القتل الحضاري
يحاول هذا المقال تقديم بعض التفسيرات النّفسية لظاهرة العنف والجريمة متطرقًا إلى انجراف كلّ من الجُناة والضحايا إلى هذا العالم. ويأتي في نهايته على بعض المقترحات التي من شأنها أن تسهم في زيادة الوعي بواقع العنف والجريمة والحدّ منهما.
في كتابه عن "الطوطم والتابو"، يسهب فرويد في عرض دراسات وأبحاث أنثروبولوجية عديدة حول القبائل البدائية والتي تعيش بمعزل عن حضارة البشر اليوم. تتميّز هذه القبائل بنظام "الطوطمية" والذي يمثّل الدين والتنظيم الاجتماعي، والتي يرجّح فرويد تأثيرها على النّفسيّة البشرية والتّشابه الّلافت بينها وبين الاضطرابات النّفسيّة خاصّة العصاب الوسواسي. تُظهر هذه القبائل تعدّد وتنوّع الطقوس التطهيرية إزاء مرتكبي الخطيئة، فيما قد تختلف الخطايا باختلاف "طوطم" القبيلة وقوانينها، إلّا أنّ ما يهمنا معرفته أنّها مبنيّة على تطبيق النّظام والقانون.
يسلّط فرويد الضوء على حقيقة وجود الدّافع العدواني كواحد من الغرائز الطبيعية لدى الإنسان، وتحضر هذه الغرائز بشكلها البدائي لدى القبائل النائية عن الحضارة. إذ تدفع غرائز الموت بالفرد إلى تجنيد قواه العضلية والعقلية والتي توجّه سلوكه نحو القتل الذي يجلب له الطعام، أو المأوّى، أو النّجاة، أو أيًّا من تلك المآرب التي تُحافظ على بقائه، وهذا البقاء مدفوع بدوره بغريزة الحياة، وهي تدفعه لحفظ كل ما يجعله يحافظ عليها. إذ كانت حاجة القتل عند الإنسان البدائي ضرورية لبقاء جنسه، بدايةً من استخدامه لقوتّه العضليّة وانتهاءً بقوى السّلاح. ومع ذلك، تُظهر دراسات القبائل البدائية أنّ الفرد الذي كان يقتل بهدف الحاجة؛ مثل الدفاع عن بقاء جنسه، كان يعاقب نفسه بالالتزام الى طقوس ومحظورات محدّدة كأن لا يقرب زوجته لمدّة من الزمن حتّى يطهّر نفسه من تلك الحادثة.
بالنّظر إلى الإنسان الحضاري، فتتنوّع لديه أسباب القتل وأساليبه. ومع ذلك، نعلم مجددًا أن سلوك القتل لديه مندفع من نوازعه الطبيعية، وكثير من الأشخاص يقترفون الجرائم بسهولة نظرًا لتلك النوازع. لذلك، لو لم تكن هناك نوازع فاسدة، فإنه لم يكن هناك حاجة لحظر الجرائم. ومن ثم، يمكننا أن نستنتج أن الحظر القانوني للجرائم ليس نفورًا طبيعيًا من الجريمة، أي فعل القتل، وإنّما اعترافًا بالضّرر الذي تسبّبه تلك النوازع العدوانية على هيكل المجتمع. وبناءً على ذلك، فإن القوانين تفرض حظرًا قطعيًا على السّلوك الضّار الذي قد يفعله بعض البشر نتيجة اندفاعهم لغرائزهم بناءً على التّنظيم الاجتماعي الحضاري. نعلم إذًا أن العنف قائم بالفطرة، وأنّ رغبة القتل ليست مستهجنة، ومع ذلك، يظل فعل القتل والجريمة من السلوكيات التي يعاقب عليها الفرد بدائيا كان أم حضاريا. إلّا أنّ ما وصل إليه الحضاري اليوم من تشكيل عصابات تتخذ من الجريمة مهنة معيشية، يثير قلقًا وتساؤلًا حقيقيًا حول الأسباب التي تؤدي بالإنسان الى تردّيه لهذا الشكل البدائي المركّب.
