خطاب الأمن وإسقاط السياسة عن الفعل الفلسطيني

تتعامل إسرائيل مع الهبّات الشعبيّة وتحركات الفلسطينيين السياسيّة عموماً كمحرك تعبوي لطقوس الأمن. الأمن، الذي يشكّل غطاءً للممارسات القمعيّة ضد الفلسطينيين، يتحوّل بلغة القانون إلى قيمة حصينة من المساءلة تعبّر عن حالة موضوعيّة وطبيعيّة، لا سياسيّة. هذا الخطاب يحوّل الأسئلة السياسيّة، تلقائياً، إلى أسئلة أمنية، فيمحو الآخر ويُسقط الصفة السياسيّة عنه وعن ممارساته فيتحوّل النضال الفلسطيني، بالتالي، إلى "أعمال ضد الأمن" والفلسطينيون إلى مجرمين مجرَّدي الهوية والسياق السياسي. 

خلال هبّة الكرامة 2021 حضر خطاب الأمن كخطاب مركزي في الخطابات الرسميّة الإسرائيليّة، وكان جهاز الأمن العام (الشاباك) قد أعلن في بيان أصدره أنّه يرى بالهبّة "أعمال إرهاب". هذا الخطاب الأمني كان تبريرًا قانونيًّا وسياسيًّا للممارسات القمعيّة ضد الفلسطينيين تمثّلت، من جملة ما تمثّلت، في عسكرة الحيز في الداخل الفلسطيني والقدس، استخدام أدوات قمع بشكل هائل، نشر قوات من حرس الحدود في الشوارع، إغلاق بلدات بحواجز إسمنتيّة وإعلان حالة طوارئ مدنيّة في بعض المدن الفلسطينية داخل الخط الأخضر (إضافة الى حالة الطوارئ العامة الدائمة).  يضاف إلى ذلك حملة الاعتقالات الترهيبيّة الواسعة التي طالت أكثر من 2,000 معتقل في الداخل الفلسطيني والقدس (حوالي 90% منهم هم عرب)، بتهم تتعلق في غالبيتها الساحقة بـ "الأمن"، بالإضافة إلى استصدار أوامر اعتقال إداري بحق فلسطينيين. في محطات الشرطة ومراكز الاعتقال، تم في حالات كثيرة الاعتداء على المعتقلين والتنكيل بهم، وفي بعض الحالات تم التحقيق معهم من قبل "الشاباك" الذي استخدم أساليب التعذيب لانتزاع اعترافات من المعتقلين.

لم ينحصر الضبط والقمع بادعاءات في الممارسات الميدانيّة المذكورة، وإنما أُلحِقَ بأدوات رقابة تقليديّة – مثل مراقبة المساجد لتحديد "مظاهر التحريض" فيها، وبأدوات مراقبة حديثة في صلبها المراقبة التكنولوجيّة والرقميّة. تمثّل ذلك مثلاً في مراقبة هواتف الفلسطينيين وتتبع الموقع الجغرافي لكل من تواجد في نطاق المسجد الأقصى وإرسال رسائل تهديد شخصية متوعّدة بالمحاسبة على المشاركة فيما سمّته بأعمال عنف. بالإضافة إلى ذلك، فُرضت رقابة على وسائل التواصل الاجتماعي والفضاء الإلكتروني عموماً، بالتعاون مع أجسام ثالثة لتقييد المحتوى الفلسطيني. فقد أرسلت "وحدة السايبر" في النيابة العامة، بالتعاون مع الجهات الأمنية، 2,177 طلبًا لمواقع التواصل الاجتماعي ومواقع البحث (ميتا / فيسبوك وانستجرام، تويتر، تيك توك، جوجل وغيرها) لإزالة مضامين فلسطينية وحظر حسابات مستخدمين أو إزالتها. وقد قُبلت هذه الطلبات بمعظمها وأدّت إلى حذف آلاف المنشورات، التقليل من إمكانية انتشار المحتوى الفلسطيني، إخفاء وسوم (هاشتاج)، حظر حسابات وتعطيل حسابات "واتس أب" لنشطاء وصحافيين فلسطينيين. هذه الممارسات تم عرضها كجزء من جهود "الهسبارا (البروباغندا) الإسرائيلية" لإسكات الرواية الفلسطينية وفرض الخطاب الإسرائيلي على الساحة الدولية - جهود يتم التعامل معها اسرائيلياً كركيزة أساسية للأمن القومي. 

