الثقافة والحضارة: جذور المصطلحات في الفلسفة الأوروبية والعربية
كلمة "ثقافة" مأخوذة لغويا من الثّقف، أي بمعنى أن الشخص ثقِف، أي صار حاذقًا فَطِنًا، وإن ثَقَفَ المرء صَاحِبَهُ نفهم أنه غَلبهُ في الخُدعة والمهارة. فأصل الثَقف هو الحذق في إدراك الشيء وفعله، ومن هذا الأصل أخذت كلمة "ثقافة" الاصطلاحية بالمعنى المعروف لنا.
فكرة الثقافة تحمل طابع التفاؤل القائم على الثقة أن الكائن البشري والأمم ترقى وتتقدم بواسطة التعلم الذي ينشأ عن المعرفة. ومن هنا العلم والفن والخُلق هي أحد عناصر الثقافة ويقصد من هذه العناصر التقويم مادة والتطبيع معنى. فالثقافة هي التعليم والتهذيب اللذان يعملان في الأساس على تدريب الشعور ووضع العواطف والغرائز تحت السيطرة. وعلى عكس العلم ليس للثقافة قانون أو قاعدة لأن الثقافة تمثّل ميول وعواطف راسخة بالفطرة، وباعتبارها ميزة تخص الذوق وفهم الحياة فهي صفة يتسم بها الأفراد كما تتسم بها الأمم.
وحتى لا تختلط علينا الأمور، ليس للحضارة علاقة بالثقافة مع أن نقطة الفصل بينهما صعب تحديدها. فالثقافة أعلى من الحضارة لأنها روحية الجوهر، بينما الحضارة مادية في جوهرها ذلك لأنها تصوّب إلى المرحلة التي قطعتها أمة أو قطعها شعب في تطبيق العلوم في شتى صورها.
وكان النقاش في الفرق بين مدلول الثقافة والحضارة قد أثير في صفوف الطبقات الاجتماعية الوسطى في ألمانيا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. في ألمانيا لم تكن روابط وثيقة قائمة بين البورجوازية والأرستقراطية، وكانت طبقة النبلاء معزولة نسبياَ عن الطبقات الاجتماعية الوسطى فانقطعت تقريبا عن تناول السياسة وتحدثت اللغة الفرنسية كتعبير للترفع والتَميّز عن باقي طبقات الشعب. هذا الحاجز بنى شعور بالنقمة والمرارة لدى عدد كبير من المثقفين الألمان مما دفعهم الى نص وثيقة مُؤسِسَة تجمع القيم الأصيلة والعميقة القائمة على العلم والفن والفلسفة إضافة إلى الدين، موجهين بواسطتها النقد اللاذع لقيم "الصالونات" الأرستقراطية السطحية التي تفتقر إلى الصدق والعمق. بهذه الوثيقة فصل المثقف الألمانيّ بين مصطلحي الثقافة والحضارة بقولهم بأن كل ما ينشأ عن الأصالة ويساهم في الثراء الفكري والروحي سيدرج تحت تعريف ثقافة، أما المظاهر البراقة والخِّفة والتهذيب السطحي فيدرج تحت تعريف الحضارة. على هذا الأساس، رأت الطبقة البرجوازية الألمانية المثقفة أن طبقة نبلاء البلاط متحضّرة لكنها تفتقر إلى الثقافة، وأكثر من هذا، فقد اعتبرت نفسها مكلَّفة بمهمة تطوير الثقافة الألمانية ونشرها.
جيد أن نعترف بفضل من رسم الحد الفاصل بين الثقافة والحضارة، لكن إن عدنا قليلا بدولاب التاريخ وتحديدا نحو أواخر القرن الرابع عشر سنجد أن ابن خلدون (1332- 1406) هو أول من استخدم مصطلح الحضارة بمفهومه القريب من معناه الحديث الذي وصلَ إليه مجموع المثقفين المنتفضين في ألمانيا. وبدوره وضع ابن خلدون الأسس الأعمق لما تناولته حركة التنوير في أوروبا عامة وفي فرنسا وألمانيا خاصة، وفيما بعد تأثر بفكره كبار المفكرين والباحثين في علم الاجتماع والتاريخ في العصر الحديث. مثلا على سبيل المثال لا الحصر، ممكن أن نذكر الفيلسوف البريطاني -التشيكي وعالم الانسانيات والاجتماع "أرنست جلنر" الذي دمج نظرية "التعاقب الدوري" في الحضارة لابن خلدون مع نظرية أخرى لـ"ديفيد هيوم" لينتج بالتالي نظرية تعاقب سياسية- دينية خاصة به تتعلق بالمجتمعات الإسلامية في الشرق الأوسط. كما أن عالم الاجتماع والاقتصاد الأمريكي "مانكور أولسون" في تنظيرهِ حول جماعات قُطّاع الطرق المتنقلة والمقيمة، تأثَر من كتابات ابن خلدون عن البدو. إضافةً إلى مفكرين أمثال هيجل وأنجلز وماركس قد تأثروا من المنهج الجدلي المادّي لابن خلدون والذي طرحه في سياق التعامل مع النصوص التاريخية بأدوات العقل والمنطق.
