ملتقى في حب فلسطين - كنفاني يدق جدران قلوبنا ويشعل لهيب رحلتنا!
على أوتار محبة فلسطين التقينا في ملتقى فلسطين السادس للرواية العربية، من غزة إلى رام الله ثم جنين حيث يقبع قلب كل فلسطيني، ومنها إلى قلقيلية، وخليل الرحمن وبيت لحم ثم عودة ووداع لذات المكان الذي استشهدت فيه شيرين أبو عاقلة، هنالك كان ختام رحلتنا في ربوع الوطن المسلوب فلسطين.. في خمسة أيام رأيت نبض فلسطين، ووعيت إلى خارطة فلسطين التي لا نراها في الكتب، وهي خارطة تنحت خطوطها في القلب بينما الروح تنزف وتحلق في آن معا..
لم يكن ملتقى فلسطين للرواية العربية بندواته المميزة والغنية بالمداخلات والنقاشات حول الرواية العربية والرواية الفلسطينية محصورا في مكان بعينه، بل كان ملتقى فلسطينيا خالصا وغارقا في حب فلسطين وأرض فلسطين، مكانا وحضورا وأرواحا هائمة في حب فلسطين، تنقلنا في اليوم الأول في رام الله ما بين ضريح الشهيد ياسر عرفات وقراءة الفاتحة، إلى متحف محمود درويش حيث أعلن انطلاق فعاليات ملتقى فلسطين للرواية العربية، وتتويجا لذكرى رحيل الكاتب والصحفي غسان كنفاني ومرور 51 عاما على مسيرته النضالية والأدبية والابداعية، ملهما وحاضرا كنفاني في رحلتنا المميزة والغنية بالحوارات الدائمة سواء في القاعات، أو طرقات مدن فلسطين، أو حتى في وقت المساء والصباح، كانت الساعات متصلة وطيلة الوقت هنالك ما يأخذك في رحلة روحية ما بين قلوب المشاركين، وما بين ما تلتقطه وتسمعه عينيك و روحك.
بدأت رحلتنا في اليوم الثاني في الثامنة صباحا إلى مخيم جنين حيث يعتبر المخيم أيقونة للنضال الفلسطيني المنفتح على قلب الحرية، توجهنا وكان وفد الكتاب والأدباء العرب يضم مجموعة من الروائيين والنقاد والكتاب والكاتبات من المغرب وتونس ومصر والأردن، وعمان، واليمن، وفرنسا وبرلين، وتشاد.
جنين - مقابل مسرح الحرية
في الطريق إلى جنين
رأينا فيما يرى النائم ربوع فلسطين تسير الحافلة بين الجبال والطرقات الواسعة كما أوسع الله أراضيها إلا أنها تضيق بأصحابها بفعل المستوطنين والقوة العسكرية الغاشمة التي تجثم على رأس كل جبل لتضع نواة مستوطنة لتنهب مزيدا من الأراضي الفلسطينية، وتصادر الأراضي بنهم الغول في ميراثنا الشعبي لتبتلعه بعد وقت قصير وتقول هل من مزيد...! بين شهقات الرفاق ما هذا الذي يلتهم الأخضر واليابس ويضع الفلسطينيين في سجون صغيرة وكبيرة على امتداد وطنهم، لم يكن مفاجئا للعربي فقط بل كان مفاجئا لي كفلسطينية مسجونة في غزة منذ أكثر من 15 عاما لم أرى وجه بلادي الحقيقي بفعل حرماننا من الحصول على تصاريح اجبارية من المحتل كي نزور بلادنا...!!
