ببساطة.. غارق في أصلي!
كما هي عادتي أزور منزل جدي وجدتي القاطنين داخل ""المخيم"" ولن أسمي أو أميزه حتى لا أفكر في وهلة على أنه مكان سكن أجدادي الأصلي القديم حين أخذ راحتي بالاسترسال عنه فهو أخذ من النصيب بما فيه الكفاية من الوصف. بنظرة أنانية بعض الشيء تميل إلى مكان عائلتي الأصلي لتكون سبب عدم تحديد هويته ببداية حديثي. بصراحة أنظر إلى ""المخيم"" على أنه مصدر أزلي لذاكرتي المنعشة بحكايات جدي الجميل بتجاعيده التي تسيدت على وجه برفقة حلم العودة، عن بلدتنا الأصلية في فلسطين التاريخية والأصلية بشعبها الكنعاني، ومن زاوية أخرى أعتبره مجرد ركن حي وتاريخي عن حكاية آلاف اللاجئين تسطرت في التاريخ بكتابات وروايات وقصص عنوانها المعاناة والتشريد. هكذا عيناي تراه بوسع. وهكذا طُبعت صورته بذاكرتي مهما جرى عليه الزمن وتمدن.
وسبق وأن كتبت عن حالته اليوم التي خلقتها عتق سنين بعد ما يزيد عن سبعين سنة على نشأته بهدف إيواء آلاف المهجرين من شعبي من قراهم وبلدانهم فيه، كما قصدت بأسطري الفائتة عنه ألا تنخدع عين الناظر إليه اليوم مهما تحدثت طرقه الرئيسية وتعمر بأحدث الديكورات المعمارية، لأنه سيبقى ""مخيم"" يتوارثه ساكنيه لحين تفكيكه بعد حين يبدل بديار أصلية. وهنا أتذكر ما غنته سيدة الشرق ""أم كلثوم"" وأقلب وأتقلب بكلماتها بما تناسب ما أكتبه:"" هذه ديار أجدادي وحلمهم بين ماض من الزمان وآت، فهي هوائي الوطني. كانت ولا زالت ديارنا القديمة وسأراها وأعيش وأتجول بأركانها في وجداني وذاكرتي مهما لهت بنا الحياة وطال عمر سارقها"".
عذرًا يا سادة. عذرًا"" سيدي وستي"" أمدكما الله بعمر أطول، لقد أضعتكم في طريق حديثي عن سكنكم المؤقت والطويل وأزعجتكم بفلسفتي الزائدة بالكتابة وسأكمل ما تبقى من كلام بتسمية ""سيدي وستي""، إذ وجب التوضيح فأنا متعود على النطق بهذه التسمية، طوعا للهجتي الفلاحية الأصلية الموروثة لي مثلما تكون بلدتي ""الفالوجة"" ذات مساحة ( 38038) دونم تحديدا هي الأصلية داخل وطني الأصل بسكانه الأصليين.
وحين عثرت على ""سيدي وستي"" بأسطري تعثرت بزيارة سابقة أجريتها لدارهما في عتمة الليل في فترة ليست بعيدة، فكانت زيارة مغايرة وتفاصليها: بعد الاطمئنان عن أحوالهما والدردشة والمزاح المتبادل والحديث العادي المتكرر عن يوميات الحياة، تفاجئت بأنهما يملكان وثائق ورقية تعود إلى أوائل وأواخر الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، تثبت أملاك العائلة من بيوت وأراض في بلدتنا التي احتلت عام (...) لا داعي لذكره لأنه معروف تاريخيًا عن نكبة شعب عربي هجر من أرض لتكون لشعب آخر مارق وململم من هنا وهناك ليُعرف فيما بعد على أنه احتلال استعماري، ومن شدة لهفتي لمعرفة تفاصيل الوثائق، استفردت بها لوحدي لدقائق طوال لأتجول بين أسطرها كأني غير مهتم لسماع حكاية كل ورقة من جدي لأترك الأمر لنفسي في المعرفة والاطلاع وربط الأحداث والمناسبات كأني كنت هناك شاهدًا عليها حقًا !
وأشغلت يداي بتركيز عالٍ من عيناي وبإمعان لأسلطن بقراءة جل الورق التي كتبت بخط عربي واضح باليد بحضور لوجو ""حكومة فلسطين"" في أعلى كل ورقة، فكل ورقة بخطوطها المائلة والمتقطعة بفعل السنوات الطوال تحمل رائحة قديمة تكسرت مركباتها العضوية مع مرور الوقت لم أعتاد على شمها ذي قبل. ومن الأهم من ذلك إني كنت حذر في قلب كل ورقة على إختها خوفًا من تقطع أوصالها الهشة بفعل عدم صمودها أمام تآكل الزمن وشدة التخزين، وبعد الانتهاء من قراءتها قمت بتصوير كل ورقة بهاتفي المحمول لأخزنها لدي مؤقتا على الطريقة الحديثة بملف معنون في هاتفي، وأرجعتها فيما بعد إلى مكانها الأصلي داخل صندوق حديدي وودعتها لتكمل مخزنة بجوار ""سيدي وستي"" لتصبح لي بعدها بمشية الخالق، ثم ختمت زيارتي على هذا النحو وتوجهت إلى المنزل لأنام فرحًا بمعرفة أملاك أجدادي وأصولي.
واقتربت نهاية حكايتي، لأن الثرثرة فيها وسردها في سطور عديمة الفائدة لأي قارئ عادي حقيقةً، لأنه لا يهتم بما أهتم به ولا يقدر على حمل قضية حملتها منذ زمن، وما يهمني أن يعرف أن كل ورقة قرأتها عن أصولي هي ذاتي وملكي الآن، وسأورثها لمن بعدي ليشبع مثلي أصالة وحبًا لأرض أجدادنا الأصلية.
وفي النهاية، سأذكر العالم الذي يحتفي في كل عام باليوم العالمي للشعوب الأصلية، بأني الورق العتيق وأصل الديار وأصل القضية وأصل اللجوء.
الصورة: من تهجير أهالي الرملة عام 1948. المصدر: Meitar Collection, The Pritzker Family National Photography Collection, The National Library of Israel."