الثقافة بوصفها ضرورة" في سياق الجولان السوري المحتل

كل حديث عن الثقافة في الجولان المحتل ينتهي إلى الحديث في السياسة.. وقد يبدو الكلام عن "حركة ثقافية" في نطاق ما لا يزيد عن 28 ألفاً من سوريي الجولان "كبيراً ولا يخلو من ادعاء" إلا أن معاينة الشرط المعيشيّ بمكوناته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية قد يكسبه بعض المعقولية.

هذا الجولان الصغير، الذي يشكل جزؤه المحتل واحداً بالمئة من مساحة سوريا وتعداد ساكنيه واحداً بالألف من سكان سوريا، كان متصلاً دائماً، وعلى نحو ما، بالأحداث الكبرى في سوريا والمنطقة!

تسعفنا الذاكرة الشفوية وبعض الوثائق النادرة في تتبع هذا التواصل..

مسودة نادرة لرسالة بعث بها وجهاء وشيوخ مجدل شمس في العام 1908 للسلطان عبد الحميد الثاني تشيد بقرار إعادة العمل بالدستور وأهمية سيادة القانون وترسيخ قيم المواطنة في إدارة شؤون الناس (بلغة تلك الأيام، طبعاً)..

رسالة ثانية من وجهاء مجدل شمس إلى الشريف حسين عام 1916 يعلنون فيها دعمهم لثورته..

وعندما يصل الحديث إلى الثورة السورية الكبرى، تنطلق الذاكرة الشفهية وتكثر الشهادات في وصف معركتي مجدل شمس الأولى والثانية مع الجيش الفرنسي ولا تتوقف عند الشهداء الذين سقطوا وعند حريق المجدل مرتين أو عند كون قائد الثورة في إقليم البلان من مجدل شمس. وفي حمى الذكريات المتداعية عن سوريا بعد الاستقلال وقبل الاحتلال، لا ينسى محدثك أن يحكي ذكريات الجولانيين في دمشق وبيروت وأن يأتي على ذكر الفنان فيلمون وهبي أيام كان يأتي للجولان في رحلات الصيد والسمر. 

بعد هزيمة 1967 تعرض سكان الجولان المحتل لأكبر عملية تهجير وتطهير عرقي، طالت 95% منهم - ما يقارب حوالي 142,000 نسمة - وبقي 6,400 سوري منسيّين ومتروكين لمصيرهم. 

هذه التحوّلات المتعدِّدة المستويات التي مرّ بها المجتمع ابتداءً من الاحتلال والتهجير و14 عاماً من الحكم العسكري ووصولاً إلى فرض القانون المدني على الجولانيين ومحاولة فرض الجنسية الإسرائيلية عليهم، شكّلت الأرضية التي تكوّن فيها الحقل الثقافي المحلي. نتحدّث هنا عمّن تبقّى بعد التهجير في خمس قرى هي مجدل شمس، بقعاثا، مسعدة، عين قني والغجر، والتي ترافق احتلالها بعمليّات تحديث ماديّ أدّت الى دمج السكان في سوق العمل الإسرائيليّ عبر بيروقراطيّة الدولة المحتلّة وقانونها المدنيّ. ولكن، وبموازاة هذا التحديث، جرى اندماج متزامن - على صعيد الوعي- في مخيّلات حداثيّة، وطنيّة وأمميّة. وقد ترك التوتُّر الداخليّ بين هذين المستويين للحداثة آثاراً عميقة على طابع الحداثة الثقافيّة المحليّة وما زال يحكم تطورات الحالة الثقافيّة وتعبيرات الهويّة.

في هذا السياق الاجتماعيّ والسياسيّ المستمرّ والمتغيّر، وتحديداً بعد انتفاضة الهوية التي أعقبت قرار ضم الجولان، توسعت الممارسات الفنيّة والثقافيّة المنشغلة بمسألة الهويّة وبرزت أعمال فنيّة مختلفة؛ في الرسم والنحت وفي الموسيقى والشعر والأدب والمسرح، وتشكّلت بدايات لسياق فنيّ وثقافي، حيث بدأت ثيمة (موضوعة) الهويّة توظّف من أجل العمل الفنيّ وتشكِّل جزءاً من رأسماله الرمزي.