تعلق في الذاكرة أسماء قرانا سبسطية قرية أثرية، اجزم، وجبع، وعين غزال التي أبادها الاحتلال الإسرائيلي فيما سبق، مقبرة الجنود العراقيين في وقت الأصالة العربية لازال علم العراق وجثامين الشهداء نابضا بالتاريخ والبطولة في مكان ما في طريقنا نحو جنين، قرية بورقية، سيلة الظهر، السيلة الحارثية، الفندقومية، عجة وعنزة، وحجة... هي ناره وهي جنتنا كل قرية إنما نشم فيها رائحة البلاد البعيدة التي ربما لم نرها، ولم نتحسس ترابها لكنها تبقى خالدة في عقولنا وتلتصق بروائح عطرنا، تبقى رغم كل صلافة الاحتلال وما يصنعه على أرض فلسطين من نهب وسرقة وقتل واغتيال للأماكن كما الشهداء، فالبيوت أيضا تقاتل في فلسطين، والقرى عنيدة كما هو عنادنا الفلسطيني.. !
ما بين غزة وجنين رفة قلب
أصبحنا على البدايات الأولى لنشاهد كلمات ستبقى محفورة للأبد "الطريق إلى جنين شيرين أبو عاقلة حين تكتمل الصورة" ناصعة كبياض الثلج رغم كل الحواجز التي تتمادى في قلب الأراضي الفلسطينية ..الطريق تمتد من رام الله إلى جنين لأكثر من ساعتين ونصف في طريق الذهاب، ومع اغلاق الحواجز الإسرائيلية أمام الفلسطينيين قد تمتد لأكثر من ذلك، وقد يحرم أي مواطن من الوصول للمخيم أو المدينة بفعل هذه الاغلاقات المستمرة، توجهنا إلى محافظة جنين، ومن ثم انتقلنا إلى مسرح الحرية حيث تغدو الحرية حلما قريبا لأطفال وأهل المخيم، وهي قريبة حد الوريد من قلب وروح مؤسسيه والقائمين عليه فهم يحدثونك وكأنهم ملائكة السماء التي تتوق للأجنحة، يصنعون هذه الأجنحة لبنات وأبناء المخيم ليحلقوا عاليا حيث الحرية هي حلم كل فلسطيني، يصنعون شيئا من اللاشىء يحفرون على الجدران صورا ورسوما، ويستقبلون كل الداعمين والمؤازرين فهنالك حياة تروى من قلب الموت، والمفارقة أني عرفت أكثر عن مترو غزة في جنين.. وهو عرض مسرحي تجريبي حيث جسد فيه الممثلون الحلم على المسرح...!!
انتقلنا سيرا على الأقدام بين أروقة المخيم، لنشاهد بأم أعيننا ما تبقى من آثار دمار شهداء المخيم قبل فترة بسيطة لا تتجاوز الشهر، فما بين ركام السيارات المدمرة إلى الشوارع التي بقرت بطونها، تماما كما غزة رأيت وشعرت بألم كبير يضيق به صدري، فما عشته في غزة رأيته في جنين، كما كنا في هذه الجولة السريعة نستلهم القوة والصمود ممن آثرنا أن نكون بينهم مساندين محبين بعد ما حدث ولازال يحدث في المخيم، ما أجملك يا جنين بأهلك وأطفالك وشيوخك ونسائك، تقدمنا في سيرنا ورأينا وجوه الشباب الناصعة بالصلابة والدماثة، الطفلات العائدات بالزي المدرسي يرفعن إشارة النصر فور سماعهن أنك من غزة، أن تشعر أنك بين أهلك رغم الحواجز والمسافات، أن تشعر بفلسطينيتك الحقيقية هوية وقلبا وروحا في طرقات المخيم هو شعور افتقدته من سنوات طويلة، إنها ذات الحكاية نعم فالمخيم هو أصل الحياة الفلسطينية ويبقى..
انتقلنا بعد عدة ساعات إلى قلقيلية ووقفنا طويلا أمام الجدار العازل والذي يمنع مئات المزارعين من الوصول لأراضيهم، فهنالك ما يقارب من الــ 36 ألف دونم على الجانب الآخر للجدار العازل حيث تتضاعف معاناة المزارعين في الوصول لأراضيهم ومصدر رزقهم، ناهيك عن الحواجز التي تضاعف معاناة السكان ..!
