السينما وخلق أسطورة المستعمر
يقولون إنّ التاريخ يكتبه الفائزون، وهذا بالتأكيد هو الحال عندما يتعلّق الأمر بالسكّان الأصليّين في أمريكا أو الهنود الحمر وكيف صوّروا في الأفلام الهوليوديّة منذ بداياتها.
بطبيعة الحال، يحتاج أيّ فيلم سينمائيّ شرير إلى إضفاء عامل الدراما والإثارة على القصّة السينمائيّة. إلّا أنّه خلال المئة عام الماضية، سُجّل أكثر من ٤٠٠٠ إداء سينمائيّ للسكّان الامريكيّين الأصليّين او الهنود الحمر في الأفلام الأمريكيّة بدور المتوحّشين المتعطّشين للدماء.
هذا التنميط، خطّه واعتمده صانعو أفلام الغرب أو ما يدعى «افلام الويسترن» الهوليودية، مع التركيز على عنف السكّان الأصليّين، ويردونه إلى طبيعتهم البدائية، المتوحشة، لتبرير إبادتهم والتنكيل بهم تاريخيًا. مع ظهور السينما في أميركا كفنّ جماهيريّ، ظهرت معه محاولة ل"صناعة عدوّ" مشترك للجمهور المستعمر الأبيض. العدو في هذه الحالة هم أصحاب الأرض الأَصليّين الذين يمثّلهم الهنديّ الأحمر بمظهره البدائيّ الرثّ وصراخه الهستيري وغبائه القاتل. اعتمدت هذه الأفلام على نمط المعارضات الثنائية أو ما يسمى بال «binary opposition».
ماذا نعني بمصطلح معارضات ثنائيّة؟
لهذه الأفلام هدف واضح، وهو تأسيس لصورة بطل الغرب «western» رمزًا للفيلم منذ أوائل القرن العشرين، وهذا من خلال خلق واستعراض معارضات ومنقاد له، أو «الآخر».
صورة بطل الغرب يميّزها الفحولة المفرطة مزيّنة بمجموعة من القيم والمعتقدات حول ما يعنيه أن تكون رجلاً أبيضًا في المجتمع الأمريكيّ الاستعماريّ. استنادًا إلى الأيديولوجيّة الاستعماريّة، كان الدور الأصليّ لبطل رعاة البقر في أفلام الغرب الهوليووديّة هو حماية المستوطنين الجدد وإزالة أي حواجز أمام استيطانهم. أولى تلك العقبات كانت السكّان الأصليّين او الهنود الحمر، الذين تم تصويرهم كما سبق وذكرت على أنهم متوحشون غير حضاريين لتبرير غزو أرضهم وقتلهم. اعتمدت هذه النزاعات السينمائية المعارضات الثنائية التي أصبحت جزءًا راسخًا من سرد هذا النوع من الأفلام بحيث أنّها قدّمت تباينًا بين الحضارة والبرية، بين الخير والشرّ. البطل راعي البقر الأبيض هو الحضارة والخير، بينما السكّان الأصليّين عبّروا عن البرية والشر.
بدأ هذا النمط السينمائيّ بالانتشار عام ١٩٠٣ عندما أخرج «إدوين س. بورتر» فيلمه الشهير (سرقة القطار الكبرى) (1) لشركة توماس إديسون الإنتاجيّة. وعبر مئات الأَفلام، تطوّرت سينما الويسترن وأصبح لها مبدعون ومنظّرون، ومن ثمّ أصبحت لها فلسفتها الخاصّة. أبرز السينمائيّين الّذين عملوا في سينما الويسترن كان "جون فورد"، فنجح هذا المخرج في الارتقاء بصورة راعي البقر "الكاوبوي" إلى مستوى البطل الأسطوريّ الشعبيّ، ومن ثمّ إزالة الانطباع السائد بأَنّه مجرّد مستعمر قاتل. لقد تعرض الهنود الحمر فى غالبية أفلام فورد وغيره من المخرجين لمذابح بشعة وعمليات إبادة مروعة، فلم يكونوا سوى إحدى العقبات التى لا بدّ من تجاوزها ليفرض المهاجرون الأوروبيّون شروطهم الحضاريّة الجديدة.
كيف شرعنت اللغة السينمائيّة إبادة الشعوب الأصلانيّة في هوليوود؟
اللغة السينمائية لعبت دورََا كبيرََا وهامََّأ جدًّا بشرعنة قتل السكّان الأصليّين وخلق تعاطف مع راعي البقر البطل، هذا حصل عبر قرارات تصويريّة فنّيّة منتقاة بعناية مكثفة من شأنها أن توجّه مشاعر المشاهد. بالغالب تأتي هذه الاعتبارات الفنّيّة بمشاهد تتخلّلها معارك بين المستعمر الأبيض والسكّان الأصليّين، يختار المخرج بأن يصوّر البطل الأبيض بلقطات من عدّة زوايا مختلفة؛ اثنتان منهما زوايا مقرّبة، بحيث يتمكن المشاهد البسيط من أن يقرأ تفاصيل وجه المستعمر الأبيض وتعابيره بالكامل والنظر إلى داخل عينيه، وبالتالي، يتعاطف معه كإنسان. بينما على الطرف الآخر من المعركة وبهذه الحالة، اللغة السينمائيّة، نجد هنالك «العدو» وهم السكّان الأصليّين، يختار المخرج بأن يظهرهم دومًا كجماعة، فلا نراهم أبدًا أفرادًا لوحدهم، اللقطات التصويريّة بعيدة دومًا، مصحوبة بأصوات صراخ هستيرية.
