ألصّراعُ اَلقائمُ بينَ بناءِ أُسرة متماسكة وتطوير السّيرة المهنية

ثمّةَ مَن يرى أنَّ تغيير مسمّيات الأشياءِ يُسهمُ في تخطّي العقبة الأولى والأكبر؛ ألا وهي حاجز الأفكار والقناعات الرّاسخة في ذهن الفرد منّا، فتُستبدَلُ كلمة صراع بكلمة تحدٍّ، لِيصبحَ لها وَقْع لذّةِ العِراكِ ومن ثمّةَ الفَوْز بتحقيقِ اَلذّات.

وها هي انطلاقة العتبة الأولى في سُلّم الرّقيّ نحوَ بناءٍ متين في أسرة صالحة، ناجحة وسعيدة، في ظلّ والديّة حكيمة، لا سيّما والدة عصاميّة ما فتئت تحملُ القلم والقرطاس بيدٍ، وكفّ قَدْرِ الحساءِ باليد الأخرى، هذه الأمّ الكادحة تمسكُ في دفّة السّفينة تارةً، وتجسّ حرارة وليدها تارةً أخرى.

هل حقًّا هذا ممكن على أرض الواقع؟ وكيف يكون ذلك؟

إنّ تأريخ المرأة في السّجل الإنسانيّ لحافلٌ في النّجاحات العظيمة، بل الأعظم في حقبات تأريخيّة وحضارات قديمة مضيئة كعشتار وأفروديتا، نفرتيتي وزّنوبيا، بلقيس وخديجة والآلاف الآلاف الأخريات، من اللّواتي قد بتن على بثّ الشّجاعة والصّمود، الرّقة والجمال، فالسّعادة وإلهام النّسوة في الحذو نحو البناء الأسريّ القويم وتقلّد الوظائف الصّعبة والمرموقة أيضًا.

أ.مها كناعنة يحيى، معلّمة ومربيّة في كليّة "مهنة للمستقبل"، موجّهة تربويّة قطرّية في وزارة المعارف، مُمتحِنة وُمصحّحة للامتحانات في الأوقاف الإسلاميّة، محاضرة، معلّمة لأحكام التّلاوة والاتقان والسّند. 

"إذا كانت ثمّة طريقٌ تتربّّعُ في القمّة؛ فالإجابةُ تكْمُنُ أوّلًا في رضا الله وتوفيقِهِ ورضا الوالدين وشعار: مَنْ ضبطَ صلاتَهُ ضبطَ حياتَهُ" 

تُجيبُ السّيّدة مها يحيى عن أسئلةٍ وحدُها كافية لتحصلَ على لقبِ "امرأة عظيمة" مثل:

"كلّ الوقت يسالُني النّاسُ: كيف تستطيعين التّوفيق بين العمل بعدّة مناصب ووظائف مرموقة تحتاج الى جهد ليس بالبسيط، لا سيّما إدارة المدرسة الثّانويّة، تعليم القرآن الكريم، بيت مرتّب ومنظّم، وأبناء متفوّقين خلوقين ومحبوبين، وفي ذات الوقت فعّالة اجتماعيًّا، باحثة لنيل درجة دكتوراة، لقب تلوَ الآخر وشهادة تلوَ الأخرى بلا توقف؟! 

انا عربيةٌ مسلمةٌ مؤمنةٌ، أتّبعُ تعاليمَ ديني أستقيها من القرآن والسَنة الصَحيحة-لا المبتدعة-اتَقي الشَبهات لئلا أقع في المحرَمات، وكلّّما اقتربتُ من الله ذراعا اقترب اليّ باعا، ووهبني كلّ ما اريد، فأنا اجدُ نفسي أعيشُ جنّةَ الأرض قبل جنّة الآخرة، ومع ذلك.. سأشارككم سرّ ومعجزة الصّباح الّتي ما كنت لانجح في تنظيم حياتي والوصول الى قممٍ عديدةٍ لولا قدرتي على استغلال ساعات الصّباح الباكرة، حيث السّكينة والهدوء، بعد صلاة الفجر وأذكار الصباح أخلو بنفسي؛ تجدينني أتامّل وابدأ بتنفيذ ما خطّطت له قبل النّوم في ورقة مرتبة مبتدئة بتلاوة ما تيسّر من القرآن ومن ثم اعطي لكل فرع من برنامجي حصّته كلّ الوقت، بركة الصّباح لا يعلمها الّا مَنْ خاضَها وذاقَ حلاوتها.