في طريق العودة من جنين عدنا لنتبادل جميعا كل ما نعرفه من أسماء قرى امتدت في طريق ذهابنا إلى جنين، وجالت في خاطري تلك السجون الصغيرة الكبيرة التي تحيط بكل مدينة وقرية ومحافظة فلسطينية في كل ربوع الوطن، ليكبر سجن غزة في مخيلتي أكثر وأكثر فما بين غزة إلى جنين يكبر القلب بوجعه وقهره وأنياب السجان الإسرائيلي تنغرز في أرواحنا جميعا في آن معا...!
في حضرة خليل الرحمن
في خليل الرحمن ترى وتشاهد بأم عينيك ما لم تسعفنا الكتابة بعد لقوله، يبدأ مشهدنا بساعتين بالحافلة من رام الله إلى الخليل، ومرة أخرى نرقب المستوطنات التي تجثم على صدور الفلسطينيين على امتداد الطريق الطويل، الحواجز في كل مكان تبدو الحواجز أكبر مما نراها، فهي لا تمنع أجساد الفلسطينيين بالتنقل الحر في أرضهم بل أيضا تمنع أرواحهم من احتضان أحداها الأخرى، فدوما هنالك حاجز وشبك حديد وسلاح مسلط على رأس الفلسطيني حيثما تواجد، هنالك دوما تهديد في مكان ما، دورية متمترسة في مكانها أو أخرى على قول أهل البلاد "حواجز طيارة" فجأة تقمع وتلاحق روحك لتمنعها من أي شيء، فقط مزيد من القوة المتغطرسة، لكن الروح أكبر من كل هذه الحواجز، نمر في طريقنا سيرا على الأقدام بعدة حلابات كما نقول بالفلسطيني، وتفتيش وطلب هوية حتى نتمكن من السير في طريق المسجد الابراهيمي، تتقافز قلوب الرفاق إننا نقترب رغم بشاعة هذه الحواجز الإسرائيلية المنتشرة في كل مكان من المسجد. وفي الباحة القريبة منه.
رأينا فيما يرى اليقظ بيتا فلسطينيا يطل بشبابيكه الجديدة على ساحة ممتلئة بالحواجز، لتقول إحدى القاطنات هناك: "هذا شباك بيت عادي تحول بفعل المستوطنين والقوات الإسرائيلية لباب البيت وقد صنعوا له سلالم حديدية كي يصبح بابا للبيت"، فالباب الرئيسي يقطع في الجهة الأخرى والشارع بأكمله وضع المستوطنين يدهم عليه، فما كان من أهل المنزل إلا أن يلجأوا للخروج من شبابيكه كل يوم إلى أعمالهم وحياتهم، رغم أنهم أيضا يمرون مرة أخرى بالعديد من الحواجز التي تقطع القلب والروح قبل أن تنهك الجسد، نمر ببوابة أخيرة وصولا للحرم الابراهيمي، تقفز الجميلة صاحبة رواية عشتار حياة الرايس وتتلهف لتتوضأ وتصلي، تركض أمامي كفراشة وصلت لنقطة الضوء ألتقط لها العديد من الصور، هي فرحة برؤية المسجد بينما الدموع تغالبنا لكل ما مررنا به وشاهدناه وشعرنا بالمعاناة والقهر لأهل الخليل في عدة كيلومترات قليلة، هذا حال المدينة اليومي، نعم إنه كذلك.!!
انتقلنا سيرا على الأقدام لعدة أماكن منها مكتبة رائعة لشابة فلسطينية كافحت لإبقائها منارا، وهي تشع نورا وقوة وتبعث على الكثير من الأمل، انتقلنا للمشاركة في إحدى ندوات ملتقى فلسطين للرواية العربية في بيت لحم بعدها مباشرة، ومر بعضنا بكنيسة المهد وساحة المبعدين الفلسطينيين، في كل ركن حكاية وصورة، وفي كل ركن شهداء وشهيدات تحلق أرواحهم لتحمينا من الحواجز التي أكلت قلوبنا، ونعود لنحث الخطى عائدين إلى رام الله.
في الطريق إلى رام الله كنا نعيد المشاهد في حاضرنا أفرادا وثنائيات إنه اللامعقول، إنهم لا يسرقون الأرض فقط، إنهم يسرقون منا التاريخ والثقافة والأماكن التاريخية يحولونا لثكنة عسكرية، المسجد من الداخل ممتلئ بالكاميرات هل وصل الاحتلال بعنجهيته لمراقبة المصلين، من الذي قتل المصلين وهم بين يدي الله إنه متطرفهم، وهم من يعيثون فسادا في مقدساتنا وأروقتنا لكنهم لم يفلحوا إلا بخلق مزيد من الصلابة والتشبث بالأمل، فيوما ما ستزول هذه الحواجز المعدنية، وتفنى أسلحتهم وقواتهم المدججة طالما هنالك طفل فلسطيني لازال يحمل الحلم وعينيه ترنو للقدس، وسيدق جدران الخزان ذات يوم قريب!
ملتقى الرواية ملتقى في حب فلسطين
عدنا في اليوم الأخير إلى جنين حيث بدأنا، وعدنا للمخيم بعد انتهاء ندوة كان لي فيها مشاركة حول روايتي الأولى "الحب لك الحرب لي"، والمفارقة إنني من مخيم رفح وتربيت على شعار من رفح لحتى جنين.. وجدت نفسي في جنين بعد فترة قصيرة من العدوان عليها، وأنا الآتية من غزة المحاصرة والموجوعة، وأتحدث في قلب جنين عن روايتي التي بطلتها فتاة فلسطينية عاشت مجزرة الجمعة السوداء في الأول من أغسطس في مدينة رفح، والتي يصادف ذكراها تسعة سنوات في مثل هذا اليم..!! حرية اسم بطلة الرواية حلقت بحبها لحبيب تألق في رسائل الحب التي كتبتها أثناء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في العام 2014، حرية ولدت يوم اعتقال والدها الذي بقى في الاعتقال سنوات عمرها ولم تحتفل يوما بعيد ميلادها لما يحمله من ألم الاعتقال، تعيش عام واحد مع والدها أسمته عام الفرح، ثم يغيب الوالد، ويأتي عدوان آخر على قطاع غزة، وتشاء الأقدار أن تعيش حرية عدة أيام رأت فيه ما رأت ولكنها ظلت تكتب رسائل الحب في عقلها بينما هي تنزف بفعل اصابتها ومنع أي اسعافات لدخول حي الجنية برفح حيث عاشت هول مجزرة الجمعة السوداء، عدة أيام وهي على قيد الحياة/الموت حتى رأت وجه والدها وقد نبت لها جناحان فغدت ملاكا يهيم بين الحب والحرب فكانت رواية الحب لك الحرب لي..!!
وعود على بدء إنها رحلة روحية ما بين شرايين القلب لجسد واحد اسمه فلسطين، وعروبة لازالت تضخ الأمل والحلم فينا، تحملنا أحلامنا إلى رواية قريبة يكون النصر فيها حليف فلسطين، فمهما تمادى المعتدى لن يكون هنالك أثر له بعد زواله... إنه ملتقى فلسطيني عربي بامتياز، يأخذ الحلم على محمل الخلود... قد تعاني كل مدينة في صخب أو في صمت لكنها تمارس فعل الحياة، وفعل النضال بطريقتها، إنه احتلال واحد ونحن أهل البلاد.. هذه المرة لم أكن سائحة في بلدي، بل كنت ابنة البحر وابنة فلسطين التي سنعود لها يوما على مرمى حياة آتية لا محالة.
الحكاية، ليست أن ترويها للأجيال ونحكيها للناس فقط، بل أن نكتبها كما ينبغي أن تكتب، ونرسم حدود الكون باتساع عمرها، تعلو كلمات غسان كنفاني متألقة كشعار لملتقى فلسطين للرواية العربية الذي تنظمه وزارة الثقافة الفلسطينية، ولنعيد سرد الحكاية/الرواية.. نعم ملتقى الرواية بعامه السادس للرواية العربية أصبح ملتقا في حب فلسطين ورؤيته تحققت ليكون حاضنة أدبية وفكرية رائدة تستحق الاحتفاء والفخر.