اللد ما بين النكبة و"هبة الكرامة"

"اللد" أو لد.  تعتبر اللد من أقدم مدن  فلسطين وأهم مدنها التاريخيه حيث تتوسط مركز البلاد  وتبعد عن القدس 38 كم وعن يافا 18 كم وتربط الطريق التجاري بينهما، مما أعطى المدينه زخماً تجارياً واقتصادياً على مر العصور. 

أهم معالم اللد هي: "كنيسة سانت جورج"، "المسجد العمري" و"جسر جنداس" و"خان الحلو". ويحتفل أهالي اللد كل سنه في تاريخ 17/11 بـ "عيد اللد"، وهو عيد يجمع كل سكان اللد العرب، مسلمين ومسيحيين.

كانت اللد مدينة يسكنها أكثر من 20 ألف فلسطيني وكانت خالية من اليهود. إشتهرت بالزراعة،  وخصوصاً البيارات المحيطة بها، وكان يحدها من الشمال مطار الانتداب البريطاني وسكة الحديد الموروثه عن العثمانيين وفيها مستشفى وعيادات طبية ومدارس للبنين والبنات ونوادٍ  ثقافيه ومركز للتنس ومصابن لصنع الصابون ومعاصر الزيت والسمسم.  

بعد سقوط يافا، لجأ اليها ما يزيد عن 30 ألف لاجئ من المدن والقرى المجاوره فغصت اللد باللاجئين الذين إفترشوا الأرض والتحفوا السماء. ثم اشتد الهجوم على اللد ومحاصرتها من الجهتين الشرقية والغربية ودارت معارك إستمرت لعدة أشهر استشهد خلالها العديد من أبناء المدينه والمتطوعين للجهاد من القرى المجاورة، كان أبرزهم القائد حسن سلامة، إبن "قرية قولا" في منطقة نفوذ اللد والشهيد شحادة حسونة والقائد حمزة صبح وغيرهم من قادة المعارك في اللد. 

سقطت اللد يوم 11/7/1948  (شهر رمضان)  وقام الاحتلال تعلى مدى ثلاثة أيام بترويع الناس لدفعهم إلى مغادرة المدينة. وفي يوم 13/7 قامت فرق "البلماح" و"لواء الاسكندروني" التابعين للمنظمات العسكرية الصهيونية باقتحام "مسجد دهمش" وإطلاق النار على اللاجئين المحتمين فيه وقتل أكثر من 180 فلسطينياً بغرض دب الخوف والرعب في نفوس الأهالي وبالتالي دفعهم إلى النزوح شرقاً إلى منطقة رام الله.

حسب تقرير وجدته في أرشيف الدولة لأحد موظفي الاحتلال، تبقى في اللد 1005 أشخاص، بينهم 450 عاملاً (من القرى  والمدن المجاورة)  في سكة القطار (المحطة) من خارج اللد، احتجزهم الجيش. أما الباقون فقد احتُجزوا في ساحة "المسجد العمري" و"كنيسة سانت جورج"، أغلبهم من الشيوخ والأطفال، وذلك لمدة سنة كاملة وهو ما اصطلح على تسميته لاحقاً باسم "الغيتو". 

بعد النكبه، تدهورت أحوال العرب في المدينة بعد أن سلبتهم الدولة أراضيهم ومصالحهم، وحتى بيوتهم في غالبية الحالات، واكتفت بإسكانهم في بيوت للمهجّرين بالمناصفة، بحجة "أملاك الغائبين"، وقامت  بتسجيلهم كـ "مستأجِرين محميين".

بقي الأهالي على هذا الحال يعيشون في ظروف معيشية صعبة، رغم التطور والبناء السريع الذي شهدته المدينه إثر قيام إسرائيل ووصول آلاف المهاجرين اليهود إلى المدينة، وخصوصًا من  الدول العربية، إذ منحتهم الدولة الأراضي والبيوت العربية دون مقابل، بينما بقي العرب في بيوت في الحي القديم المسمى "السكنة"، المجاور للمسجد. 

في العام 1965 قامت البلديه بهدم معظم معالم المدينة الفلسطينية، البيوت العربية والحمامات العثمانية، إضافة إلى الإهمال البالغ للمصابن والمعاصر وخان "الحلو" الأثري الجميل.

في السبعينات، وبعد إنتهاء الحكم العسكري، نزح إلى اللد مئات العمال من مختلف أنحاء البلاد، وبشكل خاص من العرب البدو في الجنوب، حيث راقت لهم المدينة وفرص العمل المتاحة وإمكانية السكن ورعاية المواشي، علماً أنهم سكنوا في صفائح وخيم حتى التثمانينات، وتحديداً في منطقة بمحاذاة البيارات التي سميت لاحقًا أحياء "كرم التفاح" و"بيارة شنير". 

مع مرور السنين وبسبب التكاثر الطبيعي، تفاقمت الأوضاع المعيشية سوءاً وزاد تذمر الأهالي من شح الخدمات والإهمال المتعمد، وخصوصًا في مجالي التخطيط والبناء، حيث بلغ عدد البيوت غير المرخصة 2,500 بيت في العام 2013، ما أدى إلى شروع البلدية في عمليات هدم للبيوت، دون توفير بدائل لسد إحتياجات الناس، وبضمنها خدمات الكهرباء والمياه والبنى التحتية التي انعدمت. 

تصاعدت الوقفات والمظاهرات في اللد مع تصاعد عمليات هدم البيوت من جهة وانتقال مئات العائلات اليهودية منها إلى مدينتين جديدتين هما "شوهام" و"موديعين" شرقي اللد، من جهة أخرى، ما أدى إلى انخفاض أسعار البيوت وزاد من قدرة مئات العائلات العربية على شراء بيوت في "الأحياء اليهودية".  

يشار هنا إلى  أنه وفقًا لآخر التقارير الرسمية، يسكن اللد اليوم حوالي 90 ألف نسمة، بينهم 30 ألف عربي - 50% منهم يسكنون في ما يسمى بالأحياء العربية الفقيرة والباقون في "الأحياء اليهودية". 

لا يخفى على أحد أن هذه التقارير تثير قلق السلطات الإسرائيلية التي تشن موجة تحريض على العرب، تارة بحجة البناء غير المرخص وتارة بحجة فقدان السيادة جراء العنف المتزايد وكسب المال غير القانوني. 

وقد بدأت الأمور تتطور لتأخذ منحًى أمنيًا بعد العام 2006، أي بعد "خطة الانفصال" عن غزة وإخلاء المستوطنين من المناطق المحاذية للقطاع، حيث إستجلبت نسبة كبيرة منهم وأسكنتهم في حي خاص في اللد ومنحتهم كل التسهيلات للسكن، ثم السيطرة على مفاصل الحكم في المدينة. وسرعان ما ترأس البلدية، وتحديداً في العام 2013، أحد أنصارهم المدعو "يائير رفيفو" لتدخل اللد في دوامة التحريض المنهجي والمزيد من التضييقات على العرب تحت مسميات مختلفة، مثل ضرورة "تهويد اللد" و"إنقاذها من العرب". 

طوال السنوات العشر الأخيرة شهدت المدينة ارتفاعاً في منسوب التوتر بين العرب والمجموعات اليهودية المتشددة، وتحديداً خلال شهر رمضان الفضيل وغيره من المناسبات المهمة للأهالي العرب في المدينة، كما حصل في العام 2017، حين قام رئيس البلدية باقتحام المسجد صباح عيد الفطر مع الشرطه وبمرافقة متطرفين يهود لوقف التكبيرات. وفي السنة التالية، قام بكب النفايات في ساحة الصلاة في السوق البلدي لتتكرر أحداث الاعتداء على العرب في كافة مناحي الحياة، وبضمنها منعهم من إحياء الأعراس و المناسبات حتى في ساحاتهم الخاصة، وتحرير مخالفات مالية باهظة ورفع وتيرة هدم البيوت. 

أثار هذا المشهد تذمراً كبيراً في أوساط الأهالي، وخصوصا لدى قطاع الشباب الذين يعانون أصلاً من شح فرص العمل وعدم قدرتهم على شراء البيوت في المدينة إثر تحريض جمعيات يهودية متطرفة ناشطة في اللد.

الاعتداءات على المسجد الأقصى المبارك في شهر رمضان 2021 زادت من حالة الاحتقان، ما أدى إلى خروج العديد من أبناء وبنات اللد للتظاهر، تنفيذاً لقرار  لجنة المتابعه العليا، وهو ما قوبل باعتداء عنيف من قبل الشرطة التي إستخدمت الرصاص الحي والمطاطي وقنابل الغاز لتفرقتهم. 

في المقابل، قامت مجموعات يهودية متطرفة بالاستفزاز وبالاعتداء على الشبان العرب وإلقاء الحجارة عليهم، بل واستخدام السلاح ضدهم على مرأى ومسمع الشرطة التي حمتهم، مما أسفر عن استشهاد الشاب موسى حسونة وإصابة محمد زيتونه وعيسى شعبان ويوسف عيسى بجراح متفاوتة.  

تجدر الإشارة هنا إلى أن قاتل أو قتلة الشهيد موسى حسونة لا زالوا أحرارًا وأن سلطات الدولة بأذرعها المختلفة لم تتخذ أية إجراءات بحقهم! 

أشعل انتشار خبر إستشهاد موسى المدينة برمتها خلال 6 ساعات، لتشهد مواجهات وأعمال عنف شديدة أصيب خلالها مئات الشباب العرب بجروح جراء اعتداء القوات العسكرية عليهم. ولاحقاً تم  الإعلان عن اللد مدينة عسكرية مغلقة. وبالرغم من ذلك، سمح لمئات المستوطنين من مناطق الضفة الغربية بالوصول إلى اللد والاعتداء على العرب، تحت حماية الشرطة والجيش الإسرائيلي، حيث قام أفراد من المجموعات اليهودية