الثّقافة، العولمة، الأصالة، والأصلانيّة
الثّقافة: التّعريفُ والْتِباسَاتُه
أحد المصلحات الأكثر شيوعًا واستعمالًا في حقول المعرفة وفي النقاشات النخبويّة وحتّى الشعبيّة هو مصطلح الثّقافة. مصطلح رئيسيّ عابر للتّخصّصات المعرفيّة في العلوم الإجتماعية والآداب والقانون والهندسة والعمران وغيرها من العلوم، وفي مجالات الحياة كافة. وبقدر شيوع استخدام المصطلح تأتي إلْتِبَاساتُ مفهومه. تختلف تعريفات الثقافة وكذلك شموليّة/محدوديّة التّعريفات باختلاف السّياق والغرض المراد من استعمالها. إلتباس المصطلح موجود في اللّغات والثّقافات الحديثة ولدى فئات اجتماعيّة كثيرة. لكنّ الكلمة أكبر التباسًا في اللّغة العربيّة ليس فقط نظرًا للبس المشترك لمفهوم الاصطلاح مع لغات أخرى، وإنّما أيضًا نظرًا للمعاني اللغويّة المختلفة التي تؤديها الكلمة، في حين أن لهذه المعاني كلمات مختلفة في كلّ من الإنجليزيّة والعبريّة، مثلًا. المعْنيان الأكثر صلة بموضوعنا هنا هما الثقافة بمعنى التّعليم (education، השכלה)، والثقافة بالمعنى الأقرب إلى الحضارة، (culture، תרבות)، الأقرب وليس المطابق. وعلى اختلاف المعنييّن، الثقافة بمعنى التعليم والثقافة بمعنى قريب للحضارة، فإنّ بينهما علاقات أرجو أن تتّضح الرئيسيّة منها في هذا المقال.
يسعى هذا المقال المقتضب للتّعريف الأوّليّ بالثّقافة، وميّزاتها، وأهميّتها للمجتمع على المستوييْن الجمعيّ والفرديّ، ويتناول إسقاطات العولمة على الثقافة، وتمظهرات معارضة ثقافات الجنوب المُعَوْلَم، ويُفرد في جزئه الأخير اهتمامًا بحالة الداخل الفلسطينيّ.
لغرض هذا المقال أقصد بالثقافة تلك المجموعة من القيم، والمعايير، والمعتقدات، والعادات والتقاليد، واللّغة، المنطوقة والصّامتة، والرّموز، والعلوم، والآداب، والفنون، وبقيّة القدرات الإجتماعيّة التي يكتسبها الفرد في المجتمع الذي ي/تنشأ فيه. للمجتمعات المختلفة ثقافات مختلفة تكوّنت نتاج جغرافيا ومناخ وتاريخ وسياسة واقتصاد وديانات هذه المجتمعات. ثمّة مشترك بين ثقافات المجتمعات المختلفة وصولًا إلى ثقافة إنسانيّة، ولكنّ البحث الكلاسيكيّ والحديث عُني ولمّا يزال بالمختلف والمغاير بين الثقافات.
ميّزات الثقافة
من ميّزات الثّقافة، كلّ ثقافة، أنّها مكتسبة، متناقَلة، متغيّرة، وفي الوقت نفسه ذات استمراريّة، ومتنقّلة. مكتسبة بمعنى أنّ الناشيء/ة ي/تتعلّمها تدريجيًّا خلال تنشئته/ا الاجتماعيّة والتي يقوم بها أشخاص كالأمّ والأب والمعلم/ة، ومؤسسات كالمدرسة والحزب والأدب بأنواعه والقانون والإعلام. في مراحل حياتيّة معيّنه وتحت ظروف محدّدة يتعلّم الفرد أمور معيّنة من الثقافة بنفسه، بواسطة المراقبة والتمرين والبحث المعيش. إذن هي متناقلة بين الأجيال، يتمّ تمريرها جيلًا بعد جيل. ميزة أخرى للثّقافة أنهّا متغيّرة غير ثابتة، إذ تطرأ عليها تغيّرات عبر الزمن، فالقيم والمعايير والممارسات السلوكية والعادات والتقاليد واللّغة والعلوم والفنون وغيرها من المركبات الثقافيّة قابلة للتغيّر. وهي متنقِّلة بمعنى عابرة للحدود الجغرافيّة حيث تُنقل مع حامليها/حاملاتها أينما تنقّلوا/ن، إذ هي في أذهانهم/نّ. وهي عابرة للحدود السياسيّة، حيث تزول الجهات السّياسية المختلفة التي تحكم مجتمعًا معيّنًا على التتالي وتبقى ثقافته ذات إستمرارية عابرة لفترات حكمها، علمًا بوقوعها تحت تأثيرات قد تكبر أو تصغر بحسب ميّزات الجهة السّياسية وسياساتها وطول فترة حكمها.