ولا بدّ من الإشارة الى أنّه من الممكن خلق توازن بين الأمومة والعمل، ويكون ذلك بمشاركة الزوج ومساعدته، والتي لها أثر كبير على قدرة المرأة على العطاء في المجال الخاصّ والعامّ، كما تشكلُّ دافعًا لحفاظ الأمّ على صحتّها النّفسيّة والجسديّة.

دعم الأهل والأصدقاء من ناحية، وتربية الأولاد على الفضيلة من ناحية أخرى، هما بطاقتا نجاح المرأة العصاميّة، وهذا ما حصل معي تماما في فترة إدارتي للمدرسة الثّانوية في بلدي كفر قرع، فرغم وجود الجميع من حولي لانجحَ بالمهمّة؛ إلّا أنّه لا بدّ أن اجدّ الوقتَ الكافي لأن أتواجد مع أسرتي لا بجسدي فقط, وإنّما أن اعوّض غيابي عن البيت محاولةً  إيجاد قنوات للتّواصل الفعّال مع أبنائي بكلّ جوارحي، فكنت أجمع عائلتي بعد عودتي من العمل، أسألهم عن تفاصيل يومهم، ونتحاور عن كلّ شيء، المهمّ أن نتحدّث. كنت أحاول منحهم وقتا نوعيا، ومشاركتهم اهتماماتهم و ميولهم، وتزويدهم بالمعرفة التي تعينهم على مواجهة الحياة فيما بعد.

التّربيةُ تورّثُ، والتّربيةُ الصّالحةُ خيرٌ من أيّ ميراث

أرى أنّ التّربية هي ان تكونَ قدوة بأفعالك لا بأقوالك، فقد ورثت من جدّتي رحمها الله ومن والديّ أطال الله في عمريهما الكثيرَ: الاجتهاد والعطاء، حبّ العلم والمعرفة، والأهمّ ورثت العمل لبناء أسرة صالحة سعيدة.

 التّحدي كبير.... و الطّموح لا حدود له.....والأوقات لا تتسع لكل الإنجازات... إلّا أنّ بركة الوقت نعمة يؤتيها رب العزّة لكلّ من استقام على الدّرب، ولا بدّ من تخطيط الحياة، ولا بدّ من فنّ إدارة الوقت، ولا بدّ أن أرسم خريطة حياتي بكلّ تضاريسها وتفاصيلها لأستطيع مواجهة كلّ ما هو آت.

فالتّخطيط سنويّ-شهريّ-اسبوعيّ-يوميّ- تخطيط ممنهج لساعات اليوم ودقائقه وثوانيه ان امكن، لأنّ النّجاح لا يتوافق مع العشوائيّة، ومع تدليل النّفس والسّير وفق الشّهوات، فمن أراد أن يتمّيز وأن يحقّق أحلامه فلا بد انّ يروّض تلك النفس، وإن عصَتْهُ فليعْصِها.

نعم، الأمرُ ليس سهلا وليس ممتعا أن أجلس السّاعات الطّوال أمام الحاسوب، بعد يوم عمل شاقّ في الكليّة وفي الإرشاد وفي المطبخ وبين أعمال المنزل.. اكتبُ أطروحة الدكتوراة في موضوع لم يبحث قبل، اواجهُ قلّة المواد، وكلّ الصّعاب، لابتكر أداة جديدة تخدم التّعليم العربيّ المهمّش وتساهم في خلق جيل جديد مفكّر، لا يخاف ولا يهاب التّغيير، التّغيير الّذي يهرب منه معظمنا محتضنين الرّاحة في الموجود، مرعوبين من التّغيير.

خيرُ الوصايا طلَبُ العلم ما استطعنا إليه سبيلا، "وقل رب زدني علما"، السّعي لنيل الحكمة، إدارة الوقت، الجدّ والإيمان العميق بالذّات وأن لا مستحيل في النّجاح.

" مَن لم يُخطَط لحياته يكُن ضمن تخطيط الآخرين"

عبارةٌ قرَأَتْها وحفظَتْها السّيّدة منال أبو مخّ عثامنة منذ مطلع العشرين من عمرها لتحدّدَ الهدف في النّجاح المهنيّ والأسريّ، وعن ذلك تقول:

أ. منال أبو مخّ عثامنة مديرة جمعية المنجد، ومديرة روضات وحضانات أكاديميّة الطفل، مربية ومعلمة لغة عربيّة للمرحلة الثانوية.

