ملاحظات حول مفهوم "السكان الأصلانيين"، عن البدايات والاستخدامات
أبدى الكثير من التونسيين عن غضبهم بسبب رسالة نشرتها السفارة الأمريكية في تونس تهنئ فيها الناشطة "سعدية مصباح" لفوزها بـ "جائزة وزير الخارجية الأمريكية للعام 2023" الخاصة بمحاربة العنصرية، قبل شهر تقريبًا. وجاء فيها تقدير وزارة الخارجية لشجاعة الناشطة "مصباح الاستثنائية" و"قيادتها والتزامها بالنهوض بحقوق الإنسان الخاصة بأفراد مجتمعات مهمّشة عرقية وإثنية وخاصة بالسكان الأصليين".
اعتبر العديد من التونسيين أن استخدام تعبير "السكان الأصليين" يشير بطريقة ما إلى "رؤية بيضاء" ما زالت تقسّم العالم، عطفاً على رؤيتها للعالم من حولنا، فضلاً عن كونه تشجيعاً لبعض الأفكار الداعية إلى محاولات فرض نمط "استيطاني" غير مرئي في تونس سوف يؤثر بلا شك على التركيبة الديموغرافية للسكان التونسيين؛ وبافتراض ضمني رافض للتلميح بأن هذه المجتمعات هي مجتمعات استعمارية وجزء من الماضي، وليس من الحاضر المتحضّر. علماً أن موجة الغضب التونسية دفعت السفارة إلى تغيير صيغة البيان وحذف العبارة.
يشتق تعبير "الشعوب الأصلية Indigenous" في اللغة الإنجليزية من اللاتينية "indigena" بمعنى "من مكان" أو "من الأصل"، واستخدم منذ منتصف القرن السابع عشر تقريباً، للإشارة إلى شعوب أو ثقافات مناطق جغرافية مختلفة حول العالم مستقّرة قبل وصول الأوروبيين وبداية الاستعمار والاستيطان الأوروبي لبقية العالم؛ الأمر الذي خلق تغييرات عالمية هائلة عملت على تحويل تاريخ البشرية بطريقة غير مسبوقة، فبحسب بعض المصادر، من بين الدول المستقلة حالياً كان نحو 80% منها مستعمرات أوروبية كاملة أو جزئية "تضمّ اليوم حوالي ثلثي عدد سكان الكرة الأرضية". وعبر التاريخ لم يمكن الاستعمار أمراً محموداً، بل كانت مقاومته، ومازالت، عنوان نضال الشعوب سكان الأرض باستخدام مهارات وذخيرة مقاومة (وهي تمثل هويتهم أصلاً) للتعامل مع الظرف الاستعماري عبر استراتيجيات تحفظ بقائها بتبني قرارات جماعية أو حتى فردية تصر على الانتماء للجماعة كأداة مقاومة وآلية نقل ثقافة المقاومة هذه؛ كما نعرف من جهود معظم الأقليات المضطهدة عبر التاريخ، ومنها من خضع لشروط هيمنة قاسية أجبرته على الخروج من التاريخ العالمي بصورة تامة ونهائية.
وفضلاً عن السياقات الكولونيالية الكامنة وراء المصطلح، لا بدّ من النظر إليه من زاوية فلسفية أنثروبولوجية أوروبية المنشأ ترى في "الأشياء" و "الموضوعات" القابلة للملاحظة أهدافاً مشروعة للمعرفة والتجربة العملية والمخبرية، بهدف السيطرة على الجماعات المحلية، وشرح "ثقافة" هذه الجماعة من "الخارج"؛ فالواصف ليس أصيلاً، بل غريباً وافداً؛ لكنه منح نفسه حق الوصف والتصنيف والتمييز بناء على ثقافته ومصلحته. على هذا النحو، يصنّف جميع سكان الإقليم تحت هذه التسمية بغض النظر عن تباين و/ أو تنوع التجارب والثقافة واللغة على الصعيد المحلي.
وتستدعي مثل هذه النظرة إلى وجود "آخرين" غير هؤلاء "الأصليين" يكرسون أنساق هيمنة استعمارية (واستيطانية مباشرة)؛ والنظر إلى "السكان الأصليين" بصفتهم "قبائل" و "جماعات محلية" و "طوائف".. إلخ، واستمرت هذه النظرة حتى بعد تشكل الدول القومية الحديثة وترسيخ الحدود السياسية والجمركية لكل دولة/ أمة/ قومية ( قبل مدة صرح سموتريتش بأن الفلسطينيين مجرّد عشائر و"حمائل"، وليس شعباً... وهم اختراع لم يتجاوز عمره 100 عام).
