التعلم العاطفي الاجتماعي لدى الأقليات: حالة الفلسطينيين في إسرائيل
التعلّم العاطفيّ الاجتماعي هو سيرورة من خلالها يفهم الطالب عواطفه ويديرها، يطوّر قدرته على نصب أهداف إيجابية ويعمل لتحقيقها، يشعر بالآخرين، يطور هويات صحية، يؤسس ويحافظ على علاقات إيجابية، ويتخذ قرارات مسؤولة. من خلال التعلم العاطفي الاجتماعي يكتسب ويستخدم الطالب المعرفة بشكل ناجع، يكتسب المهارات المطلوبة لمواجهة تحديات الحياة اليومية، يطوّر الفضول المعرفيّ، للعمل بدافعية داخلية، ليظهر مرونة بالتفكير، ويطور المواظبة والاستمرارية.
هدفُ التعليم العاطفي الاجتماعي هو اكتساب مهارات عاطفية اجتماعية من أجل النجاح بالحياة وليس فقط بالتعلم. ظهر مفهوم التعلم العاطفي الاجتماعي في السنوات السابقة عبر برامج المهارات الحياتية، ودراسات عن الذكاء العاطفي، والذكاء متعدّد المجالات والجوانب. المستجدّ في التعلم العاطفي الاجتماعي هو خلاصة هذه التجارب، وتجميعها معًا، حيث يدعوا إلى رؤية الطالب برؤية شمولية لجميع احتياجاته الذهنية، العاطفية والاجتماعية. وبالتالي التعلم العاطفي الاجتماعي بنظرتهِ الشمولية للطالب نقل موضوع اكتساب المهارات والنقاش العاطفي من حصّة أسبوعية (للمستشارة التربوية أو المربية) كبرنامج تدخل مهني إلى إدراك تربويّ شمولي على الطاقم جميعا ممارسته.
والمقصود التعلّم العاطفي الاجتماعي هو إدراك ونظرة شمولية وليس برنامج وحصة أسبوعيه هو أن الطالب ليس فقط ذات قدرات ذهنية تنعكس في التحصيل العلمي، بل على المدرسة رؤية الطالب بكل احتياجاته، تكوينه والاهتمام به ويظهر ذلك في الممارسة اليومية بالمدرسة من قبل كل المعلمين، إضافة إلى أن مسار اكتساب المهارات والاهتمام بالطالب من خلال جميع المعلمين والمعلمات في البرنامج المدرسي مثل المهارات الحياتية من قبل المستشارة أو المربي. وبالتالي تطور مفهوم اكساب المهارات من خلال المجال المعرفي والتخصص وليس فقط حصة المهارات الحياتية. بناء عليه معلّم المواضيع الأخرى مثل الرياضيات، اللغات، الأدب والتاريخ يجب تأهيله ليكون قادرًا على أن يدرس ويطور منهجيات تربويّة ونفسيّة "السيكو-بيداجوجية" واكتشاف الأسس العاطفية في التعلم. بالتالي أصبح التعلم العاطفي الاجتماعي كمفهوم وبنظرة شمولية من خلال توسيع العمل إلى جمهور ومجتمع المدرسة كافّة وليس فقط الطلاب: الطاقم والأهل والمجتمع ليكون مفهوم تربوي واسع يشمل المدرسة وسياقها.
هنالك العديد من المنظمات التربوية، ومراكز الأبحاث الأكاديمية التي تتناول بأبحاثها موضوع التعلم العاطفي الاجتماعي وأكثرها شهرةً هذه المنظمات التي تقود تطوير وتذويت التعلم العاطفي الاجتماعي هي "كاسيل الأمريكية" (CASEL) والتي طرحت إطار اصطلاحي جديد ركّزت فيه على خمس مهارات عاطفية اجتماعية وطالبت بإكسابها بالحيز التربوي وهي:
1- الإدارة الذاتية: التحكم والسيطرة على العواطف، إدارة أوضاع ضاغطة، انضباط داخلي، والمواظبة.
2- الوعي الذاتي: التعرف على المشاعر، الادراك والتصور الذاتي، والثقة بالنفس.
3- الوعي الاجتماعي: الاستشعار، وتحليل أوضاع اجتماعيه.
4- المهارات البين شخصية: الاتصال، بناء علاقات اجتماعية، التعاون وحل الصراعات.
5- اتخاذ قرارات مسؤولة: التعرف على المشاكل وحلها، تقييم، ومردود ذاتي.
المدرسة، الرفاه (well- being)، والحصانة النفسية
مصطلح "الرفاه" في هذا السياق يعكس نظرة إيجابية للصحّة النفسية، والنظرة الايجابية هذه بها تجديد للمفهوم التقليدي للصحة النفسية والذي كان مبني على "عدم وجود مرض". أما اليوم "الرفاه" مبني على الادراك الإنساني، والذي عارض فهم النفس البشرية من منظور المرض وطالب بالتمركز حول تحقيق وتوسيع إنسانية الانسان وتطوير الموارد بداخله صوب التطور والإنتاج وليس التمركز "بالمرض" الذي يجب معالجته.