أهمّيّة الثقافة
للثّقافة أهميّة بالغة وعلى الأصعدة كافة. الثقافة تمنح المعاني للأشياء والأمور والأحداث. تختلف المعاني باختلاف الثقافة، وعليه تختلف السّلوكيات وردود الفعل المترتّبة على هذه المعاني. يدير المجتمع نفسه وفق ثقافته، يعتمد عليها لتفسير الأمور، ويتّخذ المواقف والتصرفات وردود الفعل عليها.
احتلّت الثقافة أهميّة بالغة في التاريخ الحديث على مستوى الشعوب والأمم، إذ شكّلت ركيزة تشكيل الشعوب لذاتها ولتعريف الواحد منها لنفسه بوصفه أُمّة. الثقافة بهذا المعنى هي أحد أهم الركائز ليس فقط لتشكيل الشعب وتعريفه، بل ولسعيه لإقامة كيان سياسيّ خاصّ به، هو الدولة الحديثة. واللّغة حجر الزاوية في الثقافة وفي صلتها بالشعوب، هكذا اكتسبت اللّغة بُعدًا قوميًّا فارقًا. تفترض الثقافة المشتركة تاريخًا مشتركًا وتجارب مشتركة. والحقيقة أنّ بعض الشعوب ذهبت إلى زعم أصل مشترك لها، بادّعاء وجود أب واحد تتحدّر منه. هذا الزعم يُطبّق مبدأ قُربى الدّم أو العلاقات البيولوجية كأساس لتعريف الأمّة، ويراها توسيعًا للعائلة. في حالات أخرى يتكامل الأساسان، الثقافيّ والبيولوجيّ. لكن يهمّنا هنا الأساس الثقافيّ لتعريف الشعوب لنفسها وللأخرى، لدرجة أنّ بعض الحالات عمِدت إلى اختراع التقاليد والثقافة.
للثقافة، واللّغة الأمّ في صميمها، أهميّة بالغة ليس فقط على مستوى الجماعات والأمم، بل وعلى مستوى الأفراد. فهي تشكّل وتركّب المخزون الثقافيّ القيميّ والمعرفيّ والحسيّ والوجدانيّ للفرد، ذلك على المستوييْن الحرْفيّ والمجازيّ. ي/تدرك الفرد الأمور والأشياء والأحداث إدراكًا حرفيًّا بحسب ثقافته/ا، وعلى نحو متزامن ي/تدرك مفاتيح المعنى وطبقاته والمجازات والبلاغة والتّناصّ والمخيال بواسطتها، وي/تُفعّلها. إذن، تشكّل الثقافة حيّزًا أساسيًّا كبيرًا وذا راهنيّة من ذهن الفرد وفي حياته/ا على كلّ المستويات، من الأكثر شخصيّة كجنسانيّته/ا إلى الأكثر سياسيّة، كمواقفه/ا الأيديولوجية المحضة، علمًا أنّني أجري التمييز هنا بين الشخصيّ والسياسيّ لغرض التحليل ليس إلاّ.[1]
الثّقافة وإشكاليّات قديمة وحديثة
داخل الثقافة العامّة المشتركة لمجتمع معين ثمّة ثقافات فرعيّة متعدّدة تميّز الجماعات الداخليّة فيه على أساس العرق (الإثنيّة)، والمنطقة، والطبقة الاجتماعيّة، والجيل أو الفئة العمريّة، والنوع الاجتماعيّ (الجندر)، ودرجة التّدين، والتّوجّه السياسيّ، وغيرها. تتحدّد التّمايزات والعلاقات بين الثقافات الفرعيّة هذه وفق عوامل تاريخيّة وعوامل راهنة متنوّعة، لا متّسع لذكرها هنا.
كثيرًا ما يقع الإنسان/ة العاديّ/ة وحتّى الدارس/ة في خطأ الانطباع أنّ الثقافة تتّصف بالثّبات، فهي هناك منذ تاريخ قد يمتدّ عصورًا. مردّ الخطأ هذا يرجع أولًا إلى وجود حياة واستمراريّة للثقافة، وثانيًا إلى التّمظهرات والأشكال المختلفة لنفس المركّب الثقافيّ، وثالثًا إلى وجود نواة ما في الثّقافة عصيّة على الزوال لعصور وعصور. لكنّ هذا لا يعني الجمود قطعًا، فالثقافة في حالة تغيّر وتجدّد دائميْن، بحكم الزمن والعوامل الداخليّة والخارجيّة. تبطئ وتيرة التّجديد في مجتمعات معيّنة حتّى لنخال الجمود والركود سيديْ الموقف، وتتسارع في سياقات سياسيّة واجتماعيّة تاريخيّة معيّنة حتّى لتنقل الثقافة والمجتمع المعيّن إلى طور مغاير.
قد تكون التغيّرات السّياسية والاجتماعيّة سريعة كثيفة وعميقة، وقد تصيب جانبًا حياتيًّا أو أكثر أو تطال الحياة برمّتها. ترافق التغيّرات السّياسية والاجتماعيّة السريعة حالة من اللا-معيارية. للا-معياريّة مفهومان مختلفان هنا. الأول هو كثرة القيم والمعايير المتزامنة المغايرة بل والمتناقضة، وعدم وضوح توجيه السلوكيات في المجتمع. المفهوم الثاني للا-معياريّة هو حالة عدم وجود قيم ومعايير موجّهة للمجتمع. في كلتا الحالتين يجد المجتمع نفسه في أزمة، قد تقصر أو تطول، ويتلمس الخروج منها بطرق مختلفة، لا متّسع للخوض فيها هنا.
الثقافة والعولمة
يعيش العالم في الحقبة التاريخيّة الراهنة أحد الأمثلة الأقوى لسياقات التّحوّلات والتغيّرات الشاملة، والداخل الفلسطينيّ على وجه الخصوص كما سأوضح في الجزء الأخير من المقالة. إنّها تغيرات أصابت المناحي السّياسية والتكنولوجية والاقتصادية وشملت العالم وانعكست تبعاتها على الثقافة. تصف العولمة هذه التغيرات نفسها كما وتصف ما تمخّضت عنه. فالعولمة نظام عالميّ يرى العالم بأكمله وحدة واحدة، قرية صغيرة حسب تعبير الأدبيّات، أمكنت وجودها التغيرات السياسية العميقة التي حدثت ابتداء من أواخر العقد التاسع للقرن العشرين وعلى رأسها انهيار الاتحاد السوفيتي سابقًا (1989) وانتهاء الحرب الباردة، وبروز نظام القطب الواحد، والتطورات التكنولوجيّة وعلى رأسها إختراع الإنترنت، وتطوّر المواصلات بما لا يقارن مع فترات سابقة، وفتح السّوق العالميّة الحرّة، وتنقّل البشر والبضائع والأموال باضطراد وسهولة وسرعة وكثافة وتسارع. بيدَ أنّ للعولمة بُعْدٌ يقع في صلب اهتمامنا في هذا المقال لما له من أثر عميق على الثقافة، إنّه البُعد الثقافيّ.
تتضمن العولمة بعدًا ثقافيًّا مفاده نشر نماذج ثقافيّة معيّنة على مستوى العالم، تتعلق بالطعام والشراب، السّريع منه تحديدًا، وبالأزياء والملابس المصنّعة وفق خط إنتاج وبكميّات جماهيريّة، والهيئة الخارجيّة، وأنواع الموسيقى والغناء، وأساليب الترفيه وقضاء أوقات الفراغ، وبالطبع استعمالات اللّغة. يرافق ذلك ترويج ل "ثقافة الاستهلاك"، استهلاك ما يصنّع في الشمال المعولم، حسب ثقافة وخطوط صناعة الشمال المعولم، في كلّ من الشمال والجنوب المعولميْن.[2] بهذا المعنى، تترافق وتتزامن العولمة مع النيوليبرالية والرأسمالية الجديدة المتوحّشة، وبما هي كذلك وفيما ينسجم مع مبادئ هذه الأنظمة وعوامل الجذب فيها تقوم على استقطاب الطاقات الذهنيّة والبشريّة في صالحها، خصوصًا تحت عوامل الدّفع التي تسود الجنوب وتدفع أبناءه وبناته خارجًا إلى البحث عن فرص أفضل. إنّ العلاقة بين الشمال والجنوب المعولميْن أكثر تركيبًا من أن تتلخّص في استغلال الشمال للقوى البشريّة وللموارد الطبيعيّة الخاصّة بالجنوب، وإن كان ذلك كنهها.
إذًا، تسعى العولمة إلى توحيد الأنماط الثقافيّة في العالم بحسب نمط القطب المهيمن، والشمال المعولم. إنّ النماذج التي تقوم العولمة على نشرها هي أنماط ثقافيّة غربيّة بيضاء، أمريكيّة تحديدًا، لدرجة أن هنالك من يستبدل مفردة العولمة بمفردة الأمركة لتوصيف هذه السيرورة ومخرجاتها. هنا تطفو جملة من التساؤلات: ماذا يحدث للثّقافات المحليّة الخاصّة بالشعوب؟ كيف تعاطت وتتعاطى الشعوب مع هذه السيرورات؟ هل من ردود فعل على هذه السيرورات يمكن رصدها؟ سأركّز في الجانب الثقافيّ، كما يقتضي موضوع مقالي الرئيسيّ، وأحاول إعطاء إجابات جزئيّة لاكولنيّة، لضيق المساحة.
حراكات مناهضة لعولمة الثقافة
جزء كبير من الإجابات على هذه الأسئلة محكوم لتبعيّة الجنوب المعولم للشمال المعولم، سياسيًّا واقتصاديًّا وتكنولوجيًّا وثقافيًّا، وهو ما يحدّ من سبل مواجهة السيرورات آنفة الذكر. تمثّل حالتا اليابان والصين حالتيْن تخرقان نظام العولمة المذكور، لكنهما تُقرأان وتفهمان في سياقه. للتبسيط والاختصار، إنهما نموذجان للخروج من إطباق العولمة، إلى حدّ ما، ومحاولة تشكيل قوة أخرى إزاء القطب المهيمن. وعلى الرغم من تبعيّة الجنوب للشمال، ومن اختلاف تاريخه وحاضره عن تاريخيْ وحاضريْ اليابان والصين، فإنّه يمكن الإشارة إلى حراكات مناهضة للعولمة فيه. تتمثّل المناهضة في رفض الأنماط المعولمة، وفي عودة الشعوب والجماعات إلى ثقافاتها "الأصليّة". فالعودة إلى الأزياء الشعبيّة، والمطبخ الشعبيّ بأكلاته وتقنيّات إعدادها التقليديّة أو المستحدثة، والموسيقى والفنون الشعبيّة المختلفة، وإلى اللّغة الأمّ، وازدياد طلب البعض على الصناعات المحليّة، هي بعض من تجلّيات رفض الثّقافة المعولمة والتّمسك بالثّقافة "الأصيلة". بالإضافة، فإنّ الرجوع إلى العلوم والآداب والفنون والمعرفة "الأصيلة"، تلك الرسميّة المدوّنة في الإرث الثقافيّ-المعرفيّ وتلك الشعبيّة المعيشة، هو تمظهر لمستوى آخر من الرفض والمقاومة والعودة إلى الثقافة الأم. ويبقى السؤال مفتوحًا عن استشراف المستقبل، وتبقى المعادلة محكومة بالعلاقات غير المتوازنة بين قوى الصراع، وبإرادة وتصميم الشعوب على الحفاظ على ثقافاتها، رعايتها وتطويرها، على الرغم من ماكنة العولمة.
إنّ استعمالي للمصطلح ثقافة "أصيلة" هو استعمال أداتيّ تحليليّ، ابتغاء تمييزها عن الثقافة الوافدة أو المفروضة "من علٍ". بينما ينبغي التشديد على أن الأصالة اسم مصدر يدعو إلى النظر فيه وإثارة الأسئلة حوله. فهل ثمّة ثقافة "أصيلة" وهل ثمة "أصالة" صرفة؟ ينبغي أن نكون حذرين/ات في لغتنا وكم بالحريّ في ادعاءاتنا. إذ أي إدعاء للأصالة إنما يصبّ نظريًّا في التّوجه الجوهرانيّ. أمّا عمليًّا، فقد تأثّرت الثقافات من بعضها البعض عبر التاريخ، ونقلت الواحدة عن الأخرى، وراكمت، وكذا الأمر على مستوى الأفراد فيها. صحيح أن التأثّر والتأثير مسألة تتوقف على علاقات القوى بين الشعوب والجماعات الثقافيّة، بحيث تميل الشعوب والجماعات الأقل قوّة إلى التأثّر بتلك الأقوى والمسيطرة. لكنّ القاعدة العامّة للتأثر المتبادل ساريّة المفعول. وما التّثاقف والمثاقفة، والهجنة والهجين/ة والتهجين،[3] إلّا تعبيرات عن ذلك، من جملة تعابير عن نماذج علاقات أخرى ممكنة بين الثقافات.
الداخل الفلسطينيّ وتعقيد مقاربة الثقافة
يتأزّم الوضع في مجتمع أصلانيّ في سياق استعمار استيطانيّ أكثر منه في مجتمع "طبيعيّ"، ويغدو الحال أكثر تركيبًا. مثال ذلك حالة المجتمع الفلسطينيّ في الداخل، والذي يقع في مضاعفات عامة وفي قضاياه الثقافيّة خاصّة. ثقافته، كما تركيبته الاجتماعيّة وأسسه الأخرى، خضعت ولمّا زالت لقوى تغيير هادرة على نحو مباغت وعميق، حوّلت السيرورات الحضريّة والثقافيّة والقوميّة النهضويّة ما قبل النكبة عن مساراتها إلى مسارات مغايرة، واستمرت التّحوّلات حثيثة منذئذ. وهو ما أصاب الثقافة على نحو شديد وعميق.
يصوّب مبدأ الإحلال الذي ينتهجه النظام الاستعماريّ الاستيطانيّ إلى الديمغرافيا والجغرافيا والتاريخ، ويستهدف الثّقافة الفلسطينيّة واللّغة العربيّة كمركّب أساس فيها. ذلك في محاولات المحو، الناجحة والأقلّ نجاحًا، الموجّهة لها والتي تستهدفها بالمحو والتّشويه والمسخ، وتختزلها في أغراض وممارسات فولكلوريّة كبعض الأكلات، والتي تستولي الأكثريّة المستعمرة على جزء منها وتدّعي تملّكه، أو تحظر بالقانون قطف نباتات من الطبيعة (العكوب والزعتر مثلًا) هي مواد أساسيّة في المطبخ الفلسطينيّ التراثيّ والحاليّ. وتُفرغ الثقافة الفلسطينيّة واللّغة العربيّة، التي أخضعتْها لمسخ عبر استعمالها الفائض لأغراض أمنيّة ليس إلّا، أو للشتائم، في حين تغيّب المتون العربيّة الزاخرة بالعلوم الرائدة والآداب الآسرة والفنون الجميلة وروح اللّغة والثقافة، التليدة منها والحديثة. وأكثر من ذلك، ثمّة هرميّة تضع الثقافة الفلسطينيّة والعربيّة عامّة في موقع دونيّ مقاربة بالثقافة الغربيّة البيضاء الاستعماريّة العبريّة. ومن نفس خطّ التفكير يُشتقّ التوجّه الثقافويّ الذي يلجأ إلى تفسير كلّ ظاهرة سلبيّة في المجتمع الفلسطيني بمصطلحات ثقافيّة تدّعي أن المشكلة تكمن في قيم ومفاهيم وأنماط سلوك هذا المجتمع، ويعبر عن ذلك ب"العقليّة". في هذا التوجّه ثمّة تعامٍ عن أو تجاهل لمفاعيل السّياسة، والاقتصاد أيضًا، في تغذية الممارسات وتكريسها وفي خلق أخرى أنكى. إنّه توجّه جوهرانيّ، يرى الثقافة برؤية جامدة وكلانيّة، بمعنى أنها ثابتة وقادرة على تفسير كل شيء بالكمال والتّمام. يصبّ هذا التوجّه الثقافويّ الجوهرانيّ الاستشراقيّ عمليًّا في إخلاء مسؤوليّة حكومات النظام الاستعماريّ تجاه فلسطينيي/ات الداخل والذي حوّلهم هذا النظام إلى أقليّة مستعمرة في وطنهم.
هكذا لا ينكشف الفلسطينيّ/ة في الداخل للثّقافة العربيّة الثريّة المتراكمة، ولا تجد هذه الثقافة طريقها إليه، ولا هو/ي ي/تجد طريقه/ا إليها، إلّا ما ندر. وبالتالي تغيب عن تكوين وجدانه/ا وتنحسر عن مخزونه/ا الثقافيّ، فيغدو وجدان الأصلانيّ/ة ومخزونه/ا الثقافيّ خاويًا من الثقافة الأمّ، هشًّا في أحسن الحالات، إذ تكوين الوجدان والمخزون الثقافيّ لا يتأتّى إلّا بنهيل ما يكفي لتكوينه نوعًا، وكمًّا، وكيفًا، وبجرعات معيّنة في مواضع ومراحل التكوين الحرجة.
في المقابل تقوم السياسات والممارسات الممنهجة على إحلال ثقافة المستعمر، بطرق مباشرة وغير مباشرة، من خلال جهاز التعليم، والمؤسّسات الثقافيّة، والشّعر والأدب بما فيه أدب الأطفال والنّاشئة، والإعلام والسينما، والطقوس والمراسم، والجيش، والبنى الاجتماعيّة الأخرى. لكن في المحصّلة، هذه الثقافة المفروضة لا تكنز مخزون الفلسطينيّ/ة ووجدانه/ا بثقافة بديلة متماسكة، تمنح الحسّ بالامتلاء، وتضمن مشاعر التمتهي والكرامة والاعتزاز. أبدًا لا! على العكس. إنّها صناعة الإنسان/ة المسخ!
ختامًا، عشيةَ افتتاح السنة الدراسية 2023- 2024، وعلى أبواب السنة الأكاديميّة الوشيكة، وفي سياقات تتسارع فيها العولمة وتتصاعد السياسات الاستعمارية على الثقافات الأصلانيّة، هذه دعوة للأفراد والمؤسسات، للأسرة والمدرسة والمعلم/ة والمحاضر/ة في الجامعة، وبقيّة الأفراد والأطر وصولًا إلى لجنة المتابعة، بل بدءًا منها، للإلتفات للتّبصّراتالتي حاولت الإشارة إليها والتذكير بها، دعوة لنبني مؤسسات وأطر موضوعها الثقافة واللغة العربيّتان، ودعوة لنأخذ مسؤولياتنا كلّ من موقعه/ا في العمل على إكتساب وإكساب ثقافتنا ولغتنا، والنهيل الذاتيّ والجماعيّ منها بمقدار يجعلها مرساتنا. مرساة نعود إليها بالدّرس والنقد، وننطلق منها إلى الثّقافات الأخرى، كلّ وفق فرص حياته/ا وميوله/ا، ننفتح على هذه الثقافات ونتفاعل معها، نتعلّم منها نتقبّل ونرفض بحسب موازين واعتبارات راسية، عامري/ات الوجدان والمخزون، لا خاوين/خاويات ولا مسوخًا.
[1] كنت لأبيّن دور الثقافة في الربط أو عدم الربط بينهما، لكنّ المساحة لا تتّسع.
[2] من أجل التوضيح فقط إذا كان "الغرب" و"الشرق" هما التعبيران المستعملان في التاريخ الحديث فإنّ الانتقال لعهد العولمة بدّلهما إلى "الشّمال" و "الجنوب"، بحيث تقسم العولمة الكرة الأرضية إلى قسمين أكبر بموجبه يشمل "الشمال" غرب وشمال الكرة الأرضيَة حيث أمريكيا وأوروبا، ويشمل "الجنوب" شرق وجنوب الكرة الأرضيّة حيث آسيا وأفريقيا، فضلًا عن مجتمعات أصلانيّة في "الشمال".
[3] التهجين والهجنة والهجين/ة مصطلحات نُقلت من عالم الحيوان إلى حقل الثقافة والاجتماع، وهي بالأصل تصف نتاج التزاوج بين الحيوانات من أصناف مختلفة.
د. تغريد يحيى- يونس
أستاذة علم الاجتماع، حاصلة على الدكتوراه بدرجة امتياز من جامعة تل أبيب. تأهّلت لما بعد الدكتوراه في مدرسة الدراسات الشرقيّة والأفريقيّة (SOAS)، جامعة لندن. حازت على منح مرموقة كمنحة الأكاديميّة البريطانيّة، ومنصب باحثة زائرة في كلّ من جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسيّة (LSE)، وكامبريج، إنجلترا. اهتماماتها البحثيّة الرئيسيّة في مجالات سوسيولوجيا الإنتماء والغربة، الجندر والسياسة، الجماعات الإثنية، الحركات النسائيّة والنِسْوِيّات، مناهج البحث النوعيّ، سوسيولوجيا اللّغة، وسوسيولوجيا المعرفة. عملت محاضرة في عدّة جامعات ومؤسسات تعليم عالي في البلاد. تعمل في برنامج دراسات الجندر، جامعة تل أبيب.