كالأيتام على موائد اللئام

في كل مرة كنت أكتب أو أتحدث متحسرًا على حال مجتمعنا في السنوات الأخيرة، كنت أردد عبارة أننا نحن، أهل الداخل، كالأيتام على موائد اللئام، لا حليف لنا ولا صديق ولا سند، إسرائيل تتآمر علينا وتسمح لجماعات الإجرام بالسيطرة على حياتنا اليومية، وتضيّق علينا كل يوم أكثر، من قضايا الأرض والمسكن، مرورا بالقوانين العنصرية وتعامل البنوك والمؤسسات الرسمية على اختلافها وصولا إلى التعبير عن الرأي الذي تضيق مساحته يومًا بعد يوم. والقيادة الفلسطينية غالبًا لا تعتبرنا جزء من مشروعها واذا تحدثت عنا، يكون ذكرنا على الهامش، وأقل أهمية من كل القضايا الأخرى، وربما بحق، والدول العربية بحكوماتها وشعوبها، منقسمة بين الذين لا يعرفون بوجودنا أو بوضعنا وقصتنا التاريخية وبين الذين يعرفون عنا ولكن بنظرهم قصتنا هي الأقل أهمية من بين مآسي شعبنا الفلسطيني. والعالم من جهته، يعتبرنا شأن إسرائيلي داخلي، مهما حصل معنا ومهما ساءت أحوالنا. أما قيادتنا، فمهما إنتقدناها، ومهما كانت بعض إنتقاداتنا في مكانها، إلا أنها قليلة الحيلة وتأثيرها حتى لو أرادت، يبقى محدودًا.

ولكني، في كل مرة كنت أقول هذا وأكرر شرح ما شرحته، كنت أعرف أن في حديثي نوع من المبالغة، وأن أحوالنا ليست بالسوء الذي أتحدث عنه، وأن هنالك بعض الأمور التي يمكن القول عنها بأنها جيدة، كمساحة حرية التعبير التي كانت، وأوضاعنا الاقتصادية التي مهما ساءت تبقى أفضل من حال غالبية شعوبنا العربية، وغيرها من الأمور التي تجعلنا نستمر وتجعل حياة بعضنا جيدة أو مقبولة.

ثم جاء السابع من تشرين أول - أكتوبر، وظهرت الحقائق بكامل مراراتها، لنستفيق على وضعية جديدة؛ المجتمع الإسرائيلي بغالبيته، الذي عبر عن مشاعر الصدمة والهلع، اتخذ موقفا جماعيا ضد كل العرب، لنجد أنفسنا في وضعية لم نشهدها من قبل، أو ربما لم يشهدها جيلنا، لدرجة أن هناك من يشبهها بفترة الحكم العسكري. فمع بداية الحرب، خيمت حالة الصدمة على بلداتنا، الصدمة مما حصل في السابع من أكتوبر في غلاف غزة، ومن مشاهد الدمار في القطاع، وربما أشدّها كان جراء حالة كم الأفواه والملاحقات السياسية التي طاولت طلبة الجامعات والطواقم الطبية وغيرهم من الموظفين العرب في المؤسسات الإسرائيلية؛ فضلا عن ملاحقات الشرطة وجهاز المخابرات؛ لتعتقل نساء لا علاقة لهن بالنشاط السياسي، وكبار السن، وفتية، وطالبات الجامعات، وفنانات. 

أكتب في موقع "سيحا مكوميت" (محادثة محلية) وهو موقع الكتروني عبري ذو أجندة يسارية مناهضة للاحتلال وداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني، وللموقع مجلة الكترونية https://www.972mag.com/ موجهة لناطقي اللغة الانجليزية. منذ بدء الحرب أحاول نقل معاناة مختلف فئات مجتمعنا، الطواقم الطبية، الطلاب، رواد مواقع التواصل، الصحافيون، العائلات التي لديها أقارب في غزة، وكل هذه الحالات التي أرصدها وأكتب عنها، تجعلني أتيقن أكثر وأكثر، بأننا كالأيتام على موائد اللئام.. رغم شعوري بالخجل الشديد من الشكوى في ظل ما يعيشه أهلنا في غزة، فمهما كانت معاناتنا كبيرة، تبقى تافهة مقارنة بما يعانيه الأهل في غزة منذ شهرين.