خلال العقدين التاليين توسّعت فضاءات التعليم وظهرت مراكز تُعنى بالثقافة والفنون وأنشطة فنيّة سنويّة كالمهرجانات الثقافيّة وحركة تشكيليّة نشطة في تعليم الفنون وإقامة المعارض ومهرجانات النحت والعروض الموسيقيّة والمسرحيّة. 

اللحظة الفارقة الأعمق تأثيرا جاءت في آذار 2011 عندما تفجّرت كل التناقضات، مرّة واحدة، مع انطلاق الانتفاضة السوريّة. تجلّى ذلك في انقسام مجتمعيّ حاد وانكسارات طالت كلّ ما بدا قبل ذلك مسلّمات وبديهيّات. أدى الاستقطاب السياسيّ الحادّ والفرز العميق داخل المجتمع، ما بين مناصر للانتفاضة ومناصر للنظام، وانحياز معظم نشطاء الحقل الثقافيّ للانتفاضة وانخراطهم في النشاط الاعلاميّ والفنيّ المتعلّقين بيوميّاتها، إلى انكماش الفضاءات الثقافية المحلية. شكلت بداية الانتفاضة حدثا استثنائيّاً وبدا لكثيرين من نشطاء الفنّ والثقافة أنّهم يعيشون تجسيداً نادراً لالتقاء النظريّة بالممارسة والتحام الثقافة بالحياة وانتظام الممارسة السياسيّة والفعل الفنيّ- الثقافيّ والمعرفة التحرّرية في خط واحد يربط انعتاق الجولان من الاحتلال الإسرائيليّ بانتصار قيم الحريّة والكرامة والتحرّر من نظام الاستبداد في الوطن الأم سوريا. 

شقاء هذا الوعي تمثّل في اكتماله عند اللّحظة التي بدا فيها احتمال تحرير الجولان أبعد من أيّ وقت مضى؛ ولعنته أنّه تحوّل إلى الذريعة المؤسّسة لخطاب تيار الأسرلة والاندماج الكامل ضمن المنظومة الاستعماريّة بعقيدتها الصهيونيّة.

كل هذه المقدمات كانت الدافع الأساسي وراء محاولة تنشيط الحقل الثقافي في الجولان، من خلال مهرجان "أيام الجولان الثقافية" الأول والثاني، كما تؤكد رؤية المهرجان التي نشرها منظموه.

وهنا نقتبس من رؤية المهرجان الأول:

"..  يعيش الجولان السوريّ المحتلّ خلال العقد الأخير طوراً جديداً؛ سِمته القلق، ضبابيّة المشهد، اختلال التوازن وفقدان الطمأنينة. فقد ولّدت الظروف المحيطة وارتداداتها على الجولانيّين حالةً من الإحباط وانحسار الفاعليّة على عدّة مستويات، لعلّ أبرزها الانكماش الملحوظ الذي طال الفضاءات الثقافيّة الأهليّة في الجولان"؛ 

كما ".... وفّر العقد الأخير ظروفاً مواتيةً للمنظومة الاستعماريّة كي تدفع بسياسات الدمج والتطويع، في الجولان السوريّ المحتلّ، إلى أقصاها. ولا يخفى سعْيها للاستيلاء على مفاصل أساسيّة في المجال العامّ لانتزاع التمثيل والقرار السياسيَّين من المجتمع الأهليّ والاستحواذ على حقله الثقافيّ؛ ذلك أنّ السيطرة على المجال العامّ لا تستقرّ بدون امتلاك الحقل الثقافيّ والتحكُّم بمضامينه. لقد أتاح الفراغ وانكفاء الفاعلين، في مجال الثقافة والفنون، تمدّداً أوسع لـ "ثقافة" السلطة، عبر صناعة فضاءاتٍ وتأسيس حركات ومشاريع احتواء، بمضامينَ قِشرتها "ثقافة" ولبّها تسطيح للوعي ومسخٌ للهويّة".

"... إنَّ إعادة تفعيل الهامش الثقافيّ الأهليّ أضحت ضرورةً، بعد عشر سنوات من الضمور، وصارت حاجةً جوهريّةً؛ اجتماعية وسياسيّة، قبل أن تكون رفاهيّةً ثقافيّةً محضة".

