استفحال التقطّب الاجتماعي والاقتصادي في إسرائيل: مستقبل الجميع في خطر

الواقع الاقتصادي في ظل الأزمة التشريعية في البلاد مختلف تمامًا عما كان عليه عشية بداية "الانقلاب القضائي" الحاصل والمخطّط لهُ من قبل القوى الظلامية في هذه الدولة، حتى بتنا نقول بأن التاريخ الاسرائيلي انقسم إلى ما قبل هذه الحقبة وما بعدها.

لقد كانت الديمقراطية الشكلية في إسرائيل هي أحد أهم الركائز التي يعتمد عليها الاقتصاد الاسرائيلي في تسويق نفسهِ على أنه البقعة الآمنة الوحيدة في الشرق الأوسط على صعيد الاستقلالية القضائية التي تضمن حقوق الملكية لكلّ من يريد الاستثمار فيها، كذلك فإنه لا يوجد هناك استبداد سلطوي يهدد أمن المصالح الفردية كما هو الحال في دول مجاورة أو اقتصادات نامية كانت تنافس إسرائيل على استقطاب الاستثمارات الأجنبية من خلال أفضليتها النوعية في جوانب كثيرة وعلى رأسها تكلفة الإنتاج.

فقد كانت الماكينة الإعلامية الاسرائيلية المبرمجة تقارن دائما بين المناخ الاستثماري في إسرائيل وبين الصين، أو الهند، البرازيل،  روسيا، إذ كانت ركيزتها الأولى هي الديمقراطية وسلطة القانون واستقلال القضاء فيها مقارنة مع تلك الاقتصادات الناشئة التي تعاني من مشكلات كبيرة في هذه النواحي.

بدأت الجهات الظلامية حملتها بإبطال حجة المعقولية التي كانت إحدى أهم الركائز التي تعطي الجهاز القضائي القدرة على إبطال أي قرار تعسفي من قبل السلطة الحاكمة والذي يتعارض مع القيم الانسانية والأعراف الدولية، حتى لو لم يكن هناك نص قانوني يمنع تنفيذ هذا القرار، والجدير بالذكر أن غياب دستور في إسرائيل كان المحرك الأساسي إلى استنباط الجهاز القضائي أدوات بديلة لسدّ الثغرات التي لا يمكن منعها إلا بوجود دستور كنظام ضبط أساسي يقف سدًا واقيًا أمام تعسف الأغلبية البرلمانية خاصة في نظام لم تنضج فيه الكثير من القيم الانسانية التي أصبحت من البديهيات عند شعوب ناضجة ومتطورة أخرى.

لا بدّ من الاشارة إلى أن الجهاز القضائي ما زال بعيدًا عن استعمال كافة التدابير من أجل تحقيق العدالة بل يمكن القول بأن قراراته كانت منذ إقامة الدولة تخدم الفكر اليهودي ومفهوم الأحقية اليهودية في هذه البقعة من الأرض، حتى أنه لم يتردد في فرض هذه المفاهيم على المناطق المحتلة وهذا في تعارض تام مع القانون الدولي والقرارات الدولية الصادرة في هذا المجال، ولكنه تدخل في بعض القرارات التي تعارضت بشكل مباشر مع القانون والتي لها تداعيات أفقية تؤثر على الأغلبية اليهودية، ولذلك هناك حاجة فعلا لتغييرات قضائية ولكن في الاتجاه المعاكس وهو وضع دستور يجذر القيم الإنسانية والحريات والديموقراطية وإلغاء القوانين العنصرية الكثيرة في إسرائيل ومنها قانون سلب أموال الغائبين إلى قانون الطوارئ العنصري ضد الفلسطينيين.

