التطهير العرقي في الجولان السوري المحتل

منذ قيام الحركة الصهيونية وبدء التخطيط لإنشاء دولة لليهود على أرض فلسطين، كان الجولان السوري في مرمى المطامع الصهيونية، وخاصة بسبب ثرواته المائية. ورغم كل الجهود التي بذلها قادة الحركة الصهيونية ليكون الجولان جزءاً من الدولة اليهودية، إلا أنهم فشلوا في تحقيق هذا الهدف. لكن هذا الفشل لم يكن أبداً إسقاط الجولان من دائرة الطموحات الصهيونية الاستعمارية. وفقط بعد مرور 19 عاماً على انشاء الدولة اليهودية، في العام 1967، حقق جيشها هذا الهدف من خلال عدوانها العسكري على الدول العربية المجاورة. 

تبلغ مساحة الجولان 1,860 كيلومتراً مربعاً، احتلت إسرائيل في حزيران 1967 الجزء الأكبر منه (1,260كيلومترا مربعاً). بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973 وقعت الدولة السورية وإسرائيل على اتفاقية فك الاشتباك لعام 1974، والتي بموجبها تمَّت إعادة ما يقارب 60 كيلومتراً مربعاً للسيادة السورية، بضمنها مدينة القنيطرة، لكن بعد أن قامت سلطة الاحتلال بتدميرها بالكامل.

في حرب العام 1967، وبعد توقف المعارك، قامت سلطات الاحتلال بتغيير مادي كبير في المشهد الطبيعي للجزء المحتل من الجولان، حيث مارست تدميراً شاملا بحق المُكَوّن الديمغرافي والعمراني، إضافة إلى المُكوّن المعرفي. 

المُكوّن الديمغرافي

مارست قوات الاحتلال خلال فترة الحرب وبعدها كل أشكال الترهيب والعنف بحق السكان المدنيين، إلى حدّ ارتكاب بعض المجازر، وقامت بطرد أكثر من 142 ألف نسمة إلى العمق السوري. وهكذا، خلال فترة قصيرة، فقدَ الجزء المحتل من الجولان أكثر من 95% من سكانه وشهد - قياساً بالمساحة - أكبر عملية تطهير عرقي في التاريخ منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وشكّلت المرحلة الثانية لمشروع التطهير العرقي الذي بدأته المؤسسة الصهيونية في فلسطين عام 1948حين قامت بطرد أكثر من 85% من الفلسطينيين في الجزء الذي منحته القوى الاستعمارية الغربية لمشروع الدولة اليهودية، ودمرت جميع مناطقهم السكنية. 

تجدر الإشارة إلى أن ما بين 8,000-7,000 نسمة من سكان الجولان الذين تم طردهم عام 1967، هم من الفلسطينيين الذين طردتهم العصابات الصهيونية عام 1948 من قراهم في منطقة صفد ومنطقة طبرية.

المُكوّن العمراني

يشكل اقتلاع السكان الأصليين وطردهم خارج بيئتهم جانباً واحداً من جوانب التطهير العرقي. أما الجانب الآخر منه فينطوي على محو وطمس أي دليل مادي أو إثبات يشير إلى وجودهم. ويجري تحقيق هذا الأمر من خلال تدمير البيئة التي عاش فيها السكان الأصليون قبل التهجير. 

في هذا الإطار الاستعماري الصهيوني ارتكبت قوات الاحتلال في الجولان أكبر مجزرة عمرانية في التاريخ الحديث. فالقرى المهجرة شكّلت شهادة مادية حية على جريمة الطرد والتهجير. وقد رأت سلطة الاحتلال بالعمران القائم تهديداً لروايتها الصهيونية. لذلك، كان عليها تحييد هذا الشاهد من خلال التدمير الشامل. هذه المجزرة العمرانية طالت 340 قرية ومدينة القنيطرة (عاصمة الجولان) حيث تمَّت تسويتها بالأرض ولم يبق في الجولان على قيد الوجود سوى خمس قرى تقع في شمال الجولان، هي: مجدل شمس، بقعاثا، مسعدة، عين قنية والغجر الواقعة على حدود لبنان الجنوبية الشرقية. 

من أجل إخفاء بقايا هذه القرى، قامت مؤسسات الاحتلال بجرف كامل للكثير من المواقع السكنية وتحويلها إلى أرض زراعية واستعملت أحجار بيوت القرى (البازلتية) في بناء التحصينات العسكرية. إضافة لذلك، قامت بتوظيف الطبيعة لتبييض جريمة التطهير، وذلك من خلال التخضير حيث قامت سلطة المحميات الطبيعية بتحويل مساحات واسعة إلى محميات طبيعية (34% من مساحة الجولان المحتل) لتُخفي تلك المحميات في داخلها معالم 145 قرية سورية مُهجّرة.