توصّل ابن خلدون الى فكرة التعاقب في الحضارة وقارن في دائرية التغيير بين الانسان والمجتمع، ونظرَ إلى المجتمع وتطوّره بشكلٍ شبيه بالإنسان، يمرّ المجتمع في مراحل متتالية، الولادة ثمّ يكتمل نموّه، ثم يهرم فيموت، وعلى هذا جعل للدولة ثلاثة مراحل تمرّ فيها: بداوة، ثم ازدهار، ثم تدهور.
والحضارة عند ابن خلدون هي " تفنن في الترف واحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله". وهي قمّة العمران والتطور والدخول للرقي الاجتماعي الثابت، ورأى ابن خلدون أن الانتاج والعمران لا يتحقّق الا بالسعي والعمل، وأن الطبيعة الجغرافية سبب رئيس في بناء الحضارة وتشكلها، وأن الاقاليم التي مناخها أقرب الى الاعتدال أكثر حضارة. كما رأى أن الحضارة لا تبنى الا اذا رعتها السياسة وأن الاجتماع البشري ضروري لحفظ الحضارة، الا أنه يحتاج لمرجعية الحاكم وبدورهِ وجود الحاكم أمرٌ لا بدّ منه.
وعودة الى مصطلح "ثقافة" والذي بدأ بالانتشار منذ عصر التنوير في أوروبا، حيث دخل معجم الأكاديمية الفرنسية عام 1817. ألحقت آنذاك كلمة ثقافة مضافات مثل "ثقافة الفنون" و "ثقافة الأدب" و"ثقافة العلوم". بالتدريج تحررت كلمة "ثقافة" من ملحقاتها وجرى أن تستعمل للدلالة على تكوين، وتربية العقل، والنفس، والشعور.
شكّلت فلسفة عصر التنوير (الأنوار/ المنطق) لحظة مفصلية في التطور الفكري للإنسانية، حيث جعلت الإنسان مركزا للعالم ونظرت إلى العقل كأداة أساسية لفهم الكون والطبيعة. وممكن أن نقول أن فلاسفة عصر التنوير منذ "جوتفريد فيلهلم لايبنتز" و"إيمانويل كانط"، مرورا بـ"يوهان غوتفريد هيردر" وحتى "ماكس هوركهايمر" و"يورغن هابيرماس" قد اتفقوا على أن العقل عبارة عن سمة مميزة للنوع البشري، ولكي يكون الإنسان حرا عليه اتباع عقله والعيش حسب مقتضيات العقل.
بهذا الفكر، الذي كانت بوصلته المثل العليا كالحرية والرقي والتسامح والإخاء والحكم الدستوري وفصل الكنيسة عن الدولة، شككت أفكار عصر التنوير بالسلطة الملكية وسلطة الكنيسة المسيطرة، ورسمت معالم الطريق للثورات السياسية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كما وأسست لحركات فكرية أخرى انتشرت في القرن التاسع عشر ومن ضمنها الليبرالية والكلاسيكية الحديثة.
ومع أن كثر أولئك الذين يتفقون على أن فلسفة "رينيه ديكارت" العقلانية، والتي قوامها البداهة والاستنباط، هي من عبّدت الطريق للتفكير التنويري، هنالك مجموعة كبرى أخرى تتفق على أن ترجمات ابن رشد وتعليقاته على فلسفة أرسطو، لم تكن بريئة هي الأخرى من تقديم الفكر النقدي العقلاني إلى أوروبا.
