هم يتجهزون، فماذا عنّا؟
الثابت في علاقتنا، نحن الفلسطينيين في إسرائيل، مع الدولة هو أن الأحداث المفصلية بيننا وبينها تتجه في ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الأول، أنها أحداث لا ينتهي مفعولها بمجرد حدوثها، بل هي مستمرة بأشكال مختلفة. والاتجاه الثاني، أن الدولة، بأجهزتها المختلفة، تبدأ مباشرة بتحضير نفسها للمواجهة القادمة، مستفيدة مما حدث، مقابل غياب أي فعل استباقي ومواجهة من جهة المجتمع العربي. والاتجاه الثالث، هو ما تحدثه هذه الأحداث على المستوى النفسي، الفردي والجمعي، ومفاعيلها على الانتماءات على مستوى الهوية وارتداداتها السلبية لدى العرب واليهود على حد سواء. فإذا ما تأملنا تاريخ هذه الأحداث يتضح لنا ليس فقط أن الأحداث توقفت بحدوثها وزالت آثارها، بل هي توجّه الدولة بسياساتها وجهودها وتصرفاتها على أرض الواقع. ودليلنا على ذلك كله هو ما آلت إليه الأحداث الكبرى، من النكبة المستمرة، يوم الأرض الذي تغيرت بعده أساليب الاستيلاء على الأرض فقط، الانتفاضة الأولى وانتفاضة الأقصى وصولاً إلى أحداث هبه الكرامة، وهي موضوع هذه المقالة التي يراد منها ليس فقط التنبيه لتحركات تحدث وإنما أيضا الحث على أخذ الأمور بجدية عملية.
الدولة والمجتمع اليهودي
من ناحية الدولة، وكذلك من ناحية أوساط واسعة داخل المجتمع اليهودي، نستطيع تحديد التالي:
على مستوى الخطاب السياسي، الحزبي والشعبي، وخصوصا لدى اليمين واليمين المتطرف ولكن ليس فقط بينهما، هناك تركيز على المخاطر التي كشفتها، حسب ادعائهم، أحداث هبة الكرامة. فتقريباً، يكاد لا يخلو ي أي مقترح من جانبهم من أمر يتعلق بالمدن المختلطة والعرب عموماً. آخرها قرار إقامة الحرس القومي وهدفه المعلن هو التدخل السريع في الاضطرابات الداخلية ذات البعد القومي، مع إشارة واضحة إلى المواجهة المرتقبة في المدن المختلطة والبلدات العربية. الذي يقود إقامة هذا الحرس هو وزير الأمن القومي، بن جفير، الذي وضع موضوع العداء للعرب في المدن المختلطة والنقب، بادعاء إعادة حاكمية الدولة في هذه المناطق، في صلب برنامجه الانتخابي. النتيجة هي أن قائمته مع الوزير سموترتش حصلت على عدد مقاعد غير مسبوق، بسبب استغلال أحداث هبة الكرامة واللعب على مخاوف البعض ورغبة آخرين بالانتقام من العرب. ما زال استغلال هبة الكرامة الموضوع المركزي في خطاب بن جفير ومؤيديه وهم يحاولون افتعال أسباب لاندلاع أحداث مشابهة بينما هم جزء من الحكومة.
يتزامن هذا الجو العام، الحزبي والشعبي، مع ما يعززه الإعلام العبري عبر تقارير صحفية وعبر تهويل الأخبار التي تتعلق بأحداث يتورط فيها عرب ويهود بشكل يؤجج المخاوف ويزيد من الكراهية تجاه العرب. التغطية الإعلامية تكاد لا تأخذ بالاعتبار المخاطر على العرب أو الاستفزازات ضدهم أو التجهيزات التي يقوم بها المتطرفون اليهود في المدن المختلطة، وإنما يوضع العرب غالباً كمصدر الخطر، بشكل مباشر أحياناً بشكل مبطن في أحيان أخرى. في هذا السياق أستطيع القول إن غالبية الذين التقيتهم في جلسات حول العلاقة بين العرب واليهود والدولة، لسان حالهم يقول، بنبرة تهديد واضحة أحياناً، إن رد الفعل من الجانب اليهودي، المؤسسي والشعبي، في حالة اندلاع أحداث مشابهة لهبة الكرامة، ستكون وخيمة على العرب.
لم يبق الموضوع على المستوى الحزبي والشعبي فقط وإنما، وهنا الخطورة المباشرة، يتوغل داخل المؤسسات وخصوصاً الأمنية. فالتقارير تتوالى عن التحضير العملي لسيناريوهات يتم تداولها داخل المؤسسات الأمنية الإسرائيلية عن احتمال اندلاع مواجهات داخل المدن والبلدات العربية. يتم التحضير لها بواسطة مخططات تتعلق بتجنيد وحدات من الجيش والشرطة وسبل انتشارها على مداخل وتخوم البلدات العربية (تقرير الصحفي عاموس هرئيل في جريدة "هآرتس"، يوم 3.4.2023).
