المسألة الفلسطينية تحت وطأة استراتيجيا إسرائيلية جديدة وأصولية يهودية شاطّة!

لا تتجاهل بعض الأدبيّات الإسرائيلية التي تتطرّق إلى تداعيات الأزمة الحادّة التي تشهدها إسرائيل بسبب خطة حكومة بنيامين نتنياهو الحالية الرامية إلى إضعاف الجهاز القضائي، ما سوف يترتب في الوقت عينه على آخر المواقف الإسرائيلية حيال أراضي 1967، وحيال القضية الفلسطينية عمومًا، تحت وطأة وجود حكومة هي الأكثر تطرفًّا يمينيًّا، قوميًّا ودينيًّا.  

فمثلًا في سياق وثيقة جديدة صادرة عن "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب وتحمل توصيف "إنذار عاجل"، وتستعرض المخاطر التي تتهدّد الأمن القومي الإسرائيليّ عمومًا، جاء تحت عنوان "السياق الفلسطيني"، أن ما يحدث في الساحة الفلسطينية هو بمثابة انقلاب يمكن أن يُعدّ موازيًا للانقلاب القضائي، يركز على تغيير المقاربة والطريقة التي تسيطر فيها دولة إسرائيل على أراضي الضفة الغربية. 

وهدف هذا الانقلاب، بموجب الوثيقة، هو سيطرة إسرائيل على الضفة الغربية، وإحباط أي إمكان لتسوية مستقبلية بين إسرائيل والكيان الفلسطيني. ويجري التعبير عن هذه السياسة عن طريق انتهاج استراتيجيا جديدة تسعى للقضاء على التطلعات الوطنية الفلسطينية، وعلى الخيار السياسي للتسوية، وتحضير الأوضاع لضم المنطقة "ج" كلها إلى إسرائيل، ولاحقًا إنشاء وضع "دولة واحدة مع تفوّق يهودي"، على حدّ ما يرد في الوثيقة. 

وتتجلّى هذه الاستراتيجيا الإسرائيلية الموصوفة بأنها جديدة، كما توضح الوثيقة، في ما يلي: 

أولًا، استغلال التصعيد في ما تنعته بأنه "إرهاب فلسطينيّ" من أجل القيام بـ "ردّ صهيوني شامل": إقامة مستوطنات، وتوسيع المستوطنات الواقعة وراء العائق الأمني في قلب الأراضي الفلسطينية، وإقامة بؤر استيطانية غير قانونية، والتساهل مع أعمال عنف المستوطنين وممارساتهم الانتقامية. وثانيًا، نقل الصلاحيات المدنية في الضفة الغربية إلى الوزير بتسلئيل سموتريتش، رئيس حزب الصهيونية الدينية اليميني المتطرّف، وإضعاف صلاحيات القائد العسكري (المسؤول الفعلي على الأرض)؛ تغيير القواعد والإجراءات المتعلقة بتصاريح البناء في المستوطنات، ونقل وحدة المراقبة إلى سيطرة الوزير سموتريتش، الأمر الذي يسمح بتوسيع الرقابة على البناء الفلسطيني غير القانوني، وغضّ النظر عن البناء الإسرائيلي غير القانوني. والنتيجة "تآكل الحاجات والاعتبارات الأمنية وتقدُّم الاعتبارات الاستيطانية".

ويجب أن نضيف إلى ما تقدّم، أنه في واقع إسرائيل الراهن ليس هناك من يُعارض هذا الموقف العام للحكومة من الاستيطان والاحتلال والمسألة الفلسطينية. فمثلًا أطراف الحكومة الإسرائيلية السابقة (حكومة بينيت- لبيد)، التي كان الوصف الأكثر شيوعًا لها في إسرائيل هو بأنها "حكومة التغيير"، ظلّت فيما يتعلّق بأراضي 1967 والقضية الفلسطينية تطرح مبدأ "إدارة الصراع" أو "تقليصه"، والذي هو في الحقيقة بمثابة تأييد استمرار عدم وجود سياسة تسوية سلمية، ما سيؤدي ربما إلى النتيجة ذاتها.

ولعلّ من بين أبرز التداعيات الأخرى التي ترتبت على الحكومة الإسرائيلية الحالية، بحسب ما يشير باحثون مختصون، أنها تشكلت بناء على نتائج الانتخابات العامة الأخيرة، وهي نتائج دفعت نحو السطح تيارات عميقة في المجتمعين الديني والحريدي بالإمكان تصنيفها كتيارات أصولية/ سلفيّة. فمثلًا، تشير البروفسور رونيت عير- شاي، وهي رئيسة "برنامج دراسات النوع الاجتماعي" في جامعة بار إيلان وباحثة في "معهد هرتمان للفكر اليهودي التعدّدي"، في إطار مقال جديد بعنوان "الأصولية الدينية وتقاليد الموروث اليهودي" نُشر في المجلة الإلكترونية "العين السابعة" الصادرة عن "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، إلى أن أدبيات البحث الخاصة بالأصولية الدينية عمومًا تحدثت بشكل عام عن خصائص متنوّعة لهذه الأصولية. وغالبًا ما شمل ذلك الخصائص التالية: التشديد على التفسير الحرفيّ للنص الديني، والطاعة غير المشروطة لأوامر الله، ورفض التعددية الدينية، والتصوّر التبسيطي وغير النقدي لمفهوم الحقيقة الدينية، وتصوّر نظام القانون أو الإيمان على أنه أبدي لا يتغيّر، وتطلّع إلى العودة للتدين الأصلي الذي لا يتأثر بالتحديث، والرغبة في توسيع نفاذ الحقيقة الدينية على المجتمع بأسره. 

