عندما يتحول شعور الغضب الى فعل سياسي - الهبة الشعبية: قراءة سيكولوجية

مر عامان منذ هبة الكرامة التي شهدها الشعب الفلسطيني، لا سيما فلسطينيو 48، وما زالت هذه الهبة تثير الكثير من النقاشات السياسية والاجتماعية حول معاني الهبة ودلالاتها والدروس المستفادة منها. وقد فاجأت الهبة المؤسسة الإسرائيلية التي ظنت أن فلسطينيي الداخل قد صاروا على قدر من التدجين وتذويت العجز والدونية بفعل سياسات الضبط والاحتواء والسياسات النيولبرالية، كما فاجأت القيادات الفلسطينية بهيئاتها التمثيلية أيضا. فقد ارتكزت على شرائح شبابية تعتبر بمعظمها جديدة على العمل السياسي والشعبي بمفهومهما التقليدي. كما تركزت الهبة في ما يسمى المدن المختلطة (رغم امتدادها لعدة مدن وبلدات فلسطينية)، حيث كان يفترض أن يكون سكان هذه البلدات من أشد المتأثرين بسياسات التهويد والاقتلاع والأسرلة كونهم على احتكاك مباشر ومستمر مع المجتمع اليهودي المتاخم. ورغم وجود العديد من التحليلات السوسيولوجية المهم تناولها، إلا ان هذه المقالة ستتركز في الجوانب السيكولوجية للهبة وستتناول تحليلات سيكولوجية مستمدة من مفاهيم علم النفس التحرري في محاولة لتأطير وفهم الدلالات السيكولوجية للهبة بوصفها فعلًا ثوريًّا تحرريًّا يلجأ إليه المجتمع المقهور في نضاله ضد الاستعمار والاحتلال ومنظومات القهر.

انطلقت الهبة في مدن الداخل بشكل عفوي احتجاجاً على انتهاكات الاحتلال في القدس والمسجد الأقصى ثم في غزة لاحقاً. وفي عفويتها، أعادت الهبة إلى الواجهة جدلية الفردي والجمعي. كما أعادت إلى الواجهة مسألة التنظيم المجتمعي الذي تزداد أهميته في سياق الشعوب المقهورة، حيث تعمل منظومة القمع بشكل مستمر ومنهجي على تفكيك المجتمعات المقهورة وتذريرها، أي تحويلها إلى مجموعة من الأفراد/ الذرّات المعزولين بلا أي رابط سياسي أو وطني، كما تثابر على تدمير الشعور بالانتماء إلى هوية وطنية جامعة. تعمل منظومة القهر على خلق هويات فرعية منفصلة عن بعضها في أحسن الأحوال ومتنازعة ومتصارعة داخلياً في أسوئها، مما يترك في نفوس الناس شعوراً بالضعف والعجز والدونية أمام مستعمر صلب قوي ومتماسك. وهذا يظهر جلياً في الحالة الفلسطينية حيث لم تكتف المؤسسة الإسرائيلية بفصل التجمعات الفلسطينية عن بعضها جغرافياً، بواسطة الحواجز والتقسيمات والتصنيفات، بل امتدت سياساتها لتطال الأفراد في داخل المجتمع الواحد وتعزلهم عن سياقهم الاجتماعي وامتدادهم الوطني ليصبحوا مثل ذرات منفصلة تعزز من فردانيتهم وتشرذم حسهم بالجماعة. وقد جاءت الهبة لتتحدى سياسات التفكيك وتعزيز الفردانية مشكّلةً حالة من الفعل الجماعي المتكامل دون أن يلغي ذلك خصوصية الأفراد التي تنعكس في أساليب مختلفة من المشاركة والمساهمة في الهبة. من هنا، يمكن رؤية مساهمة الهبّة في الانقلاب على الفردانية بمفهومها المنعزل عن سياقه كما تم تصديره لنا من الغرب، نحو نوع آخر من فردانية تحافظ على خصوصية الفرد وتشجعه على المبادرة بأنواع مختلفة من المشاركة السياسية، كل حسب قدرته وموقعه، وفي الوقت نفسه تتضافر كل الجهود والمبادرات الفردية في بناء حالة جمعية تشكل مرجعية للأفراد وتوفر الدعم والتمكين والتكافل في آنٍ معًا. 

لقد اختبرنا جميعاً إبان الهبّة عدداً من المشاعر المختلفة، التي قد تبدو متناقضة للوهلة الأولى. فقد اختلطت علينا مشاعر من الفخر والتضامن، إلى جانب مشاعر من الخوف والألم: الفخر بالشباب والشابات الذين يرفعون صوتهم رفضاً للظلم والقهر؛ والتضامن مع الهبة ومع الناس في الشوارع حتى من جانب من كانوا في بيوتهم؛ والألم لما يحدث من هجوم ممنهج من المستوطنين ومن الأجهزة الأمنية؛ والخوف على مصير الشباب المعتقلين ومصير الهبّة نفسها. إلا أن الشعور الطاغي والجامع كان شعور الغضب، وهو شعور لازمنا ورافق كل المشاعر الأخرى. وبينما لا يؤمن علم النفس التقليدي بأن الفرد يستطيع أن يختبر مزيجاً من المشاعر "المتناقضة" في الوقت نفسه، يرى علم النفس التحرري إنه يمكن للمجتمعات المقموعة أن تعيش مشاعر مختلطة في الوقت نفسه، بل قد يشكل هذا أساساً للفعل التحرري ويفتح الأبواب لأنماط مختلفة منه تتحول جميعاً إلى روافد له. يعمل الاستعمار منهجياً على تحويلنا إلى خاملين لأن في خمولنا نوعاً من الأمان للمنظومة الاستعمارية وضماناً لديمومتها. وقد يكون هذا الخمول واللا فعل نوعاً من العجز المكتَسَب والمتعلَّم يجعلنا ندور في حلقة مفرغة من اليأس والاكتئاب الجماعي. في هذا الإطار يأتي شعور الغضب تحديداً كمحرك للفعل ليشكل أحد السبل نحو التعافي التحرري، حيث أنه يدفع نحو الخروج من دائرة الخمول إلى دائرة الفعل واستعادة الشعور بامتلاك زمام الأمور وبالمقدرة، دون أن يمنعنا ذلك من اختبار واحتضان التركيبات المشاعرية الأخرى في نفسياتنا. ويعتبر الغضب وسيلة الفرد والمجتمع لمواجهة العنصرية والقهر. هو موجود في الإنسان المقهور والسكوت عنه يُحدث جراحاً في التركيبة النفسية لدى المقهورين، فتكون النتيجة تصدير غضب أفراد المجتمع المقهور، أحدهم إلى الآخر، من دون المسّ برموز أو مجتمع المستعمِرين، كما يقول فانون؛ أو ما يسميه مصطفى حجازي العنف الاضطهادي، حيث يقوم المقهورون باضطهاد بعضهم البعض كنوع من الإسقاط والتصدير للاضطهاد المكشوف والمبطن الذي يمارسه عليهم النظام القامع. في حين يتحول الغضب إلى سبيل للتعافي والشفاء إذا تم التعبير عنه وتوجيهه نحو مصدر القهر. لقد ساهمت الهبة في التعبير عن الضعف المشترك والغضب المشترك وتوظيفه للخروج من دور الضحية بخلقه شعوراً جديداً من القوة المشتركة، أساسه كون الفرد جزءاً من جماعة تقاسمه الغضب والوجع والهمّ والخوف المشترك.

لا تنفك المجتمعات المقهورة تبحث عن طرق للتعبير عن توقها للحرية التي تعتبر أساساً لأي مفهوم من الصحة النفسية. ورغم القمع والبطش اللذين تم التعامل بهما من قبل المؤسسة الإسرائيلية، إلا أن الهبّة الشعبية الأخيرة، كما الهبّات التي سبقتها، ساهمت وتساهم في بناء وحفظ الذاكرة الجمعية التي تعمل منظومات القهر على طمسها ومحوها. لقد كانت الهبّة لحظة فارقة مارس فيها أبناء المجتمع المقهور فعل الرفض: رفض السيطرة، رفض الدونية، رفض دور الضحية الذي ترافقه مشاعر اليأس والضعف. كما أعادت إيمان الأفراد بالقضية الجمعية وأعادت إنتاج وعي نقدي لدى الأجيال الشابة لهذه القضية. والوعي هو أحد أهم أسلحة المستعمَر التي يحفظ من خلالها ذاكرته ويصوغ فيها روايته ومستقبله. لقد ساهمت الهبّة في كشف "النفس الحقيقية"، كما سماها وينيكوت، في مقابل "النفس الكاذبة" التي قد يفرضها الاستعمار، فظهرت قيم المجتمع الحقيقية التي تنعكس بالدعم والمؤازرة مما ساهم في تعزيز روح الانتماء بين الفرد والجماعة. ولعل من أهم إنجازات الهبّة أنها اعادت تشكيل صورتنا الذاتية عن أنفسنا وساهمت في توسيع الخيال السياسي الجماعي للأجيال الشابة نحو ما يمكن أن نكون ذات يوم.


تصوير: سيرين محمد جبارين.

إيناس عودة - حاج

معالِجَة نفسيّة، ناشطة سياسيّة، ومركّزة برنامج علم النفس التحرري في مركز "مدى الكرمل"

شاركونا رأيكن.م