لقد رأينا بوضوح تراجع قيمة الشيكل الاسرائيلي أمام العملات الأجنبية والذي ما زال مستمرًا رغم التطمينات التي عمل عليها نتنياهو من خلال شركات التصنيف الائتماني والتي ما زالت تتعامل مع الاقتصاد الاسرائيلي بحساسية مفرطة وتلميحات متواضعة عن عمق الأزمة الاقتصادية في إسرائيل حتى أنها كانت أقل حزمًا من التقارير الإسرائيلية لمؤسسات كالبنك المركزي الاسرائيلي ووزارة الاقتصاد وغيرها، فقد تحدث تقرير الاقتصادية الرئيسية في وزارة المالية الإسرائيلية عن تراجع الناتج القومي الإسرائيلي بنسبة 0.8% سنويًا مما يعني خسارة ناتج 270 مليار شيكل خلال خمس سنوات وكذلك تراجع في مدخول الدولة بما لا يقلّ عن 385 مليار خلال العشر سنوات المقبلة.

لقد وصل الاقتصاد الإسرائيلي فعليًا إلى معدلات تراجع أكبر من ذلك حيث إن الخسارة الاسرائيلية في هذه السنة وصلت الى ما يفوق 170 مليار شيكل من تراجع في الاستثمارات الأجنبية وهروب استثمارات محلية من إسرائيل.

هذا الهروب الاستثماري برز في تراجع مداخيل الدولة من الضرائب والذي بدأ يهدد بوضوح نسب العجز القصوى المخططة لميزانية الحكومة وبدأ الحديث في أروقة المالية عن الحاجة الملحة لتقليصات حكومية الى جانب رفع ضرائب وهي الخطوة التي لا يجرؤ السياسيون الآن على اتخاذها في ظل الارتفاع الكبير في الأسعار نتيجة انخفاض قيمة الشيكل أمام العملات الأجنبية، هذا إلى جانب الارتفاع الكبير في نسب الفائدة البنكية التي يدفعها المواطن على قروض الإسكان والاستثمار.

اجتماع عنصرين مهمين وهنا ارتفاع الفائدة وتراجع في الاستثمارات الحكومية من شأنه أن يدخل الاقتصاد في دوامة من انخفاض حادّ في الإنتاج وتراجع كبير في نسب النمو الذي وصلت به إلى ما يقارب 2% وهي نسبة الازدياد السكاني وهذا يعني أننا بدأنا بمرحلة انخفاض الناتج القومي للفرد وهذا من أخطر المؤشرات لحصول ركود اقتصادي لا أحد يستطيع أن يتوقع إلى أي قعر يمكن أن تتدحرج فيه كرة الثلج هذه.

هذه المؤشرات تنضم إلى نقاط ضعف اقتصادي أخرى ميزت الاقتصاد الاسرائيلي عشية البدء بالانقلاب القضائي وأهمها التباعد الاقتصادي الكبير بين قطاعات المجتمع المختلفة فقد تولت إسرائيل المرتبة الثانية في قائمة دول الـ "OECD" (منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية) في التباين الاقتصادي بين أطياف المجتمع بحيث تآكلت الطبقة الوسطى وأصبح المجتمع مقسم إلى أغنياء وفقراء وهذا مؤشر كان يسيطر على التقارير الاقتصادية العالمية ولكن الماكينة الإعلامية الإسرائيلية كانت تقزم هذا الموضوع وتقلّل من أهميته، نظرًا لسيطرة رجال الأعمال على وسائل الاعلام الاسرائيلي ومساعدة نتنياهو على سياسة التجهيل وإبعاد الاهتمام الشعبي نحو التهديدات الأمنية التي كانت مفتعلة في غالب الأحيان لصرف انتباه الجمهور اليهودي عن الأمراض الحقيقية التي تهدد أمنه واستقراره الاقتصادي.

هذه السيطرة من قبل رجال الأعمال لم تقتصر على الإعلام وإنما على القرارات السياسية من خلال دعم الأحزاب المتنافسة في الانتخابات, فعند فحص الجهات الممولة للكفالات البنكية التي تقدم للمجلس التشريعي الإسرائيلي الكنيست، لأي حزب يريد خوض الانتخابات الاسرائيلية، تجد أن كل الأحزاب الجديدة تودع كفالات بنكية لرجال أعمال ليصبحوا هم أصحاب القرار السياسي الفصل، من هنا فإن الدولة العميقة في إسرائيل, مسيرة من قبل مجموعة صغيرة من رجال الأعمال وأصحاب النفوذ، وعليه فإن الدكتاتورية قد غزتها قبل عملية الانقلاب القضائي، وذلك من خلال ما لا يزيد عن ١٩ عائلة غنية مسيطرة على الاقتصاد والسياسة والإعلام.

