أحداث هبة الكرامة.. المنعرج الأهم في تاريخ شعبنا في الداخل؟
رغم أن عدد الشهداء كان أقل من أحداث أخرى، كمجزرة كفر قاسم أو يوم الأرض أو هبة القدس والأقصى في تشرين الثاني 2000، إلا أن أحداث هبة الكرامة في أيار 2021، باعتقادي وباعتقاد عدد من المحللين والمراقبين، كانت الأحداث المفصلية الأهم في تاريخ الداخل الفلسطيني، كونها شهدت بداية مرحلة جديدة، هي مرحلة المواجهة المباشرة بين المواطنين العرب واليهود، وليس بين العرب وقوى الأمن من جيش وشرطة فحسب.
الأحداث التي كانت في المدن المختلطة بشكل خاص، في اللد وعكا وحيفا ويافا وفي بعض مناطق القدس، والاعتداءات من قبل اليهود على العرب، كانت غير مسبوقة. والشهيد العربي الأول في هذه الأحداث، الشهيد موسى حسونة، قُتل برصاص مستوطن في اللد، وليس برصاص الشرطة، علمًا بأن الشهيد الثاني، محمد كيوان، قتل برصاص الشرطة في أم الفحم.
الحديث عن اعتداءات العصابات والجماعات اليهودية المتطرفة على العرب في المدن المختلطة لا يعني أن العرب لم يفعلوا أي شيء. فقد كانت المواجهات في بعض المدن في غاية الحدة وقد قام شبان عرب بإغلاق عدة شوارع وبإشعال الإطارات المطاطية وتخريب بعض الممتلكات العامة. وقد تعرض بعض اليهود لاعتداءات وقُتل اثنان، في عكا وفي اللد، رغم عدم وجود إثبات على أنهما قُتلا بأيدي العرب. وعدم وجود إثبات لا يعني عدم وجود متهمين وقضايا في المحاكم. فعلى عكس جريمة قتل الشهيد موسى حسونة، الذي قٌتل أمام الجميع برصاص المستوطن في اللد، وانتهت القضية بالإفراج عن المستوطن، قامت الشرطة باعتقال العشرات من الشبان العرب، بتهم الاعتداء على اليهود، وبعضهم ما زال معتقلًا حتى اليوم، حيث تصرفت الشرطة، كما هو متوقع منها تمامًا، كطرف في النزاع وليس كممثلة عن سلطة القانون.
والمثير للسخرية أن الشرطة وأجهزة الأمن الإسرائيلية، العاجزة عن محاربة الجريمة في المجتمع العربي وتتحجج بمختلف الحجج، بينما نسبة الجرائم بارتفاع، ما زالت هي نفسها حتى اليوم تلاحق وتطارد الشبان العرب من أحداث أيار 2021، وآخرهم شاب من رام الله اعتُقل بتهمة قتل المستوطن في اللد. وقالت الشرطة إن الشاب كان هاربًا، بينما كان في الوقت نفسه يعمل في إسرائيل بتصريح عمل طوال العامين الماضيين. هذه الشرطة التي تفشل في محاربة عصابات إجرام يعرفها الصغير قبل الكبير في الشارع العربي، يعرف أسماء قادتها وأسماء جنودها، تبدو في غاية البراعة والقوة عند اعتقال الشباب العرب على خلفية سياسية، وأحداث الأقصى الأخيرة كانت خير مثال.
هبة الكرامة كانت بداية لمرحلة جديدة، مرحلة يتجرأ فيها المواطن اليهودي على العربي دون أي رادع، وهي نتاج سنوات من التحريض والعنصرية والفاشية.
ومخطئ من يظن أن أحداث هبة الكرامة في المدن المختلطة بالذات كان محض صدفة. فهذه المدن، وخاصة اللد وعكا، هي مدن مستهدفة، والهدف هو تهويدها وإضعاف الوجود العربي فيها. ورغم عدم وجود دلائل تاريخية لليهود في هذه المدن إلا أنها تعتبر مدن مهمة جدًا، خصوصًا لجماعات الأنْوية التوراتية، التي تهدف إلى تعزيز وجودها في هذه المدن المركزية، وقد وجدت المدن لقمة سائغة لها، بسبب ضعف المجتمع فيها، وهذا الضعف له أسبابه أيضًا. ولأن لا شيء في هذه الدولة يحدث صدفة، فإن اضعاف المدن المختلطة لم يحدث صدفة.
في تقرير مراقب الدولة من الصيف الماضي، هنالك نقد الشرطة لأنها لم تتصرف بقوة أكبر من العرب، ولم تستعد كما يجب، ولكن الأخطر كان أن التقرير كشف عن الذي نعرفه جميعًا، وهو التمييز العنصري العميق في الخدمات المقدمة للسكان العرب من قبل البلديات في المدن الساحلية التاريخية و"المدن المختلطة" الأخرى. ومن ضمن الأمثلة الواردة في تقرير "مراقب الدولة" المخّصص أصلاً لأحداث هبة الكرامة في مايو/أيار 2021، ما يكشفه عن أن بلديات "المدن المختلطة" (حيفا، يافا، عكا، اللد، الرملة، نوف هجليل) بنت في العقد الأخير 500 مبنى جماهيري لتقديم خدمات ترفيهية وثقافة وشبابية ودينية، منها خمسة مبان فقط خصّصت للمواطنين العرب، رغم أنهم يشكّلون في هذه المدن 30-35% من مجمل السكان.
كما كشف مراقب الدولة أنه في الفترة 2020 - 2021 قررّت الحكومة تخصيص 19 مليار شيكل لـ "تحسين أحوال المجتمع العربي"، حُرم العرب في المدن المختلطة منها. وفي نطاق الحديث عن التفرقة العنصرية يوضح مراقب الدولة أن الوزارات المعنية لم تحدّد تعريفا لمصطلح “"المدن المختلطة"، مما يكرّس حالة التمييز ضد العرب. ويتطرّق التقرير المطّول (282 صفحة) إلى طواقم الموظفين الكبار في هذه البلديات ويكشف عن استمرار التمييز العنصري ضد المواطنين العرب بشكل منهجي ورسمي منذ عشرات السنوات.
أحداث هبة الكرامة كشفت ما نعرفه حول عنصرية هذه الدولة، ولكنها بدأت أيضًا مرحلة جديدة، أصبحت فيها المجاهرة بالعنصرية، وحتى بالاعتداء على العرب، من الأمور المشروعة. والجماعات المتطرفة في مدن مثل اللد تقول اليوم إنها تستعد للأحداث القادمة وأنها ستكون على أتم الاستعداد عند حصولها. تصريحات مثل هذه تؤدي إلى سجن قائلها في دولة أخرى، ولكن في هذه الدولة تجعل من قائلها وزيرًا للأمن الداخلي ومسؤولًا عن الشرطة.
ومع كل هذا، لا بد من الإشارة إلى الجوانب الإيجابية من تلك الأحداث، وأولها أن الذي راهن أن هذا الشعب في الداخل قد مات سريريًا خسر رهانه. فقد أثبت الشباب العرب أن الذي قال إن الصغار سوف ينسون كان مخطئًا. فقد كان الصغار هم الذين تولوا قيادة ساحة النضال عندما تعلق الأمر بالمسجد الأقصى وبكرامتهم. والأمر الآخر الذي يدعو لبعض التفاؤل، هو وحدة الصفوف الفلسطينية بين الداخل والضفة الغربية وغزة والشتات بشكل غير مسبوق.