يحظى النقب بانتباه خاص، إذ وُضع على خارطة التهديدات الأمنية الإسرائيلية بشكل متواصل. فكل حدث هناك يأخذ طابعاً قومياً ويوصف بأنه تحدٍّ لسلطة الدولة وكرامة الأغلبية اليهودية من خلال خلط القومي والأخلاقي مع مسحة دينية لاستغلال تصرفات بعض الشبان البدو داخل البلدات اليهودية، بغية بتأجيج كم هائل من المشاعر العدائية بين اليهود تجاه العرب، بانتظار لحظة الانفلات.
هذه الحالة تستفيد وتتغذى من عملية ربط حالة العنف والجريمة داخل مجتمعنا وكأنها تندرج في سياق الخطر القومي الذي يشكله العرب على اليهود. أي، يتم تجيير واستغلال ظاهرة الجريمة والتعامل معها ليس بكونها مصدر ألم مجتمعي على الدولة التعامل معه من زاوية المواطنة التي من أهم متطلباتها توفير الأمن والأمان للمواطنين، بل من زاوية تأجيج مشاعر الخوف من العرب والخطر الذي يمثلونه. ولذلك، فإن التعامل مع الجريمة هو تعامل يُقصد منه الدفاع عن اليهود وليس حل مشكلة المواطنين العرب. في هذا السياق يتم اقتراح قوانين تهدف في ظاهرها إلى مناهضه الجريمة، لكنها تستبطن تسهيل السيطرة والضغط على المجتمع العربي ومراقبته بشكل أكبر.
لا يمكن التقليل من حقيقة أن لهذا المناخ اسقاطات نفسية على المجتمع اليهودي تعمق استمالته نحو اليمين وكراهيته للعرب والتحشيد لتبرير السياسات المحتملة.
المجتمع العربي
مقابل هذه الحالة الخطرة علينا داخل المجتمع اليهودي، على المستوى الحكومي والشعبي والإعلامي، الذي يحضر نفسه لمواجهة محتملة وخصوصاً بوجود أوساط منه تحاول تفجير الوضع بشكل متعمد، فان المجتمع العربي مغيب تماماً. فلا توجد أية محاولة، ليس فقط على المستوى الشعبي لمواجهة المخاطر بشكل تنظيم داخلي استباقي، بل على مستوى التفكير واستشراف المستقبل والتحضير له، على الأقل. لم يتشكل أي فريق تفكير، لا من الأحزاب ولا من المجتمع المدني ولا من لجنة المتابعة أو لجنة الرؤساء، يحاول وضع السيناريوهات المرتقبة وتقديم توصيات عملية لمواجهة مخاطرها أو، على الأقل، رصد حالة التجهيز الإسرائيلية هذه ومحاولة تفنيد الرواية التي يتم حبكها لتبرير السياسات والممارسات التي سيتم تنفيذها.
في هذا السياق، هناك أهمية للتعامل مع هذه الحالة على مستويين: على المستوى القطري، بواسطة تشكيل مجموعة تفكير تبحث في الاستراتيجيات وتقدم التوصيات وتشكل مرجعية تنسيق مع الأطر الأخرى، المحلية، والمبادرة بشكل دائم لتفنيد الادعاءات المضادة التي تبني أرضية لمواجهة مفتعلة، إعلامياً وفي كل المؤسسات ذات الشأن. تتشكل هذه اللجنة من الأحزاب، لجنة المتابعة، لجنة الرؤساء والمجتمع المدني ويوضع لها إطار زمني لتقديم مقترحاتها.
على المستوى المحلي، بواسطة تفعيل اللجان الشعبية للتباحث ووضع برنامج عملي يتناسب مع المخاطر المحتملة.
إن أهم النتائج التي خلفتها هبة الكرامة هي مشاعر الخطر وانعدام الحماية التي يشعر بها العرب وتأثيرها على تماسكهم وثقتهم بمجتمعهم وقيادته. ولعل التعامل الجدي على المستوى القطري والمحلي يرمم هذه الثقة ويبعث في النفوس الاطمئنان ويُشعرهم بأنهم ليسوا وحدهم.
أخيراً...
المقارنة بين مستوى الجدية التي تتعامل به الدولة والأغلبية اليهودية مع الموضوع مقارنة بمستوى الجدية الذي نتعامل نحن كمجتمع معه، مع الأخذ بعين الاعتبار أننا المتضررون الوحيدون بسبب ظروفنا، لهي أمر مذهل. هذه المقارنة هي جرس إنذار خطر يجب أن يوقظنا لتدارك الوضع وأخذ الموضوع بجدية متناهية. هذا أوان الجدية وأوان العمل وعدم ترك أمورنا للصدفة ولأفعال الآخرين.
تصوير: عاطف صفدي.