القُدس والتعليم: تحديّات، ومسارات تربويّة مشتتة

تعتبر مسائل التربية والتعليم إحدى أهمّ المشكلات التي تواجه الفلسطينيين داخل مدينة القُدس، منذُ وقوعهم تحت سيادة وإدارة الاحتلال، وهو يستدعي في كلّ عام عدداً من المؤتمرات للإحاطة بالعوائق والأزمات والتداعيات التي تواجه المجتمع الفلسطينيّ المقدسيّ. مع العلم على عدم إحداث تغييرات حقيقيّة إيجابيّة على الواقع، في ظلّ انشغال المجتمع بمعضلات أخرى في تفاصيل حياته اليومية.

ومن أبرز التفسيرات لفهمِ الأزمة البنيويّة التي تطال جهاز التعليم في القدس هي تعدّد المرجعيات والمسارات التعليميّة التي تشمل المضمون والإدارة والتنظيم، إذ لا يوجد جسم تعليمي إداري واحد يجمع رياض الأطفال والمدارس في جميعِ مراحلها ويُلزمها بمنهجيّة تعليميّة تربويّة موحّدة في تنظيمٍ وأساليب شاملة.

المرجعيّات الأربعة: أين يدرس المقدسيّ؟

في القدس، تنتمي المدارس ورياض الأطفال إلى أربع مرجعيات تعليميّة مختلفة، لكلّ منها خطتّها التعليمية التربوية الخاصة حسب مصالحها وأولوياتها.

  • المرجعيّة الأولى، التابعة لإدارة البلديّة إذ أن الأكثر اتساعًا وقدرةً وشموليّةً وفيها يدرس أكثر من نصف التلاميذ المقدسيين، وفقًا لذلك تتبعُ هذهِ المدارس إلى جهاتٍ إسرائيليّة محليّة وتتعلّق في مصالح وأولويّات الاحتلال الإسرائيليّ.

  • المرجعيّة الثانية، هي المؤسسات والجمعيّات الخيريّة والكنائس تقوم على دعم وإدارة مدارس ورياض أطفال والتي تتصف بأقساطها المرتفعة جداً ضمن تصنيف مؤسسات تربويّة "خاصّة وأهليّة". وقد حافظت على استقلاليّتها لفترات طويلة، إلا أنها في العقد الأخير بدأت في الحصول على دعمٍ من البلديّة، الأمر الذي ألزمها للخضوع لقوانينها وإدارتها وأساليبها.

  • أما النوع الثالث من المرجعيات القائمة في مدارس القُدس هي وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا" مع التأكيد على حضورها الضئيل.

  • وأخيراً المرجعيّة التربويّة الرابعة تتمثل في مدارس تابعةً إلى مؤسسات "الأوقاف الإسلامية" وهي تابعة إدارياً إلى وزارة التربية والتعليم الفلسطينيّة في الضفة الغربية. ومن المهمّ ذكر نوعٌ نادر الظهور، ومن الممكن وصفها على أنها  "مدارس تجارية" كونها تتأسس على أساسات تجاريّة ربحيّة بحتة.

وينتج عن تعدّد المرجعيات اختلافات واضحة في المخرجات التعليميّة. لكلّ نوع من هذه المدارس سياسات تربويّة خاصّة وأساليب عدّة، بل زد على ذلك منهاج ومضامين تعليميّة كثيرة وأحيانًا متناقضة، كلٌ مرجع ومسار يخدم رؤية مستقبلية معيّنة.  وغالباً ما يؤدّي هذا التعدّد في المرجعيات إلى صعوبةٍ وحيرة عند أولياء الأمور عند اختيارهم الإطار والمسار التعليميّ.