"لست امرأة خارقة ولكن كانت لي نوايا واضحة ورؤيا مُصاغة منذ أكثر من عشرين عام تقريبًا، إذ تناولتُ كتاب كيف تخطط لحياتك للكاتب صلاح صالح الراشد، فتعلّمتُ منه التّخطيط للمستقبل بعيد المدى، وترتيب الأولويّات، وفي أعلاها أن أُرضيَ ربّي بإرضاء نفسي وتعليمها، وإرضاء عائلتي،  ومساعدة الآخرين على التّعلّم. 

لم تكن الطّريق ممهّدة سهلة، بل واجهت عقبات عدّة، فكان الإصرار على تخطيها؛ هدفًا لا بد من تحقيقه، بدعم الأسرة والأهل.

إنّ وجود عائلتي من حولي متماسكة مترابطة هو ما يمنح حياتي تلك الجودة التي أطمح لها. 

بنظري كلّ امرأة تستطيع أن تكون ما تريد، وأن تحافظ على ترابط عائلتها، إذا كانت تتعامل مع الحياة بمرونة، تعرف أسس الحوار الناجح مع من حولها، تضع حدودًا لعلاقاتها مع جميع الأطراف، وأن لا تضع نفسها في دائرة الضحية والمظلومة فلا تشتكي سوء الحال ومرارة الواقع، بل نفكّر كيف تغيّر الحال لأفضل حال كما جاء في الآية الكريمة  -إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتّى يغيروا ما بأنفسهم-".

"ميدانُكم نفوسكُم، فإن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإن خدلتم فيها كنتم على غيرها أعجز، فجربوا معها الكفاح أوّلًا" (الإمام عليّ ر.ع)

أ.منال خاسكيّة مديرة قسم المعارف العربيّ في بلديّة اللّد

استهلّت السّيّدة منال خاسكيّة حديثها بالإشادة إلى أن بواعث الشيء يعود إلى بواطنه وأنّ كلّ انطلاقة هي نواة لنفس أبيّة آمنت بنفسها واختارت الجهاد ركيزة في خوض مضمار الجدّ والعمل، فلا يمكنك أن تهزم امرأة آمنت بنفسها وتعرف كيف تتجدّد، تواصل العزم، تكافح وتتكبّد.

كما أشارت إلى دور الزّوج كضلع مُساهم، لا ضير في أن تُفضي إليه المرأة في أحايين معيّنة بعض المهام وتتلقّى منه بعض التّرشيد، العون والتّعزيز.

لم تتناسَ السّيدة منال أهمّيّة دور الأبناء في خلق التّوازن طالما جُبِلوا على تعلّم المسؤوليّة، تقسيم الأدوار والأخذ بالأسباب. 

من أبرز سُبل النّجاح هي تنظيم الوقت، وإدارته بطريقة سليمة، وترتيب الأولويّات بين ضروريّ وطارئ وملحّ ومهمّ، وهذا لا يكون طالما تفتقر المرأة إلى الرؤيا العرضيّة والمستقبليّة الّتي تتلاءم مع أهدافها وسلّم أولويّاتها. على المرأة أن تكون واعية ومدركة لطريقها الشّائك منه أو المعبّد، تترقّب الدّرب لتتأهّب، تُعيد النّظر أو لمواردها، للبيئة المحيطة،  تطوير المعرفة كلّ الوقت والقراءة لتغذية العقل والرّوح.

من التّحدّيات والصّعوبات هي التّنازل عن المشاركة في مناسبات مجتمعيّة كثيرة، فطبيعة المجتمع العربي أنّه يعجّ في المناسبات السّعيدة فضلًا عن الأعراس وحفلات الخطوبة، فهنالك العقيقة والولائم، المُولَد و وو و، بخلاف المجتمعات الأخرى، ممّا يزيد في صعوبة تقدّم الرّكب.

وفي الختام أُذكّر بأنّنا في العادة نسعى للمثاليّة، لكن هذا لا يمكن أن يكون في المطلق، ولكن قدر الإمكان. لكن علينا كنساء الإيمان بقدراتنا ونُصِرّ على النّجاح في ظلّ ذواتِنا ليس أقلّ من الرّجل، فالمرأة النّاجحة في العمل هي ناجحة في كلّ شيء، وعلينا الانتباه لصحتّنا والّتي تخونُنا في كثير من الأحيان، وقد تكون ثمنًا باهظًا للتّقدّم في المحفلَينِ."