وفي قراءتها فإن التيارات اليهودية الأصولية التي تفرض هيمنتها على الحكومة الإسرائيلية الحالية تتسم أكثر شيء بما يلي:

أولًا، الاستلاب الكامل للحاخامين وفتاواهم فيما يتعلّق بأحكام الشريعة اليهودية، حتى لو كانت تتعارض مع العقل أو المنطق، علمًا بأنه كان لدى مفسري الشريعة اليهودية من أكد (وكان أبرزهم الرامبام) أن المعيار الوحيد الذي يجب أن تفسَّر على أساسه كلمات الحاخامين هو المعيار العقلاني فقط، وأنه في كل مرّة لا يتطابق المكتوب مع المعايير العقلانية، يجب تفسيره بعيدًا عن التبسيط، بل على أنه مثل أو أحجية، ولكن ليس كأمر يتعارض مع العقل بأي شكل من الأشكال. 

ثانيًا، هناك برأي عير- شاي مدماك آخر أكثر خطورة في الطابق الأصولي الذي يتم بناؤه اليوم، وتقصد السؤال حول ما إذا كان من اللائق أن تشكل المفاهيم الأخلاقية معيارًا تفسيريًا في فهم الشريعة، أم أنه ليس بمقدورنا كبشر فهم "الأخلاق الإلهية"، وبالتالي يجب علينا أن نطيع (على نحو أعمى) حتى عندما تتعارض تعاليم معينة مع أي فهم أخلاقي مُتعارف عليه. وتوضّح أنه كتب الكثير حول هذه المسألة، ولكنها ارتأت أن تكتفي بالقول إن الموقف السائد بين الكثيرين في العالم الديني يجزم بأنه عندما نواجه تعاليم أو تفسيرات لا تتماشى مع المفاهيم الأخلاقية المتعارف عليها، فلا ينبغي للمرء أن يطرح أي تساؤلات حول تعاليم التوراة المكتوبة أو الشفوية. ويؤمن هذا الموقف الديني الأصوليّ في الواقع بأن شريعة الله تؤسس الأخلاق، وبالتالي لا توجد "أخلاق طبيعية". بعبارة أخرى، لا تتمتع الأخلاق بمكانة مستقلة ويمكن لله أن يأمر حتى بالأشياء التي تبدو لنا غير أخلاقية، لأنها إذا كانت فرائض إلهية فهي بالتأكيد "خيّرة". وتجزم بأن إسقاطات هذا الموقف على دافعية الحاخامين لتفسير يتوافق مع وجهة نظر أخلاقية بسيطة، هي إسقاطات مدمرة بالتأكيد. وتقدّم نموذجًا من خلال الحاخام شلومو أفنير (وهو من حاخامي التيارات الدينيّة المتشددة، ومدير إحدى أهم الكليات العسكرية الدينية) الذي كتب أنه "من المهم أن ندرك أن الأخلاق لا تبدأ بما يشعر به الإنسان ويعرفه ويفهمه. إن الأخلاق لا تأتي من الإنسان، بل إنها تأتي من الله". وبالفعل، في العقود الأخيرة، على ما تضيف عير- شاي، هناك خط متطرّف آخذ بالتطور في المجتمع الصهيوني- التوراتي/ الحريدي- القومي وهو ينكر أي أخلاقيات لا تستند إلى التوراة. وتحمل هذه المسائل أهمية كبيرة في فهم الموقف النفسي لدى المفسّر والمشرّع عندما يتعلق الأمر بالحكم في القضايا التي تعكس معضلة أخلاقية بين ما يُنظر إليه على أنه موقف الشريعة وبين الأخلاق السائدة اليوم. وتتفاقم خطورة الأمر عندما تُترجم إلى رسالة تربوية تُنقل إلى طلاب الحاخامين من خلال بلاغة الأجوبة الشرعية.

أمّا الاستنتاج الذي تخلص إليه هذه الباحثة ففحواه أن الموقف الديني النقدي، الذي يخوض في البحث بأقوال الحاخامين ويفسرها في ضوء معايير العقل والأخلاق، لديه جذور عميقة في الموروث الديني اليهودي التوراتي والفكري. كما أن المفاهيم الأصولية التي ترى أن أي محاولة لتفسير الشريعة اليهودية وفقًا لمبادئ عقلانية أو أخلاقية تتسبّب بإخضاع كلام الله لإرادة الإنسان هي التي تتطلب تبريرًا، لأنها لا تعبّر بأي شكل من الأشكال عن مفهوم "اليهودية الأصيلة" الجذرية، بل تشكّل انحرافًا عن التيارات المركزية والمهمة في الموروث اليهودي على مرّ أجياله، وتجلياتها اليوم هي عمليًا ليست سوى تطورات حديثة مناهضة للموروث.


استخذام الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected].

أنطوان شلحت

كاتب صحافي ومحلل سياسي فلسطيني.

شاركونا رأيكن.م