معضلة إضافيّة: التعليم الأكاديميّ 

الفلسطينيون ينظرون في كثير من الأحيان إلى التعليم باعتبارهِ "سلاحهم الوحيد" لبناء مستقبل أفضل لأبنائهم، فالتعليم هو أداة لتمكين الأفراد للعيش في مجتمع يعاني من أزمات واحتلال. بالمقابل، واقع القدس يظهر أن التعليم أضعف من أن يحمل آمال المقدسيين في التمكين وتحسين أوضاعهم. وهنا تكمن معركةً إضافيّة، مع اختيار أحد هذه المرجعيات، على سبيل المثال في حال قمنا باختيار المنهج الإسرائيلي هل فعلًا هذا المسار يعني السير قدماً نحو المستقبل بخطوات ثابتة كما يظنّ بعض الأهالي المقدسيين، على عكس النظير الفلسطيني الذي يعني الحفاظ على الهوية الوطنية والدينية فقط؟ ويعتبر تقنيًا المنهج والمسار الإسرائيلي يسرّع عمليًا التحاق الطلبة مزيداً في كليات وجامعات إسرائيلية وطبعًا لا تخلو من انطباعها العنصريّ، وولادة صعوبّات وعوائق عديدة أخرى لاحقًا، كونها تتطلّب من الطلبة اندماجًا في قيمٍ مناقضة لحريّتهم ووطنهم ودينهم، بالمقابل سوق العمل قد يصبح متاحًا أمامهم. 

ولنذكر أن الهدف الأساسي بالالتحاق في الجامعة هو تحقيق مستقبل أفضل وأكثر رفاهيّة لأطفالنا في جميعِ النواحي الحياتيّة ويجب أن نأخذ منظارًا شموليًا في ذلك، يشملُ حريّتهم في وطنهم، كرامتهم، عملهم، موارد رزقهم، مؤسسات ثقافيّة وغير ذلك. فأولياء الأمور والطلاب في حيرة من أمرهم، ماذا سوف يختاروا؟ كلّ مرجعيّة في ذاتها عالمٌ مختلف، ولكن السؤال هل أهدافها مختلفة أيضًا.

والحيرة أيضًا تشمل مثالًا اختيار مرجعية بمنهج فلسطيني في مرحلةِ الأساس والإعدادية ثمّ الثانويّة، وهنا تبدأ رحلة أخرى بعد التخرج من المدرسة، مسار التسجيل والالتحاق في مسار أكاديميّ هل يقررون الدراسة في جامعاتٍ فلسطينيّة أم كليّات وجامعات إسرائيليّة، وهل يستطيعون؟ نعم، ولكن تطول الرحلة وتكلفتها باهظةً. حيثُ إن معظم الطلاب يضطرون إلى إجراء تعليم لمدة سنتين في معاهد لتعليم اللغة العبرية وغير ذلك من تفاصيل واستكمالات للحصول على ما يعادل شهادة "البجروت" الإسرائيليّ.

كما أن التخرّج من جامعات وكليات فلسطينية، فالحال ذاته بعد التخرج، حيثُ إن الانخراط في سوق العمل الاسرائيليّ يتطلب في التسجيل إلى برنامج لمنحهِ شهادة معترف بها، وقد تطول مدة سنتين أو ثلاثة ضمن استكمالات أكاديميّة تتضمن اللغة عبرية، وبهذا الوضع الصعب من الممكن أن يعيد الطالب التفكير في ظروف العائلة الاقتصادية وتحمّل مثل هذهِ النفقات التعليميّة.

ولكن ما يدفع الفلسطينيّ بالاستمرار بالرغم من كل هذه الأزمات والمعضلات هو حرصهم على التعليم، لأن قيمهم وأديانهم تحثّهم على العلم وكسبهِ والتضحية في سبيلهِ. نهايةً يجب ألا يغيب عن أذهاننا أن ارتفاع نسبة المتعلّمين بين أبناء الشعب الفلسطيني لا تكفي لنرتقي ونتقدم ونتحرر، بل إن العامل الحاسم فيما يتعلّق بالمخرجات العمليّة التعليميّة التي تساهم في صقل المجتمع وتنميتهِ.

إيناس (عبد الرحيم) يونس داعور

حاصلة على درجة الماجستير (E.ed) في تخصص تعليم وتعلم في جيل الطفولة من كلية القاسمي وبكالوريس (B.ed) في طفولة مبكرة من كلية سخنين لتأهيل المعلمين ودبلوم(Dip) تربية طفل وتأهيل تربوي من كلية الأمة الجامعية ومرشدة دعم عاطفي من خلال القصة

شاركونا رأيكن.م