عن السكان الأصليّين في فلسطين واستراليا
يعيش فلسطينيو الشتات في دول الاستعمار الاستيطانيّ حالة خاصّة من التناقض. إذ بالرغم من كونهم سكان أصليّين في فلسطين، إلّا أنّهم كمهاجرين أو لاجئين في دول أخرى، قد يندرجون ضمن المشروع الاستيطانيّ الذي قام على حطام السكان الأصليّين.
فابتداء من حصول الفلسطينيّ على تأشيرة الدخول من قبل الحكومات والجهات الرسمية، مرورََا بانخراطه في سوق العمل، وحتّى امتلاكه لقطعة أرض (الّتي صودرت من السكّان الأصليّين على يد الجهات الرسميّة المُختلفة على مدى السنين) – يجد الفلسطينيّ نفسه عن غير وعي يساهم في توسيع الفجوة إذ إنّه ينتفع من المنظومة والقائمة، والتي قد ترتبط مصالحه بها.
ففي استراليا مثلََا, كما في فلسطين وفي مستعمرات أخرى، استُهدِمت مجموعات السكّان الأصليّين بهدف إبادتهم واقتلاعهم من أرضهم ومن ثم إنشاء مؤسّسات تكرّس هيمنة المستعمر الأبيض على السكّان الأصليّين وأرضهم من خلال سياسات قمعيّة ممنهجة ضد السكّان الأصليّين.
ليسَ الهدف من هذا الطرح جلد الذات، إذ إنّه لا يصحّ الادّعاء بأنّ الفلسطينيّ كلاجئ أو مهاجر في أستراليا أو غيرها من المستعمرات ينعم بحياة رغيدة كحياة المستعمر الأبيض، ولا يمكن الادّعاء بأنّ الفلسطسينيّ هو المسؤول المباشر عن خلق هذه الحالة، فإنّ مساهمته في تكريس هذه الحالة هي صغيرة جدََّا مقارنة بفئات أخرى من المهاجرين. لكن ما يحتّم علينا التطرّق لهذه المعضلة هي كوننا سكّان أصليّين في فلسطين، نواجه ما يواجهه السكّان الأصليّين في دول مثل أستراليا منذ مائتي عام من محاولات إبادة، تهجير، تهميش، وعنف مؤسساتي مستمر. فلا يمكن التغافل عن أوجه الشبه بين الحالتين، ولا بدّ من المقارنة وطرح أسئلة جوهريّة تتعلّق في كيفية التعايش مع هذه الحالة التناقضيّة بطريقة تقلّل الضرر قدر الإمكان للسكان الأصليّين هنا وفي فلسطين، وحتّى لا نطعن بمشروعنا الذي يرتكز على قيم تحررية مناهضة للاستعمار في فلسطين وفي أماكن أخرى من العالم.
في إحدى المقابلات الصحفيّة عام 2006، قام السفير الإسرائيليّ السّابق في إستراليا نفتالي تامير بإحراج كلٍّ من المؤسَّسة الإسرائيليّة والإستراليّة معََا، حين قام بطرح العلاقة بين الدولتين في سياقها الحقيقيّ، كمشروع استعمار استيطانيّ يرتكز على مبدأ فوقيّة العرق الأبيض حيث قام بتشبيه كلّ من أستراليا واسرائيل ""بالأختَين البيض في اسيا"" وأردف قائلََا بأنَّ الدولتين تتواجدان في آسيا من دون ""المميَّزات الآسيويّة، وذلك لأنّ كليهما ينتميان إلى العرق الابيض”.
ففي الحالتين، ادّعى المستعمر الأبيض بأنَّ هذه الأرض (في فلسطين كما في استراليا) هي أرض مشاع، اذ اعتبر المستعمر البريطانيّ السكّان الأصليّين في أستراليا كجزء من الفلورا والفاونا. ونفى وجودهن كمجموعات بشريّة أصلانيّة كانت قد سكنت المنطقة لأكثر من 65 ألف سنة. وعلى نفس المبدأ، تغاضى المستعمِر الصهيونيّ عن وجود الفلسطينيّين في فلسطين منذ ما يقارب ألف وأربعمائة عام، وادّعى أنَّ أرض فلسطين هي أرض بلا شعب لشعبٍ بلا أرض.
يقوم السكان الأصليّون في أستراليا، كالفلسطينيّين في فلسطين، في إحياء ذكرى الاجتياح والاحتلال البريطانيّ في 26 يناير من كلّ عام. عندما حط الكابتن كوك على شواطئ سيدني، كبداية للاحتلال والاستعمار البريطانيّ، على غرار إحياء ذكرى النكبة في فلسطين كنقطة مفصليّة في التاريخ الفلسطينيّ. من المهمّ جدََّا تشخيص هاتين الحالتين من هذا المنظار، لأنَّه نوع العنف الذي ينتجهه المشروع الاستعماريّ ضدّ المجموعات الأصلانيّة, يحتّم طرق واستراتيجيّات مقاومة معينة.