قد يساعدنا الدّليل التّشخيصي والإحصائي للاضطرابات النّفسية والعقلية على فهم السلوكيات المنحرفة للمجرمين، وقد يعاني أيًّا من الجناة من اضطرابات في الشخصية أو العقلية أو السلوكية أو حتى أمراض مشتركة. إنّ وجود الأعراض الجليّة للاضطرابات من شأنها أن تفسّر السلوك وتتوقّعه في المستقبل. لذلك، من الصّعب التّصديق أنّ المنخرطين في عالم الجريمة لا يعانون من الاضطرابات النفسية والعقلية. ومع ذلك، يمكن للمجرم أن تدفعه أسباب يعتقد في نفسه أنّها تبرر ما يفعله، وبذلك يطوّر سلوكًا قهريًا يمنعه من العودة عن انخراطه. قد يكون السّلوك اضطرابًا؛ مثل أن يتلذّذ بفعل الجناية (كالقتل، أو التعذيب، أو السرقة، أو غيره) أو أن يدمن المَغنم المجني (كالمال أو المخدرات أو غيره)، أو يكون سلوكًا متعاقبًا (كأن يدفع ثمن تورّطه غاليًا)، أو أن يكون ملاحقا دون سابقة أو دون سبب من قِبل المجرمين أنفسهم. لذلك، قد ينخرط الأفراد مرغمين في عالم الجريمة، فيصبحون ضحايا مجرمين. وفي ظل غياب العدل وتطبيق القانون الذي من شأنه أن يوفّر الحماية للفرد، يصبح الفرد فيها وحيدًا أمام مواجهة موازين القوى، فمن البديهي أن تنتفض غرائز الموت لديه للإبقاء على جنسه. إنّ فشل الدولة في استئصال الجريمة المنّظمة تمكّن من انتشار نفوذها والهيمنة، ويؤدي هذا إلى تشويه للواقع الآمن فتنشأ حالة ذعر طارئة في أوساط المجتمع. تقوم حالة الطوارئ بزعزعة المبنى الاجتماعي وفكّ أواصره وتشغيل آليات الدّفاع عند أفراده معتزلين بذلك حالة التعاضد الاجتماعي. لذلك، تسود حالة يأس وإحباط جماعية، يلوذ الأفراد بالفرار منها عن طريق انكفائهم على أنفسهم والاكتفاء بأدنى الحقوق، معزّزين بذلك شعور القهر المكتسب والدّونيّة، ومتغافلين عن حقيقة أنّ الدولة ضليعة فيما يعايشونه من إجحاف.
يمكن أن نرى شاهدا على هذا التّفكك في استطلاع عام أجري على عيّنة تمثيليّة للمجتمع العربي (2022)، حيث أظهر المستطلَعون إجماعًا على أنّ مسؤولية الفشل في التعامل مع آفة العنف والجريمة، تقع على أسباب اجتماعية ثقافية واقتصادية مقابل الحكومة والشرطة. كذلك أظهر هذا الاستفتاء فجوة بين المستطلعين وبين الأحزاب العربية والمؤسسات السياسيّة حول هذه المواقف. حيث ترى تلك الأحزاب والمؤسسات أن السياسات الحكومية تشكّل عاملًا أساسيًا في تفشي آفة العنف والفشل من حدّها حيث يسهل تحت ظلها انتشار السلاح في المجتمع العربي، وغضّ الطّرف عن عصابات الإجرام، بل حتى التواطؤ معها. تثير هذه الهوّة بين مواقف المُستطلَع آراؤهم والمسؤولين تساؤلًا جديًّا حول خطورة ما يجري في الواقع وتأثير الجهل به، وكذلك تظهر خيبة الأمل من المجتمع عند نسب توقّعات غير ملائمة تؤدي إلى خلق حالة من الاضطراب والتفرقة الاجتماعية.
إن التّعامل مع واقع الجريمة والجريمة المنظّمة لا يُعتبر أمرًا سهلًا، فهي مرحلة مركّبة في طورها النّفسي لما تحمله من مكوّنات فرديّة وجماعيّة، واجتماعيّة، وثقافيّة وسياسيّة. وكل من تلك المكونات يحمل داخله مكونات أخرى مركّبة. لذلك، حتّى في الحالة التي تصون فيها الدّولة مسؤوليتها اتجاه نزع الآفة، فلا يمكن أن تنزع دوافع العدوان. وإنّ حقيقة وجود الدوافع العدوانية لا تبرر الأعمال المحظورة قانونيا ولا تُعفي مرتكبيها من العقاب. ومع ذلك، لا يمكن قمع هذه الدوافع تمامًا، ويجب التعامل معها عن طريق قبولها كجزء طبيعي من البشرية والتعامل معها بطرق مناسبة، مثل التفريغ العاطفي أو العلاجات المناسبة. هذا لا يتعارض مع فرض العقوبات القانونية عند ارتكاب الجريمة، حيث لا تتم معاقبة المرء على دوافعه وإنما على أفعاله الناتجة عن دوافعه.
إنّ فهم غرائز البشر يساهم بدوره في فهم سلوكياتهم، وبذلك يمكن العمل على توجيه غرائز الموت نحو غرائز الحياة التي من شأنها أنّ تقلّل من السّلوكيات المضرّة بالفرد والجماعة. ولكن تحقيق مثل هذه الغاية يعتبر شاقًّا، ولا يستطيع الفرد الواحد العمل عليها لوحده. لذلك، من المهمّ أيضًا، أن تأتي المساهمة من الجانب المجتمعي للأفراد، حيث يقوم أشخاص قياديين ومسؤولين على رعاية حاجات رعاياهم، وبالطبع تقع مسؤولية كبيرة على الدولة في تمكين هذا العمل التكافلي للمجتمع من خلال التّنفيذ الجادّ والفعلي للتعامل مع الأزمات التي يواجهها مواطنيها. إن تهاون أي من تلك الجهات يؤدي بالضّرورة الى خلخلة النّظام الاجتماعي، فلكلٍ دوره ومسؤوليته في العمل على الحدّ من الآفة.
1 سيجموند فرويد، الطوطم والتابو. (دار مدارك للنشر والتوزيع. المترجم: جورج طرابيشي 2015). ص 20-100
2 إمطانس شحادة، توجّهات الفلسطينيّين في إسرائيل بشأن الحالة السياسية وآفة العنف. (مدى الكرمل – المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقيّة. 2022).