الصدام بين السلطتين القضائية والتشريعية في إسرائيل.. إلى أين؟
بلغَ الصدام بين السلطتين القضائية والتشريعية ذروته في إسرائيل عندما صوّت الكنيست في 24 يوليو/تموز الماضي، المتواصل منذ نحو تسعة أشهر على خلفية الجدل والخلاف القائم بسبب التعديلات القضائية. القراءتين الثانية والثالثة على مشروع قانون "الحدّ من المعقولية" ليصبح قانونًا نافذًا رغم الاعتراضات الواسعة عليه، وبما لا يدع مجالًا للشك فإن إسرائيل قد دخلت في أزمة دستورية وسياسية تدفع باتجاه تعميق التصدع السياسي-الاجتماعي في المجتمع الإسرائيلي ومن المرجّح أن يستمر الاستقطاب المجتمعي في إسرائيل بالمرحلة المُقبلة وسيكون له التأثير المباشر على السلطات الثلاث (التشريعية، التنفيذية، القضائية)، الأمر الذي من شأنه أن يزيد الشرخ في جسم القضاء، والجيش، والمجتمع، ويبقي الصراع مفتوحًا ما بين الحكومة والمعارضة ويزيد من تآكل ثقة الإسرائيليين في مؤسسات الدولة.
في الواقع، فإن كل طرف من طرفيّ الصراع في إسرائيل له وجهة نظر خاصة، ودوافعه المختلفة، ويرى أن الدولة تقف على مفترق طرق في تحديد هويتها ووجهتها وشكل نظامها السياسي. ففي الوقت الذي تُجمع فيه كل مكونات الائتلاف الحكومي المتمثلة بالأحزاب اليمينية والدينية المتطرفة على إحداث تغيير في مكانة السلطة القضائية وإحداث التوازن بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ضمن خطة "إصلاح القضاء" أو "الثورة القانونية"، فإن الطرف المعارض للتعديلات القانونية المتمثّل بالمؤسسة القضائية وأوساط يهودية ليبرالية وعلمانية من تيارات سياسية واجتماعية وثقافية وأكاديمية عريضة من المجتمع الإسرائيلي، والتي تختلف أيديولوجيًا، بالمقابل تتحدّ خلف راية رفض تعديلات جذرية للقضاء التي يرغب ائتلاف نتنياهو بتمريرها، فإن هذا التيار يصف الخطة بـ "الانقلاب" ومحاولة لإضعاف السلطة القضائية والسيطرة عليها ويعتبرها "تقوض الديمقراطية" ويفسح المجال لهيمنة الحركات الدينية على الدولة والحياة الاجتماعية والثقافية ومع الوقت إعادة تشكيل هوية الدولة.
أحد الأهداف الأساسية للتعديل القضائي إحداث تغيير جوهري في مكانة ووظيفة السلطة القضائية عمومًا، والمحكمة العليا خصوصًا، ويتمثل بتمكين الحكومة من تمرير التشريعات، سواء التي أبطلتها المحكمة في السابق أو التي سوف تُمرر مستقبلًا على ضوء احتمال تضاربها مع ״المعقولية״، وذلك من خلال إضافة فقرة "التغلب"، والمقصود تعديل قانون أساس السلطة القضائية، بحيث يستطيع الكنيست إقرار تشريع جديد لقانون ألغتهُ المحكمة العليا، وذلك بأغلبية 61 عضوًا من أصل 120 عضوًا، وهي أغلبية قليلة تسمح للائتلاف الحكومي عمليًا بتشريع كل قانون تلغيه المحكمة العليا أو تطالب بتعديله، وتعطي كذلك الكنيست سلطات كبرى باختيار القضاة، والذي يعني تحييد وظيفة وتقليص سلطات المحكمة العليا التي تعتبر أحد الفاعلين الأساسيين في النظام السياسي الإسرائيلي من خلال دورها في العمل على حفظ التوازن السياسي بين مؤسسات الدولة التشريعية والقضائية والتنفيذية. وبذلك لا يحتاج الائتلاف إلى المعارضة من أجل تجديد قانون ألغته المحكمة العليا، مع العلم أن المحكمة العليا ألغت منذ عام 1992، 22 قانونًا فقط.