"أيّام الجولان الثقافيّة، نشاطٌ من المجتمع وله يصبو للاحتفاء بثقافته وفنونه؛ فَهُما مبتدأ الوعي وميدان تكوينه؛ أمّا أدواته فالأغنية والّلوحة والقصيدة والمسرحيّة والفيلم والندوة والحواريّات الفكريّة. الحياة الثقافيّة الناشطة تبعث الروح في الحيّز العامّ، توسِّع نطاق الحريّات العامّة، تعمّق التفكير النقديّ، تُكسِب السيرورات الاجتماعيّة معانيها الإيجابيّةَ وترسّخ الانتماء لهذه الأرض".

ومن رؤية النسخة الثانية للمهرجان نقتبس:

 "... قد لا يكون بمقدور الثقافة أن تُحدِث تغييرا مباشراً في الواقع، إلّا أنّ الأخير لا يمكن أن يتغيّر بدون تشكُّل إدراك جمعيّ بضرورة التغيير وموجباته ووجهته. المقالة والأغنية واللوحة والمسرحية والقصيدة والحوارية.. تبني، على مهل، هذه الإدراكات الجمعيّة. لقد راكم الجولانيون، على مدى عقود الاحتلال، رأسمالاً فنيّاً وثقافيّاً ثميناً... ويصادف هذا العام أن تكتمل أربعة عقود على الحركة التشكيليّة في الجولان والتي مثّلت، إلى جانب الإنتاج الأدبيّ والموسيقيّ والمسرحيّ، حقلاً دلاليّاً ورمزيّاً واكب الأشكال المتعدّدة لمقاومات الجولانيين ووفّر التعبيرات الفنيّة لروايتهم ومنحها صوتاً ولوناَ وكتلة".

".. أحدثت التحوّلات التي مرّ بها مجتمعنا اصطفافات جديدة وتصدّعات عميقة في نسيجنا المجتمعيّ؛ وحقيقة أنّ صراعنا كان وما زال مع قوىً لا قِبَل لنا بها لا تعفينا من تحمّل المسؤوليّة الجمعيّة عن أفعالنا وخياراتنا وعمّا آلت إليه أوضاعنا. في المقابل، يتمدّد خطاب شعبويّ انتهازيّ من قلب هذه التصدّعات، يمهّد الطريق لانزياحات سياسيّة جسيمة ويملأ الحيِّز العام ضجيجاً وتشويشاً وعويلاً عن "أزمة هويّة" مفترضة عند سكّان الجولان ويستميت في اختلاق الذرائع... "

"... علينا أن نتوقّف مليّاً أمام هذه التحوّلات، كي نفهمها أولاً، وكي نتمكن تالياً من مواصلة إعمار روايتنا، بما يحفظ الكرامة والانتماء والوجود وطيْب العيش ونيل الحقوق والنماء الماديّ والروحيّ. إنّها مهمّة جذريّة - ثقافيّة وسياسيّة - تتّصل بحاضر ومستقبل هذا الجزء من الأرض السوريّة. هنا تحديداً تكمن رسالة الثقافة ومشقّتُها.

لسنا وحدنا من يعيش مأزق التناقضات؛ نتقاسمها مع أهلنا في فلسطين بالتشابه وبالأمل. ولنا في الساحة الثقافيّة الفلسطينيّة متنفّسٌ وشريكٌ داعم وفضاءٌ محبٌّ نتعلّم منه وفيه. ولم نعد وحدنا، بين سائر السوريين، ممَّن باتت تجمعهم بفلسطين النكبات والاحتلالات والشتات. إنّ ساحتنا الثقافيّة السوريّة هي جذرنا وامتدادنا، وبيننا وشائج عابرة لإكراهات الواقع.. 

لا يكفي أن تكون الثقافة "خندقنا الأخير"؛ بل يجدر أن نجعلها ورشة عملٍ؛ محترفاً لتطوير معرفةٍ تُحرِّرُ الوعيَ؛ مَشْغَلاً لتجديد أواصر الجماعة الأهليّة، وفضاءً رحباً مفتوحاً على الاجتهاد لرفع مداميك سرديّتنا الوطنيّة؛ كلمةً فوق كلمهْ".

وائل طربيه

فنان وناشط في المجال الثقافي والعام ومن منظّمي مهرجان "أيام الجولان الثقافية"

شاركونا رأيكن.م