هناك الكثير من التعريفات لمعنى الرفاه (well being) والمشترك لكل التعريفات هو رؤية الصحة النفسية كذاتية في جوهرها من خلال التجارب الحياتية للفرد والتي تتطرق إلى مدى حكم الفرد على جودة حياتهِ الشاملة كإيجابية ومرغوبة وبذلك ترتبط وتتصّل الصحة النفسية بقيم الصحة الجسدية، التفاؤل، تحقيق الذات، الأمل والسعادة. تقوم الصحة النفسية كذلك تطوير مركّبات أساسية منها: الدافعية الداخلية، الاستقلالية، الطاقة، الفاعلية، الإحساس بالقدرة، الاستمرارية، المبادرة، المرونة، الابداع، القدرة على بناء علاقات، والقيادة.
إن تطوير الصحة النفسية هو أولًا رؤية، إدراك وموقف قيميّ أخلاقي للتربية في ظل الاسئلة المطروحة حول التربية والمدرسة في مجتمع متقلّب. كما أن المدرسة تمتلك دورًا كبيرًا جدا في تطوير الصحة النفسية لطلابها، فالطلاب منكشفون لأوضاع حياتية مركّبة وخطرة، إما بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، وهذا يلزم المدرسة بالتطرّق والتعامل مع هذه الحالات، إلى جانب غاياته "التقليدية" (التعلم واكتساب المعرفة) فان المدرسة ملزمة بالتعامل مع الحالات الحياتية اليومية التي يعيشها الطلاب سواء كان بالحيز المدرسي، الأسري أو المجتمعي وشبكات التواصل الاجتماعي. لكي لا تكون هناك حالة انقطاع فيها المدرسة تكون حيز تبادل واكتساب المعرفة، أما التعلّم فيكون من خارج نطاق المدرسة. مطلوب من المدرسة أن ترى بتجارب الطلاب الحياتية في أطر الانتماء المختلفة (الأسرة، المدرسة، مجموعة المتساوين..) مركّب مهم في البرنامج التعليمي وجزء لا يتجزأ من العمل التربوي. (ما نقصدهُ في مجموعة المتساوين "קבוצת השווים" و "peer friends" والترجمة هي مجموعة المتساوين المقصود الأصدقاء)
التعلم العاطفي الاجتماعي لدى الأقليات العرقية والقومية
تعيش الأقلية القومية في ظروف سياسية، اجتماعية، ثقافية خاصة بها تختلف عن ظروف الأغلبية. مع العلم أن الأقليات في العالم تعاني عادةً من سياسة التهميش، التمييز، العنصرية، شح الموارد، والاقصاء عن مركزِ اتخاذ القرارات في الدولة، وفي هذا السياق والتجارب الحياتية يتشكّل وعيها ويجعل هويتها مركبة بسبب المعاناة من هذه السياسة، إذ ترى الأغلبية بثقافة الأقلية ثقافة دونية يجب استبدالها، ثمّ أن الأغلبية تتمتع بامتيازات، وحقوق، وهوية واضحة. فالكثير من الأقليات لا تتمتع بجهاز تربية مستقل عن الجهاز المركزي، أو باستقلال ثقافي للحفاظ على الموروث الثقافي، وهويتها الجمعية، بل تبقى خاضعة للجهاز المركزي الذي يبني المنهاج التعليمي وفقا لمصالحهِ وأهدافه ولصقل وتشكيل الهوية على أساس رؤية واضحة.
كل الأدبيات والأبحاث ترى دور التربية لدى الأقليات في أن تكون وكيل تغيير، تقود الحراك والتغيير الاجتماعي، ترفع الوعي لعلاقة الأغلبية بالأقلية ولدور السياسات في تهميش واقصاء الأقلية، بناء الهوية، تحقيق المساواة والعدل، وبناء الانسان. وهنا تكمن النقطة المهمة في التعلم العاطفي الاجتماعي، هل يجيب "موديل كاسل" والمهارات الخمسة المذكورة أعلاه على احتياجات الأقليات بكل ما يتعلق بظروفهم السياسية، الاجتماعية والثقافية؟
إذ أن "موديل السيل" (SEL) وفقا لمنظمة "كاسل" هو موديل يشمل مهارات عاطفية اجتماعية يتم تمريرها للطالب بهدف التعامل مع تحديّات القرن الواحد والعشرين، في ظلّ مجتمع متقلب، ضبابيّ، غير واضح، غير ثابت، متحرّك، ومركّب هذا هو وضع المجتمع الحديث والغربي العصري والحداثي. هذا الموديل يتمّ تبنيه على أساسٍ عالمي ملائم لكلّ المجتمعات. إلا أنه لم يأخذ بالحسبان احتياجات شرائح اجتماعيه لها سياقها السياسي والثقافي الخاص بها وظروف حياتية تختلف عن الأغلبية. إن الأبحاث عن التعلم العاطفي الاجتماعي لدى الأقليات أثبتت على أن المهارات التي يحتاجها أبناء الأقليات تختلف عن المهارات الخمسة داخل "موديل كاسل" رغم أهميتها وهي ليست في رأس سلم الاولويات، وتأكد الأبحاث على مهارات أخرى يجب التركيز عليها للتعامل مع ظروف حياتهم، فمثلا الأفارقة في أمريكا بحاجة إلى أن يدرسوا تاريخهم، ليشكلوا هويتهم وينموا الشعور بالفخر تجاه ثقافتهم الأمر الذي ينعكس بشكل إيجابي على تصورهم لذواتهم وشعورهم بالرضى تجاه أنفسهم، كذلك بحاجة إلى مهارات تساعدهم في التعامل مع الاندماج والتعامل مع الأغلبية البيضاء في سوق العمل. كذلك هو وضع أغلبية الأقليات القومية والعرقية في العالم والتي تعاني من سياسة التهميش والاقصاء.