في ظل هذا الواقع الخطير جاءت القوى الظلامية لتفرض دكتاتورية أخرى، وتسليم زمام السيطرة لأي حكومة منتخبة. في الوضع الراهن مركبات هذه الحكومة اليمينية المتطرفة والمسيطر عليها من قبل اليمين المتطرف الذي يعنيه الاحتلال وابتزاز ما تبقى من الأرض الفلسطينية من ناحية، ومن ناحية أخرى المتدينين الفقراء الذين لا يعملون ولا يريدون المساهمة في بناء الدولة ويكفي من جهتهم أنهم يدرسون التوراة كمساهمة في حماية إسرائيل، والشرقيين اليهود الذين يعتبرون أنفسهم مضطهدين من الغربيين الذين بنوا الدولة ولذلك ما يحركهم هو الحقد والرغبة الكبيرة بالانتقام.

هذه المجموعات الثلاث، والتي تشكل الحكومة الحالية، أصبحت تتعامل مع التغييرات القضائية بأنها قضية مصيرية وفرصة تاريخية للسيطرة وتنفيذ مآربها التي تستنزف الاقتصاد، فالمتدين يريد تحويل ميزانيات ضخمة لمن لا يعملون وليس لهم أي مساهمة في بناء اقتصاد الدولة، من ناحية أخرى المتطرفين الذين يريدون تحويل الميزانيات إلى خارج نطاق الدولة إلى المستوطنات اليهودية في فلسطين المحتلة وهذا استنزاف آخر لموارد الدولة، أما المجموعة الثالثة فما يعنيها هو تولي السلطة والانتقام من اليهود الغربيين الأشكناز حتى وان كان الثمن هو تحويل كل موارد الدولة إلى المتدينين والمتطرفين، وهنا الخطورة القصوى في تركيبة هذه الحكومة.

لا بدّ من التنويه أن أعداء هذه الحكومة وأتباعها هم الأشكناز الذين بنو الدولة وهم أصحاب الشركات الكبرى ومحركات الاقتصاد الإسرائيلي من هايتك وصناعات حربية، لذلك نجد هذا الزخم الكبير للاحتجاجات ضد الانقلاب القضائي في إسرائيل.

على الصعيد العربي فإن نقطة البداية كانت سيئة، ولكنها تزداد سوءًا في ظل هذه الحكومة حيث نشهد تراجعًا في الاستثمارات الحكومية في هذا المجتمع المنكوب، وكذلك تراجع في مجالات التشغيل وبهذا يخسر الناتج القومي ما لا يقل عن ٣٢ مليار شيكل سنويًا من عدم استغلال الطاقات الإنتاجية العربية، وهذا ينضم إلى غرق المجتمع الفلسطيني في الداخل في دائرة الفقر الذي يزداد مع الارتفاع في أسعار الحاجيات الأساسية من ناحية وارتفاع الفائدة البنكية من جهة أخرى.

هذا التراجع الاقتصادي على الصعيد العربي أدى الى تقطب اجتماعي بوتيرة أكبر منها في المجتمع اليهودي، مما أدى ذلك إلى استفحال الإجرام وظهور مجموعات الخاوة وابتزازها لأصحاب المصالح، وساهم في انعدام الأمن والاستقرار الذي يشكل العنصر الأهم في بناء مناخ استثماري في أي مجتمع، لذلك فنحن في طريقنا إلى انزلاق أكبر نحو الهاوية مما سيكلّف الدولة ثمن كبير لإنقاذ هذا المجتمع وتفادي تداعيات هلاكهِ على الأغلبية الحاكمة.


استخدام الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected].

د. وائل كريم

مختص في الشأن الاقتصادي والمرشح الثامن في "الحزب الاقتصادي" الذي سيخوض انتخابات آذار 2021

رأيك يهمنا