غياب دور الأحزاب الوطنية بين الشباب وعلاقته بتطور الجريمة
في بداية عملي في مجال الصحافة ونشاطي في مواقع التواصل الاجتماعي، في الكتابة حول القضايا الوطنية، تعرضت لبعض المضايقات من أجهزة الأمن الإسرائيلية (الشاباك أو الاستخبارات). لم أدع لأي تحقيق، لكنهم تحدثوا معي هاتفياً مرتين أو ثلاث مرات ووضعوا إشارة سوداء بجانب اسمي في سجلات الشرطة واستمر هذا الأمر لعام أو عامين، كان كل شرطي يوقفني يكثف من الفحص والتفتيش وطرح الأسئلة، المضايقة باختصار.
لا أخفي أن تلك المحادثات وقتها أخافتني، وردعتني قليلًا، وقد كنت شابًا في العشرين من عمري، لكن بعد ذلك، تابعت الكتابة، ولم أتوقف إلى اليوم. لكن ليس هذا ما أريد قوله الآن، ما أريد قوله هو أنه في إحدى محادثات ضابط "الشاباك" معي وقتها، قال لي بالحرف "أعرف أن ما تكتبه لا يدينك، وأن غيرك يكتب مثله، لكنك تعيش في منطقة ليس فيها أي نشاط وطني، ليس فيها أحزاب، لا جبهة ولا تجمع، وكتاباتك تؤثر على الشباب ونحن لا نريد وجع رأس"، هكذا قال لي بالحرف. لو أن هذه المحادثة كانت اليوم، كنت سأجيبه بطريقة مغايرة وسأكتب عنها بشكل فوري، حيث إنني وقتها سكتت ولم أعرف بماذا أجيبه. وكان يقصد وقتها منطقة قريتي كفر مصر، والقرى الزعبية في مرج بن عامر.
تخيلوا أن أجهزة الأمن الإسرائيلية، بقدراتها وإمكانياتها وقوتها، كانت تخاف من دخول الأحزاب العربية بين فئات الشباب في القرى التي لا تنشط فيها هذه الأحزاب. فهو يعرف، أو هم يعرفون، أن وجود الأحزاب العربية، على اختلافها، بين الشباب بشكل خاص، يعزز الخطاب الوطني بينهم، وبالتالي يرفع من الوعي الوطني لدى هؤلاء الشباب، وأنا أتحدث عن فترة ما قبل عصر الانستغرام، وقبل هذا المد من الوعي بين الشباب بفضل مواقع التواصل الاجتماعي، وقبل هبة الكرامة 2021 وقبل حروب عديدة على غزة وأحداث عديدة في القدس والضفة وقبل كورونا الخ.
بعد ذلك انتقلت إلى العمل مراسلًا في الناصرة. قبلها كنت مراسلًا في منطقة قرى المرج فقط. وفي الناصرة، في السنوات 2011-2013، كانت المنافسة في أوجها بين الأحزاب، وبين شبيبة الأحزاب، بين الجبهة والتجمع بشكل خاص. أذكر الحافلات التي كانت تخرج للمشاركة في مسيرة يوم الأرض أو مسيرة العودة أو غيرها من البرامج الوطنية. أذكر المنافسة بين الأحزاب، أذكر انتقادنا للمظاهر الحزبية في مسيرة العودة أو مسيرة يوم الأرض، للأعلام الحزبية وللناشطين بملابسهم الملونة، كل بلون حزبه، أذكر كذلك انتقادنا كصحافيين لهذا الأمر، وأتمنى اليوم لو يعود بنا الزمن وندعم هذا الأمر، ندعم هذه المظاهر، ونستمتع بالمنافسة الوطنية بين الأحزاب، وبين شبيبتها.
ثم جاءت القائمة المشتركة، فرحنا بتشكيلها، فرحنا بالوحدة التي حلمنا به، وتفاخرنا بتحقيقها 13 مقعدًا.. ألا أن المنافسة بين الأحزاب بدأت تتراجع شيئًا فشيئًا. فبعدما أصبحت كلها في نفس الإطار، لم يعد للمنافسة بينها أي طعم ولا شيء يشجع الناشطين في هذه الأحزاب على المنافسة. عادت المناكفات بعدها في قضية التناوب بعد استقالة النائب باسل غطاس بسبب المحاكمة عقب اتهامه بإدخال هواتف للأسرى، وبعد ذلك رأينا مناكفات وجدالات أيضًا في فترة الانتخابات، ثم في كل الجولات الانتخابية التي لحقت، ثم بانفصال الموحدة، ثم بانفصال التجمع. ولكم أن تتخيلوا كل هذه المناكفات التي لم تنجح بإعادة المنافسة الوطنية بين الأحزاب. فالموحدة التي انفصلت أولًا، أعلنت أصلًا أنها تركت الخطاب الوطني وأن خطابها يعتمد بشكل أساسي على المواطنة. أما التجمع، فانفصاله لم يكن منذ فترة طويلة، والنقاش الذي كان استمر إلى يوم الانتخابات، ثم بعد ذلك ركدت المياه من جديد وركد معها النقاش السياسي وركد النشاط الشبابي من جديد.