ارتكبت قوات الاحتلال هذه المجزرة العمرانية لتقطع الطريق أمام عودة السكان إلى بيوتهم. وقد جاء هذا الفعل الإجرامي بقرار من القيادات العليا في دولة الاحتلال. ففي الاجتماع الذي عقده رئيس الأركان يتسحاق رابين في جناح العمليات الحربية خلال الهجوم الإسرائيلي على مرتفعات الجولان، قال اللواء رحبعام زئيفي، الذي كان نائب رئيس شعبة العمليات: "في هضبة الجولان لا يوجد عدد كبير من السكان وعلينا الحصول عليها خالية من السكان". وبعد 20 عامًا، في مقال دافع فيه عن عقيدة الترحيل، كتب زئيفي في جريدة "يديعوت أحرونوت: "قام البلماخي دافيد إليعزر (دادو) بإخراج جميع القرويين العرب من مرتفعات الجولان بعد حرب الأيام الستة. وقد فعل ذلك بموافقة كل من رابين، رئيس الأركان، وموشي ديان، وزير الدفاع وليفي إشكول، رئيس الوزراء".

يرتبط التطهير العرقي/ الاثني في معظم الحالات بالاستعمار الاستيطاني، حيث أن هذا الشكل الاستعماري يقوم في أساسه على الاستيلاء على الأرض من خلال اقتلاع وطرد المجموعة الأصلانية. إضافة لذلك، يُشكل التطهير العرقي أداة تساعد القوة المُحتلة على تطبيع الحيز وإخضاعه لهويتها. وهكذا، فإن القدرة على محو واستئصال هوية المنطقة المحتلة، من أجل إعادة تشكيلها وإنتاج هوية ديمغرافية - إثنية وهوية عمرانية جديدة، تعتمد على نسبة اكتمال التطهير العرقي الذي تنفذه القوة المُسيطِرة. 

بعد الانتهاء من عملية التطهير العرقي، وقبل استكمال المجزرة العمرانية، شرعت سلطات الاحتلال بخلق هوية ديموغرافية وعمرانية جديدة في الجولان، من خلال إنشاء المستوطنات ذات الطابع العمراني الأوروبي وتعبئتها بالمستوطنين اليهود. 

يرمي الفعل الاستيطاني الصهيوني في الجولان إلى سد الفراغ الديمغرافي، الذي أنتجه التطهير العرقي، كما تمارس سلطة الاحتلال التعتيم الكامل على هذه الجريمة من خلال خلق رواية تعمل على انتاج علاقة تاريخية بين المُستعمِر والحيز الذي خضع للتطهير. وفي هذا الإطار تقوم مؤسسات الاحتلال بتوظّيف الدين وعلم الآثار لإنتاج هذه الرواية.

التطهير المَعرفي

يرتكز التطهير المعرفي على مبدأ استبدال مصادر المعرفة من أجل استكمال ودعم بناء الهوية الجديدة للحيّز. في هذا الإطار قامت سلطات الاحتلال مباشرة بإلغاء المناهج الدراسية السورية وفرض المناهج الدراسية الإسرائيلية على مدارس القرى التي لم يطلها التهجير والتدمير. فالمدارس تشكل مراكز مهمة في عملية انتاج المعرفة. استبدال المناهج الدراسية السورية بالمناهج الإسرائيلية يحمل في طيّاته بعداً آخر يهدف إلى خلق هوية جديدة (إثنية - دينية) لدى الأجيال الشابة من السكان الأصليين تكون قابلة للتطبيع مع المُستعمِر الصهيوني. ومنذ انطلاق الانتفاضة السورية، تعمل دولة الاحتلال على توظيف الجرائم التي مارسها النظام السوري بحق شعبه لإنتاج هذه الهوية الأثنية - الدينية (الدرزية).

إضافة لذلك وفي إطار التطهير المعرفي، تقوم سلطات الاحتلال باستبدال الأسماء العربية للحيّز الجغرافي الجولاني بأسماء عبرية تساهم في انتاج وبناء الهوية الجديدة للحيّز وتسويق الرواية الصهيونية عن علاقة المُستعمِر اليهودي بالمكان.

التطهير العرقي شبه الكامل الذي مارسته إسرائيل في الجولان فسح المجال أمامها لضم الجولان وفرض القانون الإسرائيلي على ما تبقى من السكان الأصليين. وفي 14 كانون الأول من العام 1981 - بعد أربعة عشر عاماً من الاحتلال وسيادة القوانين العسكرية - أقر البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) ما يسمى بـ "قانون الجولان". 

يعيش اليوم في الجولان المحتل ما يقارب 29,000 مستوطن إسرائيلي يقيمون في 35 مستوطنة، ويسيطرون مع السلطات الإسرائيلية على أكثر من 95% من الأرض. أما من تبقى من السكان السوريين فيبلغ عددهم 28,000 نسمة ويمتلكون أقل من 5% من الأرض.

التجمعات السكنية السورية التي هدمتها إسرائيل بعد احتلال الجولان في العام 1967 

التجمعات السكنية السورية التي هدمتها إسرائيل بعد احتلال الجولان في العام 1967 

الخارطة السكنية للجولان بعد احتلال العام 1967  

الخارطة السكنية للجولان بعد احتلال العام 1967  

د. نزيه بريك

مهندس معماري ومهندس التخطيط الحضري ويكتب باللغتين العربية والألمانية وله إصدارات باللغتين في المجال الأكاديمي والمجال الأدبي من مجدل شمس

شاركونا رأيكن.م