إليكم مثلًا ما روته لي شيرين عساف، وهي عاملة اجتماعية من الرملة التي فقدت شقيقتها وعائلتها في قصف لمنزلهم في غزة: "لعائلتي أسماء وتفاصيل وقصص، شقيقتي إيمان كانت أجمل شيء في حياتي، قُتلت مع زوجها الدكتور رائد مهدي وابنتها الدكتورة سميرة مهدي التي كان من المفترض أن تتزوج بتاريخ 20.12.2023، وأولادهما يوسف الذي تعلم مجال الهايتك وأراد الخروج من القطاع وأحمد طالب الطب الذي أراد أن يكمل مسيرة والده وأعمامه وعمرو ومحمد وعبود والطفلة الصغيرة ميرا، كلهم كانوا من طلبة الجامعات والمدارس، كلهم كانوا في غاية الجمال والرقي والأدب، وشقيق زوج اختي الدكتور باسل مهدي، كلهم قتلوا جراء القصف الإسرائيلي، في المبنى الذي كان يحتوي على شققهم السكنية، وعلى المستشفى الخاص الذي أقامه والدهم قبل سنوات والمخصص للولادة؛ وأتحدث هنا عن عائلة عريقة جدًا، هجرت من عسقلان في النكبة، وقد كان والد زوج اختي ايمان أول طبيب فلسطيني يحصل على الزمالة البريطانية، وقام بإنشاء هذا المستشفى في غزة، رغم الصعوبات، وتمكن أولاده أن يتعلموا ويكملوا مشروعه من بعده، كلهم كانوا مدنيين، لا علاقة لهم ولا بأي فصيل او تنظيم سياسي أو غير سياسي.". 

وتضيف: "اختلطت علي المشاعر مع بداية الحرب، بين إنكار حقيقة أن أمرًا ما سيحصل لعائلتي، وبين الخوف من أن تطالهم الحرب، ولكن كونهم يسكنون فوق مستشفى ومقابل مدرسة، جعلني أستبعد أن يطالهم القصف. لقد رفضوا ترك المستشفى والمرضى وعشرات النازحين الذين لجأوا إليه والهروب جنوبًا، وعندما توغل الجيش واجتاح منطقتهم في حي النصر، لم يبقى أمامهم سوى النزوح نحو الجنوب، لكن الدبابات الإسرائيلية كانت تحاصر المكان. وجهوا نداءات استغاثة لكل الجهات، للصليب الأحمر ولجهات إعلامية وغيرها، لمساعدتهم على الخروج، لكن دون جدوى! فقد كانت الدبابات تمنع الجميع من الاقتراب من المكان. في آخر منشور له كتب الدكتور باسل، شقيق زوج أختي: "لا أحد سيموت ناقص عمر، لكن هناك من سيموتون ناقصي كرامة وإنسانية ومبدأ، خبتم وخابت عروبتكم، وأتمنى ألّا يسامحكم الله". تحدثت مع شقيقتي قبل نصف ساعة من قصف المبنى يوم 11.11، وأذكر أنهم كانوا في حالة يأس تام بعدما فشلت كل محاولاتهم للخروج، وبعد ذلك حاولت الاتصال مرارًا، دون ان أنجح في تلق أي رد!".

في نهاية شهر تشرين الأول - أكتوبر، تم الاعتداء على طلاب عرب من قبل مجموعات من اليهود المتطرفين، ومحاصرتهم داخل مبنى مساكن الطلبة التابع لكلية نتانيا، ومن ثم تم إخراجهم من المبنى عنوة! روت لي طالبة من كلية صفد، فضلت أن يبقى اسمها محفوظا لدينا قائلة: "وصلتنا أحاديث عن اعتداءات قد نتعرض لها في حال عدنا إلى التعليم، وهذا بالفعل مرعب. لا أعرف ما الذي سيحصل في الأيام القادمة لكن الأمر مخيف ولا أريد أن يحصل معنا ما جرى مع طلاب نتانيا، خصوصًا وأن صفد شهدت أحداثًا مماثلة في الماضي، بالرغم من اختلاف الأجواء في البلاد حينها".

وفق ما نشره مجلس التعليم العالي، فإن الجامعات ستعود إلى التدريس نهاية شهر كانون أول - ديسمبر الحالي، ويبدو أن ما سينتظر الطلاب العرب لن يكون سهلًا.

- "لماذا تلبسين اللون الأسود وتبدين حزينة؟ "

- "لا شيء، تشاجرت مع زوجي!" 

– "لا، يبدو أنك حزينة لسبب آخر"

  • "قلت لك انني لست حزينة من أي شيئ، ولا أريد الحديث بأي أمر"

  • "طبعًا، فأنت حزينة بسبب الأوضاع في غزة؟"

  • "لست حزينة، ولا أريد الحديث بأي أمر!" 

هذه المحادثة حقيقية، دارت بين ممرضة عربية من الناصرة ومديرتها من أحدى مستشفيات منطقة المركز، التي تسببت بفصلها عن العمل.

وقصة هذه الممرضة ليست بقصة يتيمة ولا تعتبر الأغرب، فمنذ بداية الحرب تعرض المئات من الموظفين في الجهاز الصحي لمضايقات ولدعوات للمثول أمام لجان تأديبية بعضها انتهى بفصل من مكان العمل، بسبب مواقفهم من الحرب على غزة، أو بسبب تفاعل معين في مواقع التواصل الاجتماعي، حتى لو كان منشورا قديما، أو حتى بسبب عدم تفاعلهم، كما حصل مع هذه الممرضة.

وعند الحديث عن الطواقم الطبية، لا بد من الاشارة الى ان ابناء المجتمع العربي شكلوا نحو 21% من مجمل الأطباء وأكثر بكثير من مجمل الطواقم العلاجية في إسرائيل حتى عام 2021؛ نسبة آخذة في الارتفاع في السنوات الأخيرة؛ ولطالما كثر الحديث عنهم وعن دورهم الهام في الجهاز الصحي في البلاد، لا سيما خلال أزمة الكورونا؛ لدرجة انه في كل مرة يتم الحديث فيها عن أهمية العيش المشترك والشراكة يتم الاستشهاد بالطواقم الطبية.. والآن بعيد نشوب الحرب، كانت هذه الطواقم أول من دفع الثمن!

وما يحدث مع الطواقم الطبية وطلاب الجامعات، ما هو الا نموذجًا لما نراه في مختلف المجالات.

الشعور العام في المجتمع العربي اليوم يؤكد ما قاله الكثيرون في الماضي، والمتمثل بعدم تصديق من أطلق شعارات التعايش والشراكة بأوساط المجتمع اليهودي على مدار سنوات طوال، وأن ما قيل من قبل البعض في الماضي كان مجرد كذبة، فالتعايش الذي أرادوه معنا هو أشبه بذاك القائم بين الحصان وراكبه، وليس المبني على أسس المساواة الحقيقية. 

وفي ظل الهجوم الشرس على مجتمعنا وحالة القلق السائدة لدى فئات عديدة بيننا، وانشغال العالم وبحق بقضايا أخرى، كمأساة غزة، واعتبارنا "مسألة إسرائيلية داخلية"، وإنكار بعض العرب لوجودنا أصلًا، فإن ما علينا فعله هو الاعتماد على ذواتنا للتغلب على هذه التحديات، وأن نفعل كما فعل العديد من الأيتام الذي عانوا في البداية على موائد اللئام، ثم توحدوا وتعلموا وكبروا، ليحققوا ما يريدون.


الصورة: لاورن زيف وموقع "سيحا مكوميت".

بكر جبر زعبي

كاتب وصحافي ومحرر موقع "بكرا"

رأيك يهمنا