، لم تشهد عكا من قبل مثل هذا الكم من الفوضى، العنف والغضب. إلى أن انتهى هذا الحال باعتقال عشرات الشباب العرب وبانتشار أعداد هائلة من قوات الشرطة وحرس الحدود في مختلف حارات عكّا. كما منعت الشرطة أي تجمهر عفوي خلال أيام عيد الفطر حينها، فقامت بإلقاء قنابل الصوت والغاز المسيل للدموع على المارّين فقط لوجودهم هناك.

الحيز العام والعقاب الجماعي

في صباح اليوم الثالث نلاحظ قيام البلدية بتصليح ما خرب من ممتلكات الحيّز العام في الشوارع في مركز البلد والأحياء الجديدة، لتعود مرتبة نظيفة وكأن شيئاً لم يحدث، بينما تُرِكَت منطقة البلدة القديمة على مدار أيام تعبق بالدخان، برماد الحرائق، ببقايا الغاز مسيل الدموع، بالنفايات والأغراض المبعثرة من المحلات التجارية.

كانت هذه أوّل مشاهد العقاب الجماعي غير المعلن الذي تفرضه بلدية عكّا على سكّانها العرب. فبينما تضرر عدد من المنشآت خلال هذه الفترة، قامت كلّ جهة بدورها بصيانة ممتلكاتها، خلال فترة قصيرة تتراوح بين بضعة أسابيع حتى بضعة أشهر، بحسب حجم الضرر. أمّا الممتلكات العامّة التي هي تحت مسؤولية البلدية، فلم تتم صيانتها وإعادة تفعيلها حتّى اليوم. فمثلًا، لم تحاول أصلًا إعادة ترميم وتفعيل المركز الجماهيري "السرايا"، ولا حتّى مركز البريد الوحيد في البلدة القديمة، منشآت تخدم سكان البلدة القديمة، العرب، بشكل مباشر. حتّى تنظيف الشوارع من الحرائق والتكسير تم من خلال تعاون سكّان البلدة في حملة تنظيف كبيرة فجاء النّاس بالمكانس وأدوات التنظيف، بينما أهملت البلدية تجميع النفايات من حارات البلدة القديمة على مدار أسابيع.

هذا الإهمال الممنهج ليس جديداً، بل كان قائماً قبل هبة أيار وزادت حدّته بعدها. فمثلًا، عندما بادر النّاس من سكّان البلدة القديمة ومجموعة 5000، قبل أربع سنوات، إلى تنظيف وصيانة الملعب في حيّ الشونة، كونه الملعب الوحيد في الأحياء السكنية في البلدة القديمة، والمطالبة بترميمه مع تقديم أوراق تخطيط مهني مقترح لترميم هذه المساحة، لم تحرّك البلدية ساكنًا في هذا الحي، بل زاد إهمالها حتى أصبحت غير قابلة للاستعمال، بالرغم من وعود فارغة من البلدية بالاستعداد لتنفيذ الترميم المقترح. 

الاعتقالات والمسجونون والدعم الحقوقي

منذ هبة أيار 2021 اعتقل أكثر من 100 شاب من عكّا. في الأسابيع الأولى من الهبة تجنّد عدد من المحامين لتوفير الدعم الحقوقي للمعتقلين. قدمت النيابة العامة لوائح اتهام ضد عدد قليل منهم، لكن المحاكم اعتمدت المبالغة في الأحكام والعقوبات مقارنة بالمخالفة التي يحاكَمون عليها. فمثلًا، يقضي شاب 4 سنوات في السجن على رمية حجر أو المشاركة في تخريب ممتلكات، بينما لم نسمع عن تقديم لوائح اتهام ضد شباب يهود عند هجومهم على بيوت عربية، ولا حتى عند قتل شاب عربي (في حالتي اللد وأم الفحم). لمواجهة هذا ومحاولة دعم المعتقلين والأسرى، تشكّلت لجنة من أهالي المعتقلين في عكا ما زالت تتابع بعض القضايا الجارية، وانضمت في نشاطها إلى "لجنة معتقلي هبة الكرامة" القطرية.

التكاتف الفلسطيني

وبينما أعلن اليهود مقاطعة المحلات التجارية العربية في كافة أنحاء البلاد، تكاتف الفلسطينيون في الداخل وكثّفوا الزيارات إلى عكا وباقي البلدات المختلطة، رافقتها حملة "اشتري من بلدك- اسبوع الاقتصاد الوطني"، فأصبحنا نرى تواجد زوّار من القرى المجاورة والبعيدة، حتّى في الساعات المتأخرة من الليل، يجولون أزقّة عكا بتمعّن، فضول وفخر. أمر مفرح لم نعتد عليه في عكّا سوى في فترات الأعياد.

بعد استمرار القصف على غزّة، الاعتداءات في الشيخ جراح واستشهاد محمد كيوان من أم الفحم، شارك سكّان عكّا في إضراب الكرامة، وكان إضرابًا فعّالًا شمِل عدّة نشاطات احتجاجيّة وفقرات تثقيفية وتوعوية في أحياء عكا القديمة، شكل تجسيداً لانتماء العكيّين إلى الشعب الفلسطيني من النهر إلى البحر.

استمر الاهتمام الشعبي بالبلدات المختلطة بعد الإضراب أيضًا، حيث التمّ عدّة فنّانين وناشطين من جميع أنحاء البلاد لمواصلة الحضور الفني الاحتجاجي في الحيز العام في عكّا، فأقمنا يوم احتجاج فنّي في خمسة أحياء من البلدة القديمة والبلدة الجديدة، أسميناه"عكّا على راسي" شارك فيه عدد كبير من سكان عكا وزوّارها من مختلف الأعمار.

كان هذا التكاتف والتنظّم العفوي بمثابة مداواة لصدمات العنف والخوف، وجرعة قوة وأمل. استمرت حالة النشاط الجماهيري المكثّف لفترة قصيرة، بان فيه كم نحتاج إلى بعضنا البعض، كم نحن متعطشون لعمل جماهيري ميداني نشعر فيه بأنّ كل واحد منّا هو عامود يتّكئ عليه هذا البيت، وخاصة في أوقاتنا هذه، حيث تأزّم الحال أضعاف ما كان قبل عامين، ولا بدّ من المراكمة على الوعيّ الناتج من الهبة والإصرار على مواصلة تواصلنا، تنظّمنا وتكاتفنا، نعبر بها المحن الحاضرة وأخرى قادمة، إلى أن نصبح دفق صاخب متناغم يشقّ طريقًا نحو سماء زرقاء لا يعكّر صفوّها إلّا عصافير السنونو المشاغبة.


تصوير: إسكندر حلوة

هزار بدين

ناشطة عكّيّة، مختصة في التنمية المجتمعية، مهتمة بالتنظيم المجتمعي وتطوير وتفعيل الحيّز العام في البلدات والأحياء العربية. حاصلة على الباكلوريوس في الهندسة البيئية والماجستير في تنمية المجتمع المحلي والعالمي (GLOCAL)

شاركونا رأيكن.م