عُرف ابن رشد (1126-1198) في الغرب بتعليقاته وشروحه لفلسفة وكتابات أرسطو والتي لم تكن متاحة في أوروبا اللاتينية في العصور الوسطى المبكرة. حتى عام 1100 لم يترجم إلى اللاتينية إلا عدد قليل من كتب أرسطو في المنطق وهذا كان سبب في دخول ترجمات ابن رشد وطروحاته الى أروقة الجامعات الأوروبية الرائدة مثل جامعة باريس وأكسفورد.
تقديرا لمساهمات ابن رشد في دعم الفكر الفلسفي في أوروبا، تم ضمّه إلى الشخصيات التي تضمنتها الجدارية الشهيرة "مدرسة أثينا" لرسام عصر النهضة الإيطالي رافائيل. تم رسم الجدارية في بداية القرن السادس عشر وكانت ضمن مشروع ألقي على رفائيل لتزين غرف قصر "أبوستوليك " في الفاتيكان. الجدارية تصور علماء الفلسفة ذات التأثير الأكبر مجتمعين في إحدى الحلقات الدراسية وكان من بينهم أفلاطون وأرسطو وسقراط ومايكل أنجلو وأيضا العربي الأندلسي ابن رشد والذي تم تحديد موقعه في الرسمة الى جانب فيثاغورس وأبيقور (أنظر في الصورة: ابن رشد مؤشر إليه بالرقم 5 ، فيثاغورس مؤشر إليه بالرقم 6 ، وأبيقور بالرقم 2).
في سيرورة طرح فكره، شرح ابن رشد تفسير ذكاء الانسان، متأثرا في بداياته بأطروحة أرسطو "عن الروح" والتي كان قد كتبها حوالي 350 قبل الميلاد. بعدها، انتقل وناقش نظرية ابن باجة والفارابي وابن سينا، فنشر نظريته عن "العقل الفعال المادي"، وهي نظرية تحوي مفهوم مشابه للاستقراء في المنطق. وفي نهاية تطور أفكاره الفلسفية طرح نظريته "وحدة الفكر" والتي تلخصت بإيمانه بوجود عقل مادي واحد متطابق لدى جميع البشر منفصل عن أجسادهم البشرية، وكان ضد خلود الروح. رأى ابن رشد أن هناك حقيقة واحدة في كل شيء ويمكن الوصول إليها عن طريقين مختلفين، عن طريق الإيمان، أو عن طريق الفلسفة، وعندما يتعارض الطريقان وجب قراءة النص المقدس بطريقة تأويلية، بمعنى أن مرجعية العلم أكثر أهمية من الايمان.
دخلت أفكار ابن رشد أوروبا فأثارت قبولا وجدلا كبيرا، ففي النصف الأول من القرن الثالث عشر، أصدر الإمبراطور فردريك الثاني أمراً بترجمة مؤلفات ابن رشد قاصدا بذلك تأسيس تيار رشدي لاتينى، أى ناطق باللغة اللاتينية على أمل أن ذلك يدعمه بالانتصار لطبقة التجار الصاعدة فى مواجهة الطبقة الإقطاعية المدعومة من السلطة الدينية. وفعلا انتشرت الرشدية في أوروبا، ولكنها لاقت أيضا معارضة بالأخص من التيار الذي آمن أن بين العقل والدين هنالك توافقاً أساسياً خلافاً لما يدعيه "أتباع ابن رشد". فوقف المفكرون الكاثوليك ضد تيار الرشدية حتى أن ديكارت رأى أن من الضروري شجبه، وكتب القديس وعالم اللاهوت توما الأكويني نقدًا مفصلًا بعنوان "عن وحدة العقل: دعوى ضد الرشديين".
ليس لهذه المقالة المقتضبة أي نية سوى محاولة لاثارة امكانية فتح ملف ابن رشد وابن خلدون ضمن تراكمية المعرفة فيما يخص مصطلحي الثقافة والحضارة. وهي محاولة لدعوة كُتّاب مناهج التدريس لكتابة نصوص نقدية تثير في نفوس طلابنا شعور الانتماء والرفعة، بسبب التأثير الذي تركه فلاسفة فكر عرب، وهي نصوص تدعوهم للبحث عن المعرفة المحرضة على إثارة نقاش جماعي يوجه ثقافتهم وموقفهم مما يقرأون.
1 مقدّمة ابن خلدون، ص 216
(استخدام الصور بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected]).