بلا أدنى شك، إن القائمة المشتركة كانت علامة فارقة في العمل السياسي العربي في الداخل، غير أن تشكيلها أعاق المنافسة بين الأحزاب وصنع حالة ركود مخيفة في الشارع؛ كما أفقد تفككها ثقة قسم كبير ممن تبقى من الناس بها وبالعمل السياسي العربي بشكل عام. وكل هذا قلّص دور الأحزاب في الشارع طبعًا.
إن انخراط الشباب بالنشاط الوطني هو الحل الوحيد لإنقاذ مجتمعنا وانتشاله من أزماته؛ فالوعي الوطني هو الدرع الواقي لأي مجتمع من فتن الإجرام وضعف النفوس والبحث عن المال السهل وحتى من فتن أخرى لا تقل خطورة، كالأسرلة مثلًا في مجتمعنا. فمنطقيًا، لا يمكن لشاب واعي وطنيًا أن ينخرط في عالم الاجرام، ولا في أي مجال سيء يمس بمجتمعه، ولا في الأسرلة طبعًا. فالذي يفهم ما يحصل ويعي ظروف شعبه والمؤامرات التي تحاك ضده، يفهم ضمنًا ضرورة رفض الضلوع في أي من هذه العوالم.
إن ما وصل إليه مجتمعنا العربي الفلسطيني في داخل الخط الأخضر، من انتشار للجريمة المنظمة بهذا الشكل، تتحمل مسؤوليته في الأساس دولة إسرائيل بمؤسساتها وأدواتها، لأن الوصول إلى هذا الوضع المُخيف لم يكن محض صدفة، إنما جزء من سيرورة مستمرة منذ سنوات؛ بل هناك من يؤكد أنها بدأت في عام 2000 بعد انتفاضة القدس والأقصى. ربما هي صارت أكثر كثافة وسرعة منذ ذلك الحين ولكن الحقيقة أن المخطط لتجهيل وإضعاف المجتمع العربي هو أقدم من هذا بكثير ومستندات الشاباك التي نشرت قبل فترة وجاء فيها أنه في أحد الاجتماعات بسنوات السبعين، بين جهات أمنية مختلفة، تم الحديث عن طريقة رفع الجهل في المجتمع العربي ومنعه من التقدم. ولكن كل هذا لا يعني أن يتراجع دور الأحزاب بهذا الشكل، حتى مع كل المحاولات لتوسيع الفجوة بين القيادات والمجتمع وحتى مع كل الفتن التي حصلت وتحصل. فللأحزاب دور كبير، بين الشباب بشكل خاص، وعندما يتراجع دورها، يتراجع الوعي الوطني بين الشباب، وتراجع الوعي الوطني بين الشباب يعني بالضرورة فتح المجال أمامهم للانخراط في أمور سيئة ومجالات خطرة، وتراجع قدرتنا كمجتمع على مواجهة المؤامرات القادمة، وما أكثرها!
لا أعرف ما الذي ينتظر مجتمعنا في السنوات القادمة، وأعترف أن مواقع التواصل الاجتماعي، والانستغرام بشكل خاص، تساهم في السنوات الأخيرة برفع الوعي الوطني بين الشباب، ورأينا هذا في هبة الكرامة 2021 وفي أحداث سياسية أخرى، لكن هذا الأمر مع كل أهميته، يجب أن يكون عاملًا إضافيًا مرافقاً لعمل الأحزاب، وليس بديلًا لهم. لذا، فإن ما ننتظره من الأحزاب العربية، والقيادات بشكل عام، هو أمر هام وضروري جدًا - العودة إلى الشارع، إلى الشباب. وإن تأخر الوقت قليلًا، لم يفت الأوان بعد. قد تكون خطوة إعادة بناء فروع الشبيبة التابعة للأحزاب، على اختلافها، وتنشيطها، في البلدات العربية، هي الخطوة المجتمعية الأهم في هذه المرحلة لإنقاذ مجتمعنا من هذا السرطان النقيلي الذي يتفشى في داخله والذي أصبح حاضنة للجريمة المنظمة. وهذا ربما ما يتصدر أولوياتنا اليوم، بعد أن تراجع طموحنا بشكل كبير، وأصبح ما نحلم به هو أن تتوقف الجرائم، ومن ثم باقي القضايا. علينا أن نستعد ونعد المخططات، لأن تحدياتنا كبيرة وخطيرة كأقلية أصلانية في هذه البلاد، وكجزء من الشعب الفلسطيني عامة.