حالة الفلسطينيين في إسرائيل
يعيش الفلسطينيين في إسرائيل حالة مركبة بسبب انتمائهم القومي والمدني، وتركيبة معقدة في هويتهم وظروف حياتهم، وبالتالي التعلم العاطفي الاجتماعي يجب ملائمتهِ للإجابة على احتياجاتهم. في بحثٍ أجريته في السنة الأخيرة عن التعلم العاطفي الاجتماعي في المدارس العربية في منطقةِ المثلث والجليل ومن خلال مقابلات أجريتها مع طواقم تربوية لفهم ورصد احتياجات الطلاب خاصة، والمجتمع المدرسي عامّة بكل ما يتعلق بالمهارات الاجتماعية العاطفية توصلت إلى النتائج الآتية:
1- أولا ترى الطواقم التربوية بأن موضوع الهوية، التاريخ، والثقافة هو سلّم الأولويات التي يجب العمل عليها من أجل تربية طالب يعرف نفسه وتاريخه، يفتخر بثقافته، يبني لنفسه تصوّر ذاتي إيجابي، وأكدوا على أنها هي اللبنة الأولى لبناء الحصانة النفسية والمجتمعية التي يؤكد عليها "موديل السيل". فإن هوية ذاتية، قومية واضحة تتقاطع بشكل صحيّ مع الهوية المدنية تبني هوية واضحة وليست خاضعة، لا يوجد بها بلبلة هي مصدر للفخر والشعور بالرضى، وهي أساس الحصانة النفسية.
2- اكتساب المهارات للتعامل مع العنف والابتعاد عن الجريمة وربط الأمر أيضا بموضوع الهوية أعلاه لأنها مصدر الحصانة النفسيّة.
3- توفير مهارات للحراك الاجتماعي والمدني وبناء شخصية مشاركة متداخلة مجتمعيًا ولا تقف على الحياد وخاملة، إنما بناء مواطنة فعّالة مسؤوله تطمح إلى مجتمع أفضل. بناء وعي اجتماعي سياسي لدى الطالب يفهم من خلاله مجتمعه ومجتمع الأغلبية، بمعنى أن يمتلك قولًا في القضايا المجتمعية، ويريد التأثير في الحيز العام.
4- زيادة قدرة الاندماج في مجتمع الأغلبية مثل سوق العمل، والجامعات، والمؤسسات الخاصّة والعامّة وما إلى ذلك.
5- التربية ضدّ العنصرية ومهارات التعامل مع أشكال العنصرية داخل المجتمع الفلسطيني والتعامل مع الأغلبية.
6- ربط التعلم العاطفي الاجتماعي بالتربية للأخلاق، قيم العدالة الاجتماعية والانصاف.
في الختام، نرى أن التعلم العاطفي الاجتماعي هدفه اكساب مهارات تطور الشخصية وتجعل الطالب قادرًا على التعامل مع أوضاع حياتية مختلفة لينجح في الحياة وليس فقط في التعليم. منظمة "كاسل" الأمريكية نشرت خمس مهارات عاطفية اجتماعية على المدرسة تمريرها من خلال نظرة شمولية للطالب، دمج التعلم العاطفي الاجتماعي في المجال المعرفي، وتأهيل الطاقم التربوي والمجتمع المدرسي كافّة. ومن المهمّ التأكيد على أن هذا الموديل هو ليس عالميا وهناك مجموعات قومية وعرقية تعيش في ظروف سياسة اجتماعية تختلف عن الأغلبية تحتاج إلى مهارات أخرى تجيب على احتياجاتها، مثل الهوية الجماعية والحصانة النفسية، قيم ومهارات الحراك الاجتماعي، تربية ضد العنصرية ومهارات فهم ديناميكية وعلاقات أقلية- أغلبية، كحالة الفلسطينيين في إسرائيل.