من المهم الإشارة هنا إلى أنه بالرغم من تضاعف قوة الصهيونية الدينية المتمثلة بالأحزاب اليمينية والدينية المتطرفة خلال العقدين الماضيين، إلا أن الصهيونية العلمانية المتمثلة بأوساط يهودية ليبرالية وعلمانية، لا تزال تسيطر على الحكم، وذلك لأن القوة والنفوذ يقبعان خارج أروقة الكنيست، أي في المؤسسات الثقافية، ومؤسسات المجتمع المدني، والبيروقراطية، والاعلام، والقضاء، ومع زيادة نفوذ اليمين في هذه المؤسسات، وأيضًا في ظل وجود خطة للصهيونية الدينية للسيطرة على الدولة ومؤسساتها وتقويض المحكمة العليا، وذلك بالسيطرة على "لجنة اختيار القضاة"، والحد من صلاحيات المحكمة التي تعارض برامجها وأجنداتها وتمنعها من تنفيذها، استشعرت الصهيونية العلمانية بخطر تغيير قواعد اللعبة وفقدانها السيطرة على الحكم بسبب زيادة التأييد الشعبي لأحزاب اليمين التي توظف قوتها ونفوذها في المؤسسات للتأثير على هوية الدولة برمتها، وتحويلها من دولة "يهودية ديمقراطية" كما تعرّف نفسها، إلى دولة تتطلع إلى حكم إسرائيل بموجب التوراة والشريعة الدينية اليهودية، وهذا ما يؤمن به الكثير من الحاخامات واليهود والمتدينين.
من الناحية العملية فإن ميزان القوى سيميل لصالح السلطات التشريعية التي ستتمكن من سن القوانين، بما في ذلك قوانين الأساس، مع تقييد دور المحكمة أو أي رقابة قضائية. وبالتالي، فإن قضية الفصل بين السلطات تمثل أزمة كبيرة في إسرائيل، فمعروف أنه لا فصل بين السلطتين، التنفيذية والتشريعية، وتُثبت التجارب العملية منذ تأسيس إسرائيل أن أغلب الوزراء دائما ما يكونون أعضاء في الكنيست، وهذا يعني بالضرورة اندماج كامل بين السلطتين. وفي الوقت نفسه، لا تتوقّف السلطة القضائية عن التدخّل في قرارات الحكومة، أو فيما يصدره الكنيست من قوانين، وهذا بالتأكيد يُضعف السلطات الثلاث معًا، ويؤثر سلبًا على الدولة. مع الإشارة أنه منذ نشأت الدولة عام 1948، لم تتفق الأحزاب الإسرائيلية على دستور للدولة، واستعاضت عن ذلك بقوانين الأساس التي تُشكل أساس الحكم وتنظم العلاقة ما بين السلطات الحاكمة والمجتمع.
لا شك أن سحب البساط من تحت المحكمة العليا الإسرائيلية سيكون له انعكاسات مباشرة على واقع الفلسطينيين السيء أصلًا من قبل التعديلات القضائية، وسيكون له تداعيات سلبية على حقوق الإنسان عبر سنّ المزيد من التشريعات التي تُضيق أكثر على فلسطيني الداخل في كافة مناحي الحياة، وسحب منهم إمكانية اللجوء إلى المحكمة العليا للاستئناف على قوانين الاضطهاد والعنصرية التمييزية التي تشرعنها الكنيست ضدهم، إلى جانب المزيد من القمع للشعب الفلسطيني والتوسع في سياسات الاستيطان وضم المزيد من الأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات عليها ضمن مساعي حسم الصراع ومنع إقامة دولة فلسطينية، والتوجه نحو فرض دولة يهودية صهيونية على كامل أرض فلسطين التاريخية.
وبالرغم من أن دور المحكمة العليا المتمثل في حفظ التوازنات السياسية و"حماية الحقوق الأساسية" وفي النظر في كافة الاستئنافات والقضايا ضد سلطات الدولة أو الهيئات العامة، والأهم من ذلك أنها تبتّ في دستورية القوانين التي تصدرها الحكومة ولديها الصلاحيات لإلغائها، إلا أنها حافظت على سياسة تجميلية للعنصرية الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين عمومًا وتجاه مجتمعنا العربي خصوصًا، هذا المجتمع الذي يعاني منذ أكثر من 70 عامًا من ظلم وإجحاف وعنصرية المحاكم الإسرائيلية، ولا سيّما المحكمة العليا التي أصدرت الكثير من الأحكام التي فيها مساس صارخ بحقوق المواطنين الفلسطينيين في الداخل ولم تناصر قضاياه العادلة من منطلقات عنصرية وتمييزية تتعارض مع الدور المنوط بها من المنظور القضائي، فالمحكمة العليا هي من رفض الغاء العديد من القوانين العنصرية دون أي معارضة تُذكر منها، وفي مقدمتها "قانون القومية" أخطر هذه القوانين وأشدها عنصرية، وذلك في أعقاب الالتماس الذي قدمته جمعيات حقوقية.
استخدام الصور بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected].