خلال شهر أيار من هذا العام، تحل ذكرى مرور سنتين على الأحداث التي اجتاحت البلاد خلال شهر رمضان وعيد الفطر منذ سنتين، والتي سميت بـ "هبة أيار" وشملت مظاهرات ومواجهات مدنية عديدة في المجتمع الفلسطيني في الداخل، عبّرت عن غضبه وذلك بالتزامن مع مواجهات جرت في الضفة والقدس وجولة حرب على قطاع غزة.

يجدر الذكر أن الأحداث كانت عنيفة ومؤلمة على عدة مستويات، وخاصة تلك التي اجتاحت المدن المختلطة التاريخية والساحلية عامة وكان أعنفها في مدينة اللد واستمرت لعدة أيام.
كانت تلك المرة الأولى التي ينتفض فيها أهالي اللد ضد المؤسسة الاسرائيلية منذ عام 1948. وهنا أستخدم تعبير "مؤسسة" في سياق جميع الجمعيات والمجموعات التي تستخدم كوسيلة لتنفيذ مخططات استراتيجية، بالإضافة إلى لسلطة المحلية والجهات الحكومية.
جمهور واسع من مواطني البلاد اعتبر غضب سكان اللد العرب وانتفاضتهم مفاجأة مدوّية، لم يتوقعوها مِمَن لم يساهموا بشكل جماهيري في نشاطات وطنية على مدار سنوات كثيرة، وقد اعتبر كثيرون من سكان اللد اليهود تلك الانتفاضة بمثابة خيانة ما يسمونه بـ "الحياة المشتركة" الوهمية.
حاول الكثيرون تحليل الخلفية لهبّة أيار وأسبابها والإجابة على تساؤلات عديدة، من أبرزها، هل من شأنها أن تتكرر؟ وإلى أي مدى تتجاوب مع ما يشاع من مخاوف لدى المؤسسة الإسرائيلية والمجتمع اليهودي بشكل عام؟

من خلال هذا المقال سأحاول تسليط الضوء على بعض العوامل الأساسية التي أعتقد بأنها أثرت بشكل مباشر، ولا زالت تؤثر، على هوية المجتمع العربي اللداوي:

  1. غالبية أبناء المجتمع العربي في اللد هم من مهجري الداخل، أما أهالي اللد الأصليون فما هم إلا نواة صغيرة جداً ممن تبقى بعد حرب 48، نجوا وتمكنوا من الصمود والبقاء في بيوتهم برغم عمليات التشريد والإبادة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن المهجرين يتحدرون من مجموعتين أساسيتين: الأولى، السكان الفلسطينيون الذين نزحوا من قرى ومدن فلسطينية مختلفة، من بلدة المجدل جنوباً وقرية زكريا شرقاً ومدينة يافا غرباً، وذلك خلال سنوات النكبة، واستقروا في اللد لأسباب مختلفة. أما الثانية، فهي المجموعة التي نزحت إلى اللد على مدار سنوات لأسباب اقتصادية واجتماعية، وغالبيتها من العائلات البدوية من منطقة النقب جاءت لغرض العمل في منطقة المركز واستقرت في اللد.

  2. الهوية الشخصية والهوية الجماعية الفلسطينية لأهالي اللد العرب.
    لا يختلف اثنان على دور منظومة ومناهج التعليم في بلورة الهوية الشخصية والجماعية وتأثيرها على صقل شخصية الطالب. وخير دليل على ذلك هو المساقات المختلفة التي يتم تمريرها لأبنائنا وبناتنا في المدارس الحكومية وصولاً إلى الفعاليات اللا– منهجية، مثل حركات الشبيبة التي تعمل بشكل منهجي على خلق جيل جاهل غير مدرك لهويته وانتمائه القومي والثقافي.

    في المدن الساحلية أو المسماة إسرائيلياً بـ "المدن المختلطة"، والد من بينها، الوضع أسوأ نظراً لأن السياق العام مختلف عن باقي بلداتنا العربية، بوجود سلطة محلية تعمل جاهدة على محاربة ومحو هويتنا القومية الجماعية، إضافة إلى التحديات الأخرى التي نوجهها، إن كانت على المستوى الاجتماعي أو الاقتصادي، وهو ما من شأنه أن يفسر، ولو جزئياً، احتدام الأوضاع في اللد عشية أحداث أيار والمواجهات الحادة التي شهدناها خلالها وقبضة المؤسسة الحديدية في التعامل معها بشكل مباشر أو من خلال إطلاق العنان للمستوطنين للتوافد إليها برعاية الشرطة وقوى الجيش للاعتداء على العرب خلال هذه الأحداث.

  3. مفهوم الحيز العام لدى سكان اللد. وهنا سأتطرق للعامل الأهم من منظور تخطيط المدن. لا شك أن هناك اختلافاً بين الأفراد والمجموعات حول مفهوم الحيز العام، لذلك سأحاول التطرق إلى جانب واحد منه فقط.
    فعند الحديث عن فهوم الحيز العام تتداخل الامور الشخصية والعامة، بين بيتي والشارع والحديقة، وهناك بعض المختصين الذين يشيرون إلى العلاقة المباشرة بين الشعور بملكية الحيز العام وملكية البيت! فالحيز العام هو من أهم الأدوات لتشكيل الهوية الجماعية وهو رابط لتشكيل لانتماء للمكان وفاذا كان مهمل فلن تكون مساحة لالتقاء لسكان المدينة لتتشكل هوية جماعية ومجتمع لداوي، فنحن بحاجة لنتشكل كمجتمع تم تهجيره من عدة قرى وأماكن.

سكان اللد العرب يشكلون 30% من عدد سكان المدينة الكلي الذي يصل إلى نحو 90،000 نسمة. الجزء الأكبر منهم يعيشون في حارات عربية منفصلة أقيمت منذ أكثر من 40 عاماً بلا أي تخطيط أو تنظيم، مما يسهل عمليات الهدم السلطوية الممنهجة بحقها بحجة افتقارها إلى التراخيص. وللمصداقية، كانت هنالك محاولات في السنوات الأخيرة لتنظيم الوضع السكني للأهالي العرب في المدينة من قبل مؤسسات التخطيط، لكنها لم تفض بعد إلى خطط نهائية مقبولة على السكان. ويشار هنا إلى أن عدم التنظيم هذا يفسر الإشكاليات المهولة في البنى التحتية والخدمات المقدمة لأهالي الأحياء العربية، والتي تُشعر المواطن العربي بالتمييز الصارخ مقارنة بما يقدم في أحياء أخرى جديدة في المدينة، من حيث المباني السكنية الجديدة والمرافق العامة والبنى التحتية المتطورة. وهذه أمور يمكن رصدها والاطلاع عليها في وثائق رسمية، في مقدمتها تقرير مراقب الدولة الذي صدر مؤخراً.

كل هذه الأمور مجتمعة تؤدي إلى تعميق حالة الاغتراب لدى أهالي المدينة العرب عن المكان والحيز العام وتثير لديهم مشاعر الغضب والامتعاض، وربما تكون البداية من خلال العمل على تقليص تلك الفجوات والمشاركة الفعالة لأهالي المدينة العرب في جميع مراحل التخطيط ومن ضمنها، إن لم تكمن في مقدمتها، تلك المتعلقة بتخطيط الحيز العام من خلال السلطة المحلية ومقابل المؤسسات الحكومية بشكل عام.

لا شك أن هناك قضايا اخرى كثيرة متعلقة، منها التمثيل العربي في السلطة المحلية، الأوضاع المعيشية المتردية وانتشار آفة العنف والجريمة، التي تتطلب إفراد مقال خاص لفهم علاقتها بأوضاع أهل المدينة العرب وما آلت اليه الأمور من حالة احتقان مستمرة.

وأختتم مقالي هذا بالتأكيد على ضرورة تحمل المسؤولية الجماعية والعمل على تنظيمنا لأنفسنا، وإن كانت هناك بعض المبادرات الشبابية والنسائية اللافتة والواعدة في هذا الإطار، فهي تتطلب المثابرة والاستمرار من اجل تنشئة جيل واعٍ وقادر على النهوض لبناء مستقبل أفضل.


الصورة: اللد قبل النكبة من مكتبة الكونغرس.

عبد شحادة

مخطط مدن، عمل في سلك تعليم في اللد لعدة سنوات ويعمل اليوم مستشارًا للجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية

شاركونا رأيكن.م