شهادة المحاضرة د. وردة سعدة: إقالة التسامح والسلام من الكليّة
ورد إلى مسمعي صوت من الطاولة المجاورة في قاعة الطعام على متن سفينة بالبحر: وردة، تعالي وأنظري، هناك حرب في بلدك"؟
قلت لماغي وكريستيانو وهما زوج تعرفت عليهما خلال رحلتي على سفينة حول جزر اليونان وإيطاليا بلا مبالاة مع لهجة حزينة. محاولة إنهاء تناول فطوري: " نعم، للأسف كل يوم لدينا حرب في بلدي" اقتربت جارتي وأشارت إلى فيديو يظهر جندي يسحب من سيارة إلى الأرض بينما تغطي ملابسه بقع من الدم. صوّرت الفيديو حالا لأنه في أي لحظة لن يكون هناك أنترنت.
وكتبت ما أكتبه أسبوعيا، بل يوميا.. معلقة على الصورة: "إنها صورة قاسية للنظر إليها.. لا يريد أي والد أو أم أن يراها..
إن العنف والكراهية والبطش الذي يعامل فيه الفلسطينيين من قبل المستوطنين وبحماية الجيش دفع ثمنه هذا الجندي".
وتوجهت بكتابتي للجمهور الإسرائيلي كما أتوجه بعد كل حدث يحدث في الضفة الغربية يشرد ويضرب فيه فلسطينيون وأيضا ناشطو سلام إسرائيليون من أصدقائي الذين يأتون للدفاع عنهم. كتبت أكثر من 300 فلسطيني قتلوا خلال سنة 2023 حتى ذلك اليوم.. ذكرت في مقالي إنها صورة قاسية لعملية معاكسة متوقعه إذا استمر هذا الوضع.
لم أعرف حينها أن ذلك الحدث مقتطع من عدة أحداث مروعة وضخمة كانت في ذلك اليوم. السابع من أكتوبر.
ورأيت خلال ثواني صديقة إسرائيلية تتساءل عن أسباب هذا الكم من الكراهية وأيضا اهتممت أن أذكر حينها أن الكراهية تولد الكراهية وأنه لا بد من تغيير هذا السيناريو. منتظرة لحظة إنترنت ترد إلى هاتفي لكي تنشر ما كتبت واطالب دائما: يجب انهاء أسباب العنف. إن العنف المستمر يولد العنف والانتقام يولد الانتقام وفي النهاية هناك أبرياء يدفعون الثمن من كلا الجانبين.
بعد يومين تقريبا عرفت أبعاد ما حصل عندما وصلنا إلى اليابسة وحصلت على اتصال إنترنت كامل وأيضا فتحت التلفزيون لأول مرة في غرفتي بعد أن كنت قد أقسمت قبل صعودي السفينة أنى أريد الانفصال تماما عن الميديا ما دمت في هذه الرحلة.
عرفت بعد يومين مقدار المآسي التي حصلت. في الجانب الإسرائيلي ثم بعدها في الجانب الفلسطيني.
كتبت وكتبت عن الحروب السابقة. عن البطش المستمر وأن كل ذلك لم يحل أي مشكلة، بل أن كل حرب زادت مقدار العنف والعنف المضاد.
لم أؤيد أي نوع من العنف، تكلمت عن الأبرياء الذين دفعوا ويدفعون الثمن يوميا. تكلمت عن الكراهية اللانهائية التي تنتج كل هذا العنف.. وأن الحل هو بإنهاء الاحتلال واستقلال الفلسطينيين ليعيش الجميع بين البحر والنهر باحترام واستقلالية لبناء مستقبل أفضل.
بعد أسبوع رأيت صورة بروفايلي تملأ صفحات الفيسبوك:
"محاضرة في "كلية كي" ترقص على دماء الاسرائيليين" مع رابط لموقع الكلية التي اعمل بها والشرطة. وتهديد بمقاطعة الكلية والامتناع عن المشاركة بفعالياتها، علما أن أكثر من 60% لمن طلاب الكلية هم عربا. لا أعرف من هذه الناشرة لكني رأيت أن زميلتين من الكلية قد شاركتا المنشور على صفحاتهما وهذا بحدّ ذاته إساءه لأدبيات الزمالة. خاصة أني محاضرة مخضرمة في الكلية (قبلهن وقبل رئيس الكلية الجديد) أكثر من ٢٨ سنة عملت كمحاضرة ومرشدة تربوية وشغلت فيها مناصب عدة وساهمت في بناء الكلية بكل مرافقها وجوانبها.
بعد أسبوع من زوبعة نشر ذلك المنشور والإهانة والشتائم والتهديدات وصلني خطاب من رئيس الكلية معلنا إبعادي عن عملي في الكلية ودعوة للجنة استماع للرد على الادعاءات التي وردت في قرار الأبعاد قبل النظر في فصلي نهائيا. لم أستطع قراءة ما ورد في الخطاب لقسوته والاقتباسات التي أخرجت من سياقها لتوقع بي باتهامات باطلة: دعم الارهاب، التحريض على الجيش، الدعوة إلى العنف، والخ. وأكثر ما أحزنني أن الخطاب وجه إلى كغريبة لم تكن يوما بالكلية ولا شاركت في حواراتها ومناسباتها ومؤتمراتها.
وصل خبر إبعادي لأكثر من عشرين منظمة ولشخصيات ذات قامة عالية في البلاد الذين سارعوا لإرسال مكاتيب اعتراض ونفي الادعاءات التي وردت بخطاب الكلية بناء على معرفتهم الشخصية بي كناشطة سلام لأكثر من نصف عمري. بعثوا رسائل اعتراض للكلية موضحين إن الاقتباسات أخرجت عن سياقها لكن عبثا. أبراهام بورغ, رئيس الكنيست سابقا, قال في خطابه للكلية: "إن اقالة د. وردة سعدة هي إقالة للتسامح والسلام".
وكان قرار الفصل نهائيا. خلال جلسة الاستماع أوضحت إني لم أخرج عن جلدي. كتبت ما أكتبه منذ عشر سنوات وما أشعر به. كمربية، كإنسان، كأم، وكباحثة في مجال التربية والاجتماع.
دائما كتبت عن العنف وأسبابهِ وشاركت في نضالات ومناظرات محلية وعالمية تنادي بإنهاء الاحتلال وتحقيق السلام العادل ليعيش كلا الشعبين بحرية وكرامة ووئام. وأنا عضوة فعالة في أكثر من 20 منظمة سلام محلية وعالمية. رفعت مطالبي في كثير من المظاهرات الضخمة والمؤتمرات المحلية والعالمية وفقط قبل شهرين حصلت على جائزة سفيرة السلام العالمي التي استلمتها في مؤتمر في سيئول بكوريا الجنوبية أمام مندوبين من 138 دولة.
أقلت من عملي، تحت عاصفة من التهديدات والإهانات التي وصلت إلى كل زاوية في البلاد. لم تنفع تساؤلات منظمات السلام لرئيس الكلية عن اهداف كلية تؤهل معلمي المستقبل والتي هدفها رفع الكلمة الحرة والتعددية، وانا التي وقفت امام آلاف المتظاهرين مناديه بالحفاظ على الديمقراطية كنت من ضحايا ضعف الديمقراطية التي تكيل بمكيالين والتي اصبحت حله مليئة بالثقوب لا تستطيع حماية من يلبسها.