الوالدية، بين الواقعية والرمزية
كاد إبراهيم أن يضحي بولده لولا .... وحين أحرق نيرون روما لم يتململ البث في قراره وزيوس آلهة النار وبقي القتل بقي متربعًا على عرشه فوق الحب ومن أجل السلطة.
ألم يعمر ابن خلدون الأرض؟ ألم يجد عقدًا اجتماعيًا يؤلف به بين بني البشر.
بعيدًا عن الاعتبارات الدينية في قصة إسماعيل الأب يضحي بابنه، والأخ يقتل أخيه (قابيل وهابيل) وأخوة يوسف يرمونه في بئر و.....
وراء كل الأساطير والقصص تستتر رمزية نفسية توحي بالتركيبة المعقدة للنفس وتوحي بإسقاطية كل ما تقول.
الوالدية، إذاً، ليست وظيفة ولا هي مهنة، بل قيمة اجتماعية ونفسية سامية تفوق القوانين وحتى الكلمات. بتبنينا طرحًا ساذجًا للتربية يمكن القول أن هدف التربية هو جعل الإنسان حضاريًا. قد يكون حضاريًا بمعنى عقد ابن خلدون وأن نجعل الفرد ذا سلطة، كما كان "إسقاط" زيوس، أو رمزًا للتضحية، كما كان إبراهيم.
بين الأسطورة وعلم الاجتماع فجوة عميقه يصعب سدها!
إذا كانت كل العلوم (ومنها علم الاجتماع) تشرح العلاقات الإنسانية، فعلم النفس يحاول أن يفهمها.
معظم العلوم الإنسانية تتوق لأن تكون موضوعية في طرحها، وبضمنها بعض نظريات علم النفس للأسف. وبالرغم من ذلك، يأخذ جزء منها بعين الاعتبار التعقيدة الأساسية للنفس ويتضامن بشكل أو بآخر مع القصور أو العجز الإنساني، لذلك يرفض الشرح ويحاول أن يتفهم.
الوالدية، إذاً، ليست علمًا طاهرًا. نعم، بدون شك، هناك خطوط تطورية نفسيه عامة يمر بها الفرد ينبغي على الوالدين إدراكها، وخاصة في سن المراهقة أو في أزمة مراهقة الأبناء، لكن الفردية تلزمنا أحيانًا أن نتخطى هذه النظريات.
الوالدية علم وفن
الوالدية قوانين وكلمات
الوالدية عاطفية وموضوعية.
والأهم من كل ذلك أن الوالدية هي رمزية وهالة مترسخة في النفسية الإنسانية العميقة. هي مترسخة بحب إبراهيم لإسماعيل، بغيرة قابيل وهابيل، بحب يعقوب ليوسف وحسد إخوته، هي زيوس النار وأفروديت الحب والصراع بينهما.
ليس ضروريًا أن يلم الوالدان بهذه العقيدة، أو أن يكونا على علم بها حتى، لكن الوالدية تتطلب علاقة هي، في صلبها، عاطفية ورمزية.
الأم التي تضع كل طاقاتها في تربية أطفالها، تلجأ إلى الجملة الشهيرة حين يستعصي عليها الأمر "طيب لما ييجي أبوك".
إذًا، هذه الهالة الأبوية مترسخة عبر آلاف السنين، نلجأ إليها أو تلجأ إلينا عند الأزمات أو الصعوبات.
الأمومة ليست مهمة، بل هي أبعد وأعمق بكثير. هي نظرة ما -ورائية طاهرة ومباشرة، هي الحب المشع من القلب إلى القلب.
ومن الجدير الإشارة اليه هنا أن هناك ماهية خاصة للأم وأخرى للأب والخلط بينهما قد يعيق التطور النفسي - الجنسي لدى الأولاد.
بشكل عام يمكن القول إن معظم علاقات الانسان في جميع مراحله الاجتماعية، لا سيما في الوقت الراهن، تحمل بعدًا مؤسساتيًا. فمنذ الحضانة وحتى المراحل الثانوية تبقى العلاقة هي علاقة موضوعية وهادفه علميًا وسلوكيًا. المدرسة، كمؤسسة، هدفها جعل الطفل ناجحًا في الجانب التحصيلي وذا سلوك حسن، حيث أن المدرسة ليست ملزمة بتفهم الطفل. كما هو الحال أيضًا في مجال العمل. المهمة الأساسية هي الإنتاج وحين نتكلم عن السلوك الحسن هذا يعني فقط ضبط القوانين واعتماد برنامج يسهل عملية الإنتاج العلمي. وعليه، رغم كل المحاولات، فقد فشلت المدرسة في أن تكون بمثابة عائلة أو بيت، وربما ليس مطلوبًا منها أن تكون كذلك. ما أقصده من وراء هذا الطرح هو أن أعلل لماذا تبقى العائلة هي الأساس التربوي المتين للأطفال ولماذا الوالدية هي التناسقية أو الانسجام في هذه العائلة.
فالعلوم الانسانية ليست علمًا، كالفيزياء مثلاً، والتجربة الانسانية لا تتكرر. فهي وحيدة وفريدة. هي فوق النظرية. هي الفرد.
العلوم الدقيقة تشرح الظاهرة والعلوم الانسانية تحاول فهمها.
العلاقات العائلية تستند إلى أمواج عاطفية في جوهرها حب، حنان ودفء، أذن صاغية، وجاهزية وحضور ذهني وليس وجودًا ماديًا جسديًا فحسب!
العلاقات العائلية ليست علاقات موضوعية، كالمدرسة مثلاً، بل علاقة ترتكز أولا على المشاعر والأحاسيس ومن ثم على الموضوعية.
الوالدية هي نظرة أم لطفلها، هي عطف أب. وهي الكلمات. فـ "في البدء كانت الكلمة " وأمره بين الكاف والنون. فرغم تعدد طرق التواصل الإنساني يبقى التواصل الكلامي جوهريًا. ففي البدء كانت الكلمة (الانجيل) وأمر بين الكاف والنون (القرآن الكريم) يظهر أهمية الكلمة. للكلمة معنى وإيحاء والإيحاء يتجلى من خلال نغمة تنطقها الأم أو كلمة بلون البسمة يتفوه بها الأب.
الإنسان يتواجد من خلال الكلمة والألم يذوب بالكلمة. للكلمات سحر وخاصة من فم يفوح بالأمومة وصوت جهور لا يخلو من العطف يعزف نغمة القوانين والحدود. ليس مهمًا وضع الحدود والقوانين، الأهم كيفية وضعها. ليس مهمًا معرفة القوانين الاجتماعية والأخلاقية، الأهم تذويتها، حيث أن معظم الأطفال يعرفون الوصايا العشر، لكن هذه المعرفة لا تكفي بدون فهمها.
الوالدية هي مرآه لنرجسية مترسخة لدينا وحين يشوبها الغبار، فستبدو الصورة مشوهة بلا شك.
د. زياد خطيب
أستاذ في علم النفس العلاجي، متخصص في علم النفس التربوي. درس اللقب الأول والثاني والثالث في جامعة U.C.L في بلجيكا. يعمل في مجال علم النفس التربوي في البلاد والخارج منذ أكثر من 02 عامًا ويحاضر في عدة كليات أكاديمية