يقول هذا الصبي المدهش صباح الخير يا ماما فتبدأ في أيامي الأعياد
لم يخبرني أحد بأني حين سأصبح أمًا سيتعذر عليّ النوم، تارة بسبب الرضاعة، طورًا بسبب التسنين، ولمرات عديدة في سنة ابني الأولى، بسبب طفرات النوم. أما المغص فآه منه كم رافق ساعات نومي القليلة لعامٍ، على الأقل!
لم يخبرني أحد بأن هذه الرحلة العذبة والمليئة بعذاب الضمير وعذابات قلة النوم والتلويم من قبل مجتمع طويل عريض، واقعيًا وافتراضيًا، ستتطلب استثمار جهد ووقت وأعصاب لم أكن أعلم أنى أملكها. لم يخبرني أحد بأن أطباعي ستتغير منذ اللحظات الأولى للقائي بطفلي: الصبر سيصبح منهج حياة يوميّ التطبيق. صبر على التقام الثدي، صبر على نزول الحليب، صبر حتى ينهي الرضاعة، حتى ينهي تجشأه لأن ابني ولد مع عارض الارتجاع اللا- إرادي، صبر حتى أستطيع تحميمه بدون أن اؤذي عظامه الغضة وجلده الطري كوردة تتفتح. صبر حتى ينام وصبر على اشتياقي له حتى يصحو. صبر حتى ينام على بطنه، وحتى يجلس ثابتًا وحتى أقدم له أطعمته الصلبة الأولى. صبر على كل شيء. لو أخبرني أحد قبل 30/10/2014 بأني سأصبح صبورة لضحكت عليه ملء قلبي... أنا التي كانت تفخر بأن فضيلة الصبر تنقصها. جاء هذا الصبي الذهب ظهيرة ذلك اليوم وبدأ يغيّرني مع تغير ملامحه ولون حاجبيه وملمس جلده ورائحة طفولته التي أشتاق إليها كما لو أنها أنفاسي.
لم يخبرني أحد يومًا بأنه سيكون عليّ ان ألتزم بأنظمة حديدية لضمان نظام حياة طفلي، وقت للأكل والنوم وقراءة القصص وكل الوقت للحب والضحك واللعب. الروتين ستكون كلمة مفتاحية في حياتنا، سنضع الجداول لكل شيء: لما نريد أن نفعله ولما نريد أن نأكله ولما نريد أن نشتريه وأن نقرأه، إلخ إلخ إلخ... نظمني هذا الولد. وحين بدأ يحكي ويعبّر عن نفسه حررني من الشعور بالذنب الذي جهد كثرٌ لتحميلي إياه. أراه منطلقًا، سعيدًا، اجتماعيًا، ودودًا ومتعاطفًا ويعرف أنى أحبه بلا حدود ويستغرب كيف يخاف أقرانه من أهلهم ويمنحني أحضانًا لا مقياس لدفئها وقبلات لا وصف لحلاوتها. يختار أن يرسم علم فلسطين في عمر الثانية، ويطلب أن أحكي له عن الشهداء الذين أبكي عليهم ويدهشني كل مرة بوعيه في أمور لم نتحدث عنها قط، لكنه رآها في حياتنا اليومية.
يقول هذا الصبي المدهش صباح الخير يا ماما فتبدأ في أيامي الاعياد. يقول لي: أنا عندي أحسن أم بالعالم، وإذا تخانقنا شو يعني؟ دقيقتين وبنرجع نتصالح وبتضلي أحسن أم بالعالم.
علمني هذا الولد بسنواته الثماني المليئة بالحب والتحديات ما لم يقله لي أحد قبله، قبل عمر جديد كتب لي بأمومته. يعلمني أن الصبر مفتاح الحياة، أن النظام أساس في اجتياز أيام صعبة وفي سعادات كثيرة في أيام أكثر يسرًا، يعلمني ما لم تعلمني إياه اكسفورد ولا نظريات التربية الحديثة: أن كل طفل يأتينا بأدواته وطرقه وحيله اللذيذة وأنه ليس من كتب أو نظريات مقدسة، هنا في المساحة الانفعالية الشخصية بين روحينا، نستطيع الارتجال والتجريب وأحيانا تخريب ما يقوله الجميع، لنكبر وننضج معًا ونكتشف آفاق عالمنا المشترك، عالم أعطيه فيه ويعطيني زاد عمرنا. عمرنا نحن الذين نتعلم معًا في هذه الرحلة أن عذابات صغيرة جزء من عذوبتها الممتدة عمرًا من التفاصيل والجمال والحب.
هذا الصبي المدهش جعلني أريد ان أكون شخصًا أفضل بالمطلق، لا أمًا أفضل فقط. يرضى بقليلي ويعتبره كثيرًا، وأعتبر كثيري قليلًا عليه. يعلمني ما لم يخبرني إياه أحد: أن للحب طاقة تسيّر الكون وتغيره. وهو علمني ما أريد لكل أم وأب أن يعرفوه: لا ضررًا من الحب، كثيره صحي وضروري لعمر كامل من الثقة والعطاء والتفاعل وقليله نقص في فيتامينات الاستحقاق الذاتي. علمني إبني أن النقاشات مهما طالت وتكررت وأن الاسئلة المثيرة زاد لعقله وقلبه. منذ أيامه الاولى أحدثه؛ هو رفيق عمري وشريك رحلة الحياة الذي لا يتبدل ولا أخشى أن يتركني إذا اختلفنا. أعلمه كيف نختلف وكيف نتصالح وكيف نعبّر عن مشاعرنا. ويعلمني أن الاحترام أساس علاقتنا بموازاة الحب. مرة قلت له أنا أمك، فقال وانا إبنك وكما احترمك عليكِ أن تحترميني. وهذا أعظم الدروس التي يعلمني إياها بالتجربة.
سأخبركم ما لم يخبرني به أحد: يستحق أطفالنا الحب غير المشروط، يستحقون منا أن نحترم كياناتهم الصغيرة فعلًا، أن نتعلم وضع الحدود وتنظيم الأولويات، يستحقون أن نلجأ للعلاج النفسي والرياضة والتأمل وكل ما يلزم لنتعلم ضبط مشاعرنا لنعلمهم، بالممارسة لا بالقول، كيف ينضجون عاطفيًا وانفعاليًا على مهل. لنحبهم، ولنعبر لهم عن حبنا، نحن حبهم الأول، قدوتهم الأمتن، شبكة أمانهم الأساسية، سندهم الدائم وملجأ الحياة في كل محكّاتها وتحدياتها. ومتى فعلنا، كسبنا أولادنا في طفولتهم، وأصدقاء كبرنا...
ملاحظة: استخدام الصورة داخل النص بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected].