على سفح جبل الشيخ ما يحكى
على سفح جبل أشمّ تكتسي قمته بالبياض الناصع لأشهر طويلة في السنة ولدت قبل حرب الـ 67 في قرية مجدل شمس التي لم يتجاوز عدد سكانها بضعة آلاف نسمة لأبٍ تخلى عن تجارته الصغيرة فور دخول الاحتلال الإسرائيلي إلى قريتي الجميلة وبقية الجولان، لأنه رفض أن يتعامل مع الاحتلال لتطوير تجارته وأدرك أن دوره النضالي قد بدأ منذ اللحظة الأولى، فأسس ورفاق دربه أول خلية سرية للمقاومة والتواصل مع الوطن الأم سوريا، رغم مخاطر الأسلاك الشائكة التي زرعت على الحدود المحيطة بمجدل شمس. ومنذ تلك اللحظة، بدأ مشواره السياسي المقاوم واستمر إلى حين وفاته قبل بضع سنوات دون أي تراجع، رغم الاعتقالات المتكررة وكل وسائل الضغط الاحتلالي المهين. وكانت أمي رفيقة دربه والداعمة الأولى له ولرفاقه، بكل تفان وإخلاص، رغم وجعها الأكبر بسبب انفصالها القسري عن أهلها. فهي من مواليد قرية حاصبيا في لبنان. وهكذا كبرنا أنا وإخوتي وكبر معنا الحلم بزوال قريب للاحتلال. ولكن الحلم امتد وما زال جاثماً على القلب حتى يومنا هذا. وهنا، بعد طول السنوات واستمرار النضال بشتى الوسائل لرفض الاحتلال، أدرك والدي رحمه الله أن النضال الأساسي هو بالعلم والتنور والثقافة والوعي الاجتماعي، وليس السياسي فقط. فهو السبيل الأقوى لمتابعة المقاومة وهذا ما زرعه في عقلي وقلبي: العلم ثم العلم ثم العلم... رغم الظروف الاجتماعية والدينية المقيدة حينها، والتي أعاقت خوض التجارب وكسر القوالب البائدة التي تحد من انطلاق الفتاة للتعلم، بما في ذلك آنذاك رفض سفر الفتيات إلى الخارج، حتى لو كان بهدف التحصيل العلمي، إلا أن والديّ كانا مؤمنَين بهذا الهدف حتى الصميم. وبفضلهما كنت أول فتاة درزية، برفقة ابنة عمي وفتاة أخرى هي صديقة الطفولة. خضنا التجربة بعد إصرارنا على إزالة أي عائق والانطلاق إلى رحلة العلم في الاتحاد السوفييتي، كما سمي حينها، لنبني لنا مستقبلاً علمياً ومهنياً ونساهم بذلك في فتح الطريق أمام كل فتاة تحلم ببناء مستقبلها، كما يجدر أن يكون الحال. وهنا يجب التنويه بصعوبة التعليم في الجامعات المتاحة في الداخل الفلسطيني المحتل لأسباب اقتصادية من جهة وأخرى أمنية سياسية من جهة أخرى، الأمر الذي منع قبول الطلاب الجولانيين إلى الكثير من المجالات، على سبيل المثال لا الحصر موضوع الطب الذي اقتضى ليس فقط حصول الطالب على علامات مرتفعة، بل على الجنسية الإسرائيلية ما يعني التخلي عن جنسيتنا السورية الأمر المرفوض جملة وتفصيلاً بالنسبة لنا.
وهنا لا بد من التوقف عند هذا التغيير الذي ساهم بتحول جذري في قرانا الخمس في الجولان. فقد كسرت حواجز التعليم أمام الفتيات رغم الثمن الباهظ، وليس المادي فحسب، الذي دفعه أهلنا نحن الأوائل في هذه المسيرة. في فترة سادت فيها مفاهيم اجتماعية ودينية متشددة لا تقبل بخروج الفتيات والنساء من بيوتهن بلا مرافق من عائلاتهم، حتى للبساتين أو لغرض العمل... فتأتي ثلاث فتيات أنهين المدرسة الثانوية للتو وينطلقن عبر البحار وما وراء القارات غير آبهات بقرارات المقاطعة الاجتماعية والدينية لأهاليهن الذين رفضوا بأنفسهم هذا القرار القاضي بمنع بناتهن من السفر لنيل العلم والانطلاق بأحلامهن ...ولتتبدل بعدها الأحوال ونلمس قبولاً أكبر لقرارنا بعد أن تلاشت "صدمة السفر" فور عودتنا لقضاء إجازة الصيف الأولى ولنشهد توافد الأهالي مهنئين ومعجبين. وقد بدأ بعد ذلك حراك لافت وجميل يتمثل في اتساع ظاهرة إرسال الفتيات إلى التعلم في أية جامعة فتحت أبوابها أمامهن للدراسة، رغم الاحتلال الذي قوض حياتنا وتطورنا ونشاطنا واستمراريتنا الطبيعية.
هذا التغيير السريع الذي حصل في ذهنية الناس بتقبل التجدد والاتسام بالجرأة والشجاعة والإقدام على العلم وتحدي الأعراف الاجتماعية والدينية التي سادت آنذاك بين أهالي عانوا الأمرّين من الاحتلال والانفصال القسري عن امتدادهم العائلي والقومي والثقافي منعزلين عن أهلنا في باقي الوطن الأم من جهة وعن أهلنا في الداخل الفلسطيني بسبب البعد الجغرافي من جهة أخرى، كان وما زال يجعلني أفكر ملياً في خصوصية مجتمعنا المتقبل للتطور والانفتاح، وليس العلمي فقط بل القادر على الانطلاق بثقة وإيمان بقدرات ذاتية جمة لتطوير نفسه اجتماعياً واقتصادياً بشكل لافت وملموس.
لطالما بحثت في أعماقي عن أسباب خفية كانت مصدر هذا الصمود وهذه الاستمرارية في الحياة وهذا الازدهار والتطور الجميل في قرانا، رغم الظروف القاسية والوضع الأمني المقوض لوجودنا وأصدقكم قولاً إني أجده في عزم وإصرار الأهالي على المضي في مسيرة التطور والانتعاش الاقتصادي والعلمي والسياحي والاجتماعي بصورة مثيرة للإعجاب، فأجد نفسي في كثير من الأحيان أنظر إلى ذلك الجبل الشامخ بعمامته البيضاء لعل تضاريسه صنعت رجالاً يفتّون الصخر ونساء يرفضن الاستسلام وشباباً ينظرون إلى القمم ولا يقبلون غيرها مكاناً لأحلامهم... متسائلة إلى أي مدى تؤثر تضاريس البلاد في صناعة الطباع أم أنها العزة التي كبروا عليها ولا زالت نابضة في ذاكرتهم ببطولات أجدادهم الذين رفعوا سلاحهم وناصروا ثورة الاحرار وطردوا الفرنسيين من بلادنا وقدموا الشهداء وغيرها من الأثمان ليبقى جبلنا عزيزاً حراً شامخاً.
ومع ذلك، لا شك لدي في أن السبب الرئيسي كامن في الكوادر الوطنية الصلبة المؤمنة بأن النضال السياسي الحقيقي ينجز حين يكون العلم والتربية والثقافة الركائز الأساسية لرفع الوعي السياسي والاجتماعي؛ فسلاحنا هو علمنا وأرضنا وشجرات التفاح التي تمتد جذورها عميقاً وبعيداً نحو شامنا الحبيبة.
لا بد من بوح قلبي وأفكاري في هذه الحالة الجولانية التي يحكى عنها وبحق أنه حين تكون النوايا صادقة والأهداف واضحة والثقة كبيرة بعملنا الجماعي دون إلغاء الآخر وإصرارنا المثابر على الاستمرارية، بمعزل عن الوتيرة والمشارب الثقافية لبناء أسس تربوية متينة وطنية حرة تعتمد العلم والمعرفة طريقاً لها وبثقتنا بأنّ القادم أفضل ...لا بد أن تكون النتيجة مرضية.