العرض الأخير.. مسرح في الشمس

عندما كنت صغيرََا في المرحلة الابتدائيّة، كنت أنتظم في الدراسة سنة كاملة، أصارع كرهي للمدرسة وأداوم على الحضور دون غياب. ذلك ليس حبََّا في المدرسة ولا رغبة في أن أضرب من أحد المعلمين؛ لأنّي لم أنجز إحدى الوظائف السخيفة التي كان يفرضها علينا المعلمون "سخيفة في نظري "؛ مثل انسخ الدرس عشر مرات كنت أستغرب كيف يريد مني أن أنسخ شيئََا أنا لا أفهمه أو لم يقم هو بشرحه لنا. لم أداوم على الحضور إلى المدرسة خوفََا من عقاب والدي أو من نظرات أمّي الثاقبة التي تحمل في طيّاتها كلّ العتاب لا ليس هذا الذي من أجله أتحمّل كلّ ذلك. كنت أتحمّل كلّ هذا من أجل شيء واحد؛ أن يسمح لي أن أشاهد العرض المسرحيّ، في نهاية كلّ سنة دراسيّة، نعم عرض مسرحيّ واحد في نهاية كلّ سنة دراسيّة هذا العرض يعطيني طاقة على تحمل عبء ومتطلّبات المدرسة بدون غياب خوفََا من الحرمان من مشاهدة العرض المسرحيّ الّذي لم تكن تتكون به جميع مركبات المسرح لكن بالنسبة لي كان عالمََا كاملََا متكاملََا، لوحة فنّيّة رسمها أعظم فناني العالم، نعم عرض مسرحي واحد في السنة، تأتي فرقة من أقصى شمال البلاد لتقديم عروضها في مدارسنا.

لم نكن نعرف أنّ هذا الفنّ اسمه مسرح ولم يكن أحد في المدرسة يشرح لنا ذلك ولم نكن نسمع كلمة مسرح أو مسرحيّة إلّا يوم العرض حيث يتمّ تكديسنا كأكياس الطحين في ملعب المدرسة أكثر من 800 طالب وطالبة تحت حرارة الشمس الحارقة والطلاب بين متذمّر ويائس ومرهق وأنا في غاية الفرحة والسعادة أتحمّل صراخ المعلمين على بعض الطلبة وإرشادات المدير كيف نتصرف خلال العرض ثم يبدأ العرض وأشعر كأنّي أشاهد العرض وحدي لا أسمع شيئا إلّا صوت الممثّلين والممثّلات ولا تراقب عيناي إلّا حركاتهم أشاهد وأتساءل من أيّ كوكب هم؟ هل هم بشرٌ مثلنا؟ أريد أن أكون مثلهم هناك شيء في داخلي يصرخ في داخلي مكانك على خشبة المسرح وكنت أرى نفسي بين هؤلاء المبدعين.

عند انتهاء العرض توجّهت إلى الممثلين كي أسألهم كيف من الممكن أن أصبح ممثّلََا وقبل أن يتحدّث معي كانت يد أحد المعلّمين تصفعني وتقول لي ارجع على الصف عدت ودموعي تغرق وجهي. وأنا أقول في داخلي يومََا ما سأصبح ممثّلََا، لكن كيف بدون أيّ أَدوات أو داعم أو أيّ إنسان يستطيع توجيهيّ لأن كلمة مسرح ليست موجودة في قاموس الثقافة البدويّة وهذا ليس عن جهل وإنما بسبب ظروف الحياة والتنقّل وكذلك الحكم العسكريّ الّذي كان مفروضََا على المواطنين العرب في داخل البلاد. كان الصفع من ذلك الأستاذ هو المحفّز، حيث وقع القرار: أريد أن أصبح أول ممثّل مسرحيّ من النقب يحترف المهنة لكن هذا الحلم أصبح كابوسََا مع مرور الوقت عندما كنت أصارح الناس و الأصدقاء، الجميع استخف بالأمر وضحكوا:

"أنت تريد أن تكون مهرجََا" وأنا أَقول ليس مهرجََا وإنّما ممثّلََا مسرحيََّا وتتعالى الضحكات مع قول مهرج مهرج ومن هنا عرفت أنّني بين أناس لا يعرفون أهمّيّة المسرح وحتى لا يستطيعون أن يفرّقوا بين المهرّج والممثّل. أصبحت مهمّتي أصعب وأكبر أن أنشر الوعي والثقافة المسرحية حتى يتسنّى لي أن أصبح ممثّلََا وأن يتقبّل الناس ذلك خصوصََا أنّنا في النقب قبائل وعشائر وأنا أنتمي لقبيلة كبيرة و عريقة وهذا زاد من صعوبة الأمر فأصبح تحقيق الحلم مستحيلََا إلى أن أصبحت في الصف التاسع في ثانوية رهط على اسم الشيخ سلمان الهزيل. ذهبت يومََا للبحث عن كتاب عن المسرح في مكتبة مدرستنا المتواضعة ولكي أكون صريحََا معكم، أنا لست من روّاد المكتبات وخصوصََا مكتبة المدرسة لكن ذهبت، مكره أخاك لا بطل، أبحث عن شيءٍ يساعدني، لم أجد أَيّ شيءٍ عن المسرح حتى أنّ أمين المكتب استغرب من سؤالي "هل يوجد كتاب عن المسرح؟" لكن القدر قادني إلى "أُسطورة سيزيف" وهو مقال كتبه ألبير كامو، نُشر في عام 1942، ويقدّم كامو في هذا المقال فلسفته حول «العبث»: بحث الإنسان عن المعنى، تتطلع لوحدة العالم ووضوحه، في عالم غير مفهوم، عالم من دون الله ومن دون أي حقائق أو قيم خالدة. ويتساءل هل الإحساس بشعور «العبث» يدفع للانتحار؟ كامو يجيب: «لا، بل يدفع إلى الثورة.» نعم أنا أستطيع أن أحدِث ثورة ثقافيّة من خلال تحقيق حلمي بأن أصبِح ممثّلََا ومن خلال المسرح أستطيع التأثير في مجتمعي، من خلال المسرح أستطيع أن أتحدّث عن أوجاع وهموم مجتمعي ووطني، أن أَكون صوتهم وصرختهم، وبادرت في الحال إلى تشكيل أوّل فرقة مسرح في الصف التاسع لا نعرف شيئا عن المسرح لكن عندنا الإرادة والموهبة وبهما نستطيع أن نهزم المستحيل. هزمنا المستحيل وأسّسنا أنا ومجموعة من محبّي المسرح أَوّل مسرح عربيّ في النقب يتحدّث باللهجة البدوية وأصبحنا لأَوّل مرة من مستهلكي ثقافة مئة بالمئة لمنتجي ثقافة وبعد مرور خمسة عشر عاما أستطيع أن أقول إنّه إحداث ثورة في مجال الثقافة، فقد هزمنا المستحيل وحقّقنا حلم الطفولة. لقد أصبحت ممثّلََا وعندنا مسرح لا بل أصبحت أدرّس المسرح في ذات المدرسة التي أسّست أوّل فرقة للمسرح، أصبح اسم مسرح المهباش رهط من أهمّ المسارح في البلاد حيث حصد العديد من الجوائز في البلاد وخارج البلاد.

ومن أعمال مسرح المهباش الكثيرة والمتنوعة لجميع الفئات العمرية ومواضيعها متنوعة:

"اختي برا الموضوع “ أول إنتاج لمسرح المهباش رهط.

أسماء بعض الأعمال المسرحية:
"شفيق شهيد"
"بند 7"
"بنبروار " المحارب الشرس
"الزير سالم" ساعة ونصف لغة عربية فصحى
"مهنة أبي" مسرحية أطفال
" جثّة على الرصيف"


كاتب المقال: سهل الدبسان وهو مدرّس للمسرح وممثل ومدير تسويق وكاتب مسرحي وأحد مؤسسي مسرح "المهباش" في النقب ومديره السابق، من مواليد قرية اللقية وسكان مدينة رهط. حاصل على لقب أول في العلوم الإنسانية وأنهى اللقب الثاني في الثقافة والإنتاج، متزوج وأب لثلاثة ويطمح لتأسيس أكاديمية للفنون المسرحية في مدينة رهط.

الصورة: من مسرحية "الزير سالم".

سهل الدبسان

مدرّس للمسرح وممثل ومدير تسويق وكاتب مسرحي وأحد مؤسسي مسرح "المهباش" في النقب ومديره السابق، من مواليد قرية اللقية وسكان مدينة رهط. حاصل على لقب أول في العلوم الإنسانية وأنهى اللقب الثاني في الثقافة والإنتاج، متزوج وأب لثلاثة ويطمح لتأسيس أكاديمية للفنون المسرحية في مدينة رهط

شاركونا رأيكن.م