ولعل وصف "السكان الأصليين" من أكثر التعابير التي تعرضت لانتقادات وتأويلات وتأويلات مضادة منذ ما بات يعرف بعصر تصفية الاستعمار وظهور الدراسات ما بعد الكولونيالية، منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي تقريباً، ويتضح ذلك من الملاحظات النقدية التي ترى فيه تعبيراً يحمل أعباء ذكريات تمييز واستغلال استعماريين. ويقترح البعض ضرورة استخدام مصطلحات أخرى بديلة تعبّر بدقة عن تجارب وثقافات الشعوب المستعمَرة. ولا يخفى في هذا الصدد الانتقادات التي وجهت إلى الأنثروبولوجيا بزعم مشاركتها استعمار الشعوب الأخرى، من خلال "جمع" المعرفة عن "الشعوب الأصلية" للسيطرة عليها استكمالاً لما سبق من استيطان أرضهم ومواردهم وحجزهم في "محميات خاصة" (لنلاحظ في هذا السياق كيف تضع إسرائيل لنفسها أسس منطقية تبرر انتشار الحواجز في الضفة الغربية وبناء جدار الفصل العنصري "الذي هو في حد ذاته شكل من أشكال العنف" بمزاعم أمنية لحماية اليهود الإسرائيليين من الآخرين من السكان الأصليين)، وساعدت هذه الآلية بظهور صور نمطية عديدة عن "السكان الأصليين" في مجالات أخرى كالرسم والسينما والمسرح وغيرها، التي عززت التفرقة وكرست إقصاء "غير الأوروبيين" من التاريخ العالمي، سواء في كتابته أو المشاركة في صنعه، وجعلها تبدو كجماعات تعيش على حواف الحضارة المعيارية، أي الحضارة الأوروبية "المسيحية" ضمن سياسات التمييز التي مهّدت لاحتلال واستعمار هذه الشعوب وأعطت المبرر لهم لتدمير الهويات الثقافية والتقاليد الأصلية لهذه الشعوب وفرض ثقافتهم الخاصة.
إذًا يعني مصطلح "السكان الأصليين" في جزء منه على الأقل، جهود التخلص من الثقافات الأصلية وتحويل التحديد الذاتي للهوية الإثنية للأقوام المستعمَرة إلى حالة سائلة غير قابلة للتعيين حتى أن إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية لا يشمل على تعريف محدد للسكان الأصليين وحسب المادة (33)؛ يخضع تعريف الفرد لنفسه بأنه من أبناء وبنات الشعوب الأصلية لمعايير أساسية، رغم إشارة المادة ذاتها إلى أن "للشعوب الأصلية الحق في تحديد هويتها أو انتمائها وفقاً لعاداتها وتقاليدها".
يضع تعبير "السكان الأصليين" حدوداً صارمة تفصل بين المستعمِر والمستعمَر ضمن تمثل التجارب التاريخية والاستعمارية، وهي حدود من طبيعة مختلة لصالح المستعمِر الذي يتحكم بها وبحجمها وتنبع أساساً من نظرته إلى "فرادة" أصوله الإثنية واللغوية والعرقية والدينية والمجتمعية؛ ومن تراكم الخبرات المؤسسية الاستعمارية المديدة وهو ما يجعله يضع هؤلاء "الآخرين" في سلة واحدة هي سلة "السكان الأصليين".. بما يخفي الاختلافات الثقافية والاجتماعية وقدرة الفعاليات المحلية على المقاومة، مما ساهم في تشويه صورة تلك الشعوب. والأهم من كل هذا، إن التعريف قد حصل دون رغبة واستشارة الموصوفين.
لن تكون دراسة الاستعمار مكتملة ما لم نضع في اعتبارنا جهوداً وفعاليات مقاومة الجماعات المحلية "الأصلية" وقدرتها على الاستجابة للظروف المعاكسة التي تعترف بقدرتها السياسية التي تم تجاهلها لفترة طويلة.
الصورة: من أرشيف كانز معرض "وشراعي في مينا يافا" رفعت ترك.
محمود الصباغ
ولد في مخيم اليرموك/ دمشق 1962، يقيم منذ العام 2013 في السويد
ناشط في مجال الترجمة في الشأن الإسرائيلي؛ وعلم الآثار وتاريخ فلسطين القديم.
عضو مشارك ومؤسس في "مركز الجرمق للدراسات"
الأعمال المنشورة:
- "فلسطين في الفضاء الصهيوني"، مقالات مترجمة. 2022
- "البحث عن إسرائيل التاريخية: السجال الآثاري وتاريخ إسرائيل القديمة". ترجمة. تحت الطبع 2024
- "علم الآثار السياسي والنزعة القومية المقدسة". ترجمة. تحت الطبع2024
- " الأركيولوجيا بين العلم والإيديولوجيا. ترجمة. تحت الطبع2024