المحاكمة الجنائيّة: تحويل السياسي إلى أمني

تُعرض منظومة القانون الجنائي الليبرالي بكونها منظومة مؤسسة على فكرة "الجرم الموضوعي"، الذي يحيّد سؤال "الهوية" ويتمركز حول سؤال "الفعل". ولهذا نتيجة مزدوجة: تغطية البعد السياسي في دوافع السلطة من جهة وتحييد السياسة عن دوافع المتهم من الجهة الأخرى. وبكلمات أخرى، تمكّن المقاضاة الجنائيّة السلطة من تمويه وتغطية دافعيّتها السياسية وشرعنة خطابها وتحركها السياسي بعرضه كفعل اعتيادي محايد. ومن جهة أخرى، تطمس السياق الجماعي والسياسي للمتهم، فتخرج ممارسات وتعابير سياسية من دائرة الممارسات الشرعية لتحوّلها إلى جرم قانوني تحاكم عليه، وتحوّل الآخر من خصم سياسي شرعي إلى مجرم منزوع الصفة والهويّة السياسيّة. وبهذا تكون السياسة وأسئلة الهويّة بصفة "حاضرة - غائبة" في المحكمة، توضع في قفص الاتهام لكن لا يُعترف بوجودها.  

يظهر تجسيد مكثف لذلك حين تشكل التهم بالإرهاب والأمن أساس المحاكمة، لتتحول مصطلحات سياسيّة بجوهرها إلى مصطلحات قانونيّة جنائيّة، تتنكّر للسياسة وتدّعي الموضوعية. ما بعد الهبّة قامت منظومة الأمن بتقديم 397 لائحة اتهام ضد 616 متهماً (545 متهماً عربياً)، ووجهت تهم بحسب قانون الإرهاب، بما في ذلك تهم التحريض على الارهاب بناء على منشورات في وسائل التواصل الاجتماعي، إلى 169 متهماً (منهم 148 متهماً عربياً. يشار إلى أنّه في بعض لوائح الاتهام القليلة التي قُدمت ضد يهود وصدرت بها قرارات حكم، تمت تبرئة المتهم من "الدوافع الإرهابية"). 

صيغت لوائح الاتهام كنص سياسي يحمل رواية عن الهبّة التي تبدأ فقط من العاشر من أيّار وتتجاهل بشكل تام أسباب اندلاع المواجهات والنضال السياسي الفلسطيني ضد التهجير القسري في أحياء القدس، وحي الشيخ جراح تحديداً، والانتهاكات في القدس عموماً. وقد أرفقت كل لوائح الاتهام بفقرة افتتاحية موحدة لكتابة سردية الأحداث:  

"في خضم الحرب، وبينما تم قصف إسرائيل بآلاف الصواريخ من قبل منظمات إرهابية، الصواريخ التي زعزعت الشعور بالأمن بشكل كبير، تم فتح جبهة إضافية – داخلية، من قلب إسرائيل، عمل خلالها بعض المواطنين من الوسط العربي في أماكن عدة ضد قوات الأمن، وألحقوا أضرارا بالبنى التحتية وقاموا بأعمال عنف ضد مواطنين يهود وضد أملاكهم. في المقابل، كانت هنالك أعمال عنف قليلة جداً من قبل مواطنين يهود ضد مواطنين عرب وضد ممتلكاتهم".  

تبنت قرارات الحكم التي صدرت حتى الآن، في غالبيّتها العظمى، سرديّة الدولة ورأت بها جزءًا من الحيثيّات الموضوعيّة والحياديّة للأحداث، والتي شكلت مبرراً لفرض تشديدات في العقوبات على المتهمين العرب التي اعتبرتهم خطراً أمنيًا داخليًا. وبالإضافة الى نزع البعد السياسي عن ممارسات الأفراد وتحويلها إلى جرم، عملت النيابة العامة والمحاكم على تحويل رواية الدولة الرسميّة السياسيّة إلى نص قانوني، يمنع أية إمكانية لسرد رواية معارضة حول الهبّة. 

وعليه، فإن خطاب الأمن في الدولة المعسكرة لم يشرعن فقط فرض الرقابة وإطباق السيطرة على الفلسطينيين بكونهم خطرًا أمنيًا، ولم يكتفِ بإعطاء دلالات أمنية لتمويه الممارسات السياسية، بل قام أيضا بخلق خطاب محو، طمس وإزالة للرواية الفلسطينية بهدف تشكيل أنماط المعرفة، الممارسات، اللغة والفعل السياسي للفلسطينيين. 


ملاحظة: استعمال الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected].

علا طه

محامية متدربة، درست القانون والعلوم الاجتماعيّة والانسانيّة في جامعة تل أبيب

شاركونا رأيكن.م