تنامي الوعي السياسي وتطوّر النضال في النقب
التغييرات الاجتماعية والسياسية التي قطع العالم بها شوطًا خلال العقدين الأخيرين كانت لها إسقاطات وتأثيرات كبيرة على مناحي الحياة عامة وعلى المنحى السياسي بشكل خاص. ثورة الاتصالات، سهولة التواصل والاتصال بالشبكة العنكبوتية، سهولة التنقل ووفرة المعلومات المتاحة، تحسن مستوى المعيشة وغيرها كل هذه الظروف أدت إلى خلق فرص التطوير الذاتي والبناء الذاتي بصورة كبيرة وإلى تسهيل القيام بأي عمل سياسي من قبل المواطنين.
نلاحظ أيضا مع هذا التطور أن المواطنين فقدوا الثقة في الحكومات وانتهى عهد الالتزام التقليدي للأحزاب ولمجموعات المصالح. يأتي هذا التغيير المهم في عقليات المواطنين سياسيا بالتوازي مع التغييرات الاجتماعية والسياسية التي ذكرت سابقًا والتي فتحت آفاقا جديدة لتصرفات المواطنين السياسية. أي نستطيع القول ان قوة وتأثير المواطن أصبحت أكبر على الأنظمة السياسية القائمة.
استرجاع هذا الدور الأساسي لقيام الأنظمة الديمقراطية هو خطوة نحو تحقيق النظام الديمقراطي الأساسي الذي وضع مبدأ حكم الشعب أساسه. مشاركة المواطنين في العملية السياسية هي معايير مهم لشرعية النظام القائم ونجاعته. هنالك المشاركة السياسية التقليدية مثلا المشاركة في الانتخابات أو الانتماء لحزب. التطور العلمي والاجتماعي في العقود الأخيرة وبالذات التطور في وسائل الاتصال أدى إلى ظهور أشكال جديدة للمشاركة السياسية التي تلائم هذا العصور والإنسان الذي فيه. العالم الافتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي يعد لاعبا رئيسيا في ظهور أشكال المشاركة السياسية الحديثة. من أهم هذه الأشكال- الاحتجاجات التي تبدأ على مواقع التواصل الاجتماعي وتنتهي باحتجاج على أرض الواقع. المراحل التي يمر بها أي احتجاج قبل ظهوره على أرض الواقع هي كبيرة جدا. يبدأ هذا الاحتجاج عادة بطرح فكرة الاحتجاج وبدء النقاش حولها والحشد لها افتراضيا حتى يتم تحويلها إلى أرض الواقع.
لا شك أن هنالك تفاوت بين المجتمعات في مدى مشاركتها السياسية وفقا لعوامل كثيرة منها؛ الثقافة السياسية، الجيل، المستوى التعليمي والاقتصادي والوضع الاجتماعي للمجتمعات المختلفة.
النقب كغيره من المجتمعات يمر بهذه التغييرات السياسية وأصبحت واضحة على أبناء شعبه وتتأكد حدث بعد حدث. لنبدأ من الفجوة بين أبناء النقب والدولة التي تزداد يوما بعد يوم. سياسات التمييز الموجودة في النقب واضحة وغير قابلة للإنكار. القرى غير المعترف بها وافتقارها للحد الأدنى لشروط الحياة التي تضمن كرامة الناس وتقدمهم. قضية الارض والمسكن في النقب عمومًا وليس القرى غير المعترف بها فقط، البطالة والعنف المستشري وغيرها. كل هذه الظروف يعيشها أبناء النقب منذ سنين. وقد خاضوا نضالًا طويلا ضدها على مر السنوات، ولكن هناك تغييرات في العقد الأخير التي تدل بشكل واضح على تغيير سياسي يحدث وهو مستمر ويتنامى يوم بعد يوم. بدأنا نلاحظ المشاركة السياسية لأعداد كبيرة من المواطنين من عرب النقب وخاصة من فئة الشباب التي تشكل نسبة كبيرة منه تتعدى النصف. منذ أحداث ""براڤر"" بدأنا نلاحظ هذا الانخراط لشباب في النضالات السياسية بصورة أكبر وبطرق حديثة تلائم العصر التكنولوجي الحديث مما أدى لـصدى كبير لأحداث النقب ولحشد كبير لأبنائه في النضالات المختلفة. يأتي هذا التغيير نتيجة للعلاقة الطردية بين الشباب ومواقع التواصل الاجتماعي ومدى مشاركتهم وانكشافهم لها. وفقا للمعطيات الرسمية الشباب هم أكثر المرتادين لمواقع التواصل الاجتماعي بين فئات المجتمع من غيرهم وهذا يعطيهم افضلية في الانكشاف والمشاركة في المسائل السياسية المطروحة على تلك المنصات. يتفاعلون معها بصورة كبيرة او على الاقل ينكشفون لها وهذا اقل التأثير ومن ثم تتم عملية معالجة لهذا المحتوى السياسي الذي ينكشفون له وبناء آراء ومواقف سياسية وفقا لعملية المعالجة تلك التي تتأثر بعوامل ذاتية كثيرة مثل: مدى الاهتمام، المعلومات السابقة حول الموضوع المطروح، الثقافة وغيرها من العوامل.
الاحتجاج الأخير من قبل شباب رهط حول ضاحية 11 هو مثال حي على مشاركة الشباب السياسية غير التقليدية بهدف تغيير سياسة غير عادلة بحقهم. أصل المشكلة يكمن في عدم استقلال المجالس المحلية العربية في النقب في تخطيط الوحدات السكنية داخل منطقة نفوذها وتقديم حلول سكنية للسكان. حيث تقوم ما يسمى ""سلطة توطين البدو"" بتنفيذ غالبية مشاريع الإسكان في القرى العربية في النقب بخلاف الحال القائم في القرى والبلدات اليهودية التي تتمتع بصلاحيات كاملة في إدارة التوسعات السكنية في نفوذها. سياسة ""سلطة البدو"" قائمة على تهجير القرى غير المعترف بها وضمها للقرى القائمة لتحقيق السياسة الجوهرية وهي تركيز أكبر عدد من السكان العرب على أقل مساحة ممكنة من الأرض.
الاحتجاج من قبل سكان مدينة رهط على حقهم في المسكن في ضاحية 11 وضد إعطاء هذا الحق لغيرهم من غير سكان رهط حيث تشهد المدينة أزمة سكنية خانقة في السنوات الأخيرة وعدم توفير حلول للعائلات التي تنتظر حلا منذ عشرات السنوات. يأتي هذا القرار بالاحتجاج بعد قرار ""سلطة البدو"" بتسويق وحدات سكنية لسكان من خارج رهط داخل ضاحية 11 الواقعة داخل منطقة نفوذ بلدية رهط. وبعد استنفاذ اغلب الطرق القانونية من قبل بلدية رهط لمنع هذا التسويق، حيث كان آخرها قرار المحكمة العليا حزيران الماضي، التي شرعنت من خلاله صلاحية دولة إسرائيل و""سلطة البدو"" تسويق وتخصيص قسائم بناء داخل مناطق نفوذ المجالس العربية في النقب لغير سكانها وفق سلطتها التقديرية. من هنا انطلقت شرارة الحراك من خلال مواقع التواصل الاجتماعي حتى تبلورت فكرة إقامة خيمة اعتصام احتجاجية في ضاحية 11. ثم أقيمت لجنة شبابية من أبناء المدينة لتركيز نضالهم السلمي، وبعد ذلك قاموا بالتواصل مع أشخاص ذو خبرة من نشطاء وحقوقيون لمساندتهم وتقديم الاستشارات القانونية. لم يأخذ الأمر كثيرا من الوقت حتى بدأت الشباب بالتوافد الى خيمة الاعتصام وبناء خيم أخرى صغيرة بجانبها. وبالرغم من استصدار ترخيص لنصب خيمة الاعتصام، قامت شرطة إسرائيل على سحب هذا الترخيص بعد ساعات من توقيعها عليه. وبعدها قامت وحدة ""يوأب"" الخاصة باعتقال مجموعة من الشبان وهدم جميع الخيام، ولكن الإصرار والعزيمة شعار الشباب.
طريقة بناء هذا الاحتجاج تنم عن وعي مكمون لدى الشباب الذي بادر الى تنظيم مثل هذا الاحتجاج السياسي وحشد كبير من الناس للوقوف بجانبه بصورة منظمة ومؤثرة. وهنا اختار الشباب رفض تدخل أي حزب سياسي وخاصة الآن في فترة الانتخابات للحفاظ على النضال دون دعايات انتخابية ولمنع نفور الناس إذا ما أصبح كذلك. وإن دل على شيء فإنما يدل بشكل واضح على فهم الشباب للواقع السياسي الذي يعيشونه وطرق التعامل معه بمهنية عالية وبصدق.
تصوير: وليد العبره.