لا توجد هناك تعابير وجه للمواطن الأصلانيّ، فهو متوحّش، يهجم ضمن مجموعة كبيرة، بهدف أذيّة البطل وحضارته، "كات"، لقطة للمستعمِر الأبيض وحيدًا أمام جموع متعطّشي الدماء، نراه عن قرب، نحن بالتالي أقرب إليه عاطفةً، تلمع عينيه، وباللحظة التي يُقتل فيها المواطن الأصلانيّ، مصيره دومًا القتل، يختار المخرج أن يصوّر هذه اللقطة من بعيد، بحيث نسمع صراخه الأخير، يسقط ويرتطم بالأرض، ويموت؛ دون أن يترك أثرََا إنسانيََّا لدى المشاهد الأبيض المستعمر.
أسطورة الآخر والسينما الصهيونيّة
لكي تحتلّ شعبََا آخر، وكي تبدو قويًّا بشكل كاف لتحتل أرض وتستبدّ شعب آخر، عليك أن تخلق أسطورة لنفسك. السينما بصورة عامة تخلق الأسطورة إذ ما وجدت. والمجتمع الأمريكيّ كان عليه أنْ يخلق أسطورته على حساب السكّان الأصليّين. اعتمدوا بذلك على سلب شرعيّة الوجود من السكّان الأصليّين، عن طريق التعبير عنهم كأعداء للحضارة (بمفهومها الاستعماريّ) السينما الأمريكيّة اتّخذت لنفسها تيارََا يعتمد على «التناقض بين الإنسان والطبيعة وتأسيس الحضارة» (2). ومن هذا المنطلق، فإنَّ أفلام الغَرب خلقت مفهوم اسطوريّ لمعنى الحضارة الاستعماريّة، تتوافق مع قيم ومعايير البطل المستعمِر الأَبيض راعي البقر فقط؛ وتستثني وحتّى أنّها تستحقر قوانين الطبيعة وحضارة السكّان الأصليّين الذين يمثّلهم الهندي الأحمر بمظهره البدائيّ وغبائه القاتل. وبفعلها هذا، وضعت حجر أساسٍ بمحاولة لتأسيس «صناعة عدو» فى السينما الأمريكيّة. فكما يصف "ألفين بلانتينجا" (Plantinga) فيلم "الويسترن" التقليديّ على أنّه «تجسيدٌ للأيديولوجيّة الأمريكيّة للعنف المهلّل والمشرعَن باسم الأسطورة لأنّه يطهّر المجتمع من "الآخر" من خلال القضاء على الخارج عن القانون الهمجيّ».
من فيلم «تذكرة إلى الغد» ١٩٤٦
في ذات السياق، دعاني هذا الادّعاء إلى النظر عن قرب والبحث في كيف عبّرت السينما الصهيونيّة التي سبقت عام النكبة عن السكّان الأصليّين للبلاد، قبل أن يقوم كيان الاحتلال الصهيونيّ باحتلال وتهجير وتفريغهم من أراضيهم، أي قبل عام ١٩٤٨.
التشبيه الذي سأجريه، أُنشئ بين السينما الأمريكية لأفلام "الويسترن" والسينما الإسرائيليّة من قبل العديد من المفكّرين والباحثين السينمائيّين لعلّ أبرزهم الباحثة "إيلا حبيبة شوحات" (Shohat)، حيث يتردّد صدى فكرة اللقاء في الغرب بين رعاة البقر المستعمرين والهنود الحمر في سياق تاريخ السينما الإسرائيليّة، حينما التقى الصهيونيّ المستعمر الفلسطينيّ أو «العربي» كما يُطلق عليه.
الفيلم الذي سأستند عليه يعود لعام ١٩٤٦، تحت عنوان "تذكرة إلى الغد" مخرجه مجهول، لكنه أنتج من خلال منظمة «النداء اليهودي الموحّد» (UJA) والتي كانت منظمة يهوديّة خيريّة شاملة تأسست في عام 1939.
يأتي هذا الريبورتاج، أو التقرير السينمائي الوثائقي المصوّر بهدف عرض توثيق سريع للنشاط اليهودي في فلسطين في عام 1946، يُفترض أن الأحداث في الفيلم نُقلت وقُصّت علينا من عيون جندي أمريكي قاتل في أوروبا في الحرب العالمية الثانية وجاء إلى فلسطين كسائح.
لم تقم النكبة بعد، والمصطلح الإنجليزيّ المقبول للبلاد بأكملها، حتّى بين الصهاينة، هو فلسطين.
ينتقل السائح من القدس إلى البحر الميّت، ويستمرّ من هناك إلى عين جيف وينتهي في تل أبيب الحديثة. وهو معجَب بعمل الاستيطان الذي يمثّل المستقبل في عينيه، بينما يمثّل العربيّ غير المرئيّ في الفيلم، كعلامة للماضي البعيد.
يُفتتح الفيلم بلقطات من البلدة القديمة في القدس عام ١٩٤٦، الجنديّ الأمريكيّ منفعل لمرأى عينيه، إنّها القدس، ندخل من باب العمود، ليصف لنا ضيق الأزقّة المزدحمة ببائعي الليموناضة كما يسمّيهم ومدخنّي "الأرجيلة"، يلي هذا لقطات لشوارع القدس مع صوته يعلّق «رأيت أيضًا خرفان وحميرََا في منتصف الشارع». يزور المعالم الدينيّة القديمة في بلدة القدس، يتحدّث عن الأساطير الدينيّة لكلّ معلم، ومعلم، حتّى يصل وعلى حدّ تعبيره «فجأة» إلى القدس، الّتي لم يسمع عنها منذ قبل، مبنى الوكالة اليهوديّة «العملاق والحديث»، هذا المبنى تأسّس عقب وعد بلفور عام ١٩٢٢، وبدأت الوكالة اليهوديّة في أيّام الانتداب البريطانيّ كحكومة للمستوطنين الصهيونيّين في فلسطين. فجأة تتغيّر اللقطات، وتوسّع النظر نحو المباني الحجر الأَبيض وما يسمّيه راوي الفيلم الأمريكي «علامات التحضّر»، لا وجود حتى الآن ذكر للعرب، والفلسطينيّين.
بطريقه إلى أغوار أريحا في فلسطين، يعرض الجنديّ لقطات للشارع المؤدّي لطريق المعرّجات من القدس باتّجاه أريحا، مصحوبة بخاطرة تقول «كان هذا أسوأ شارع رأته عيناي، في بقعة الأرض الضائعة هذه، لا يمكنني أن أتخيّل كيف لدولة متحضّرة أن تبنى هنا» (04:22 - 04:35). يلتقي الجندي بعمّال يهود يعملون على تأسيس حفريات لمضخّات المياه في البحر الميّت، فجأة، من أرض قحلاء، ضائعة مهجورة، يرسم لنا الجنديّ صورة عن أرض خضراء يملؤها العشب الأخضر إلى جانب ضفاف البحر الميّت.
يستمر الفيلم بهذا النمط لمدّة ٢٦ دقيقة، بحيث يعتمد على المعارضات الثنائيّة بين الأرض المهجورة المغبرّة والقاحلة وبين الحضارة. ففي واحدة من اللقطات (09:51 - 10:31) حينما يمرّ بجانب أرض يحرثها الفلسطينيّون في طريقه لبحيرة طبريا في الجليل يقول: «لمرّة أخرى أمرّ مصادفةً بالماضي البعيد، حيث الأرض متهالكة ومهملة، حيث استنفذ الرجال الأرض وأعادوها إلى الجمال»؛ يكمل الجنديّ وصفه «للعرب» بقوله إنّهم متواجدون حيث لم يستقرّ اليهود بعد، بأصعب الطرق، ومن خلال أدوات بدائيّة. يصف العرب بالبدائيّين، لا يستعرض حضارة، علمًا أنّه كان هناك مكتبات، مدارس، مدن، صحف، جامعات، إذاعات وغيرها من علامات المدينة والدولة الحديثة الّتي امتازت فلسطين بها دومََا. لكن بهدف خلق أسطورة الدولة الصهيونيّة، ولحثّ الأوروبيّين للهجرة إلى البلاد والاستعمار فيها، كان على المخرج المجهول، والجنديّ الأمريكيّ أن يتبنّوا ويطبّقوا مفاهيم وقيم واللغة السينمائية الأيديولوجية للفيلم "الويسترن" الهوليووديّ الّذي يعتمد على سلب السكّان الأصليّين من شرعيّة الوجود، من خلال الاعتماد على المعارضات الثنائية بين الحضارة والبرّيّة، الحداثة والبدائيّة، الصور المقرّبة لوجوه المستوطنين، واللقطات البعيدة لبدو فلسطين بالطريق من أريحا لطبريا.
الاحالات:
1. Hollow J & Janovich M (1995) Approaches to Popular Film. UK. Manchester University Press.
2. Plantinga C (1998) Spectacles of Death: Clint Eastwood & Violence in Unforgiven. In Cinema Journal 37. No.2, Winter (pp. 65-83) USA. University of Texas.
3. فيلم "سرقة القطار الكبرى"، إدوين س. بورتر - ١٩٠٣
4. فيلم "تذكرة الى الغد"، مخرج مجهول - ١٩٤٦
كاتبة المقال: عايدة قعدان وهي مخرجة أفلام وكاتبة سيناريو.