ففي الحالتين استخدم المستعمر سياسات مشابهة لإبادة السكّان الأصليّين واقتلاعهم من أراضيهم، من مجازر جماعيّة، تهجير، اعتقالات تعسّفيّة، ومن ثم إنشاء نظام فصل عنصريّ، حيث استخدم ""الابارتهايد"" كأداة للقضاء والسيطرة على السكان الأصليّين في المناطق الشماليّة في استراليا قبل انشائه في أفريقيا وفلسطين.وبالتالي نلاحظ أنّ المطالب الذي يطالب بها كلَّا من السكّان الأصليّين في استراليا وفي فلسطين أيضََا متشابهة: حقّ تقرير المصير، الحرّيّة، العدالة وإنهاء الاستعمار.
كيف لنا اذا بعد قراءة الحالة على ما هي أن نقوم بدورنا ومن موقعنا كمستعمَرين في هذه الحالة، اتّجاه السكّان الأصليّين في هذا المكان؟
فلنبدأ بالتعرف على السرديّة الأصليّة لهذا المكان، ولنتعلّم أسماء الأماكن الأصليّة وتداولها. لنتعرّف على اللغات، الحضارة، التاريخ القديم. لنطّلع على كيف قامت هذه الحضارات في استراليا في العيش مع الطبيعة وتسخير الطبيعة لها دون تدميرهاـ، وكيف قامت بابتكار تقنيّات زراعيّة تعتمد على الحيوانات المحلّيّة (مثل الكنغر وغيره)، وتقنيات صيد تحافظ على الأنهر والجداول، تقنيّات منع الحرائق الطبيعيّة.. عن كيف عاشت هذه القبائل والمجموعات على هذه الأرض لأكثر من 65 ألف عامٍ. دون أن تحدث ضرر للطبيعة او الحيوانات، وعن المنظومة الاجتماعيّة وسبل التعايش ما بين القبائل المختلفة.
فلنصغي لمطالبهم السياسة ولندعم حملاتهم بشتى الطرق. نحن كحلفاء علينا أن نعي أن دورنا في هذا السياق يختلف عن دورنا في سياقنا الفلسطينيّ. ليس المطلوب منّا هنا دور قياديّ بل دور ثانويّ داعم.
قد نشأت علاقات تضامنية بين السكّان الأصليّين والفلسطينيّين في استراليا في سنوات السبعينيّات، لكنها وفي السنوات الأخيرة بدأت تطوّر بشكلٍ سريعٍ حيث بات التضامن مع السكّان الأصليّين جزءََا لا يتجَزّأ من الحراك الفلسطينيّ في استراليا. أصبحت أشكال التضامن من قبل السكّان الأصليّين مع القضيّة الفلسطينيّة من التواجد في مظاهرات، مؤتمرات وحتّى التجاوب مع الحملة الدوليّة لمقاطعة إسرائيل – تفرض واقعََا جديدََا يحتّم قواعد جديدة للتعاطى معَ قضايا تقدّميَة وقضايا السكّان الأصليّين، واقع يأبى تهميش واحدة على حساب الأخرى؛ بل يصرّ على رفع الاثنتين معََا. يقول المحاضر والناشط من اصول جومباينغير , Gumbainggir جاري فولي Gary Foley , أحد قادة الحراك لأجل حقوق السكان الأصليّين في استراليا، في مقابلة له أنّه ""التضامن (بين الفلسطينيّين والسكّان الأصليّين في أستراليا) مبنيّ على دعم متبادَل في رفع الوعي وتسليط الضوء على الصراعات الّتي نواجهها"" (كيم بوليمور – 2022 – Red Flag).
أهمّيّة تطوير استراتيجيّة تضامن عابرة للحدود تنبع من أنّه على أرض الواقع، تقوم المشاريع الاستعماريّة حول العالم في دعم وتقوية بعضها البعض. إذ إنّ تراجع أحداها قد يكون له إسقاطات على غيرها وقد يؤدّي إلى زعزعة الوضع القائم. بالمقابل، عندما نتضامن كفلسطينيّين مع قضايا السكّان الأصليّين، فلا نكون قد ساهمنا في رفع الظلم عن هذه المجموعات وحسب، بل نكون قد ساهمنا أيضََا في رفع الوعي عن قضيّتنا نحن كسكّان أصليّين في فلسطين.. مناهضة مشروع الاستعمار الاستيطانيّ في أيّ مكانٍ في العالم يساهم في ضرب أسسِه على نطاق عالميّ، ورفع الوعي بقضايا السكّان الأصليّين في جميع أنحاء العالم.
نورا منصور
مربية وناشطة من عكا، تعمل في الشبكة الأستراليّة لمناصرة القضيّة الفلسطينيّة، حيث تعيش حاليًّا مع زوجها وولدَيها في "نارم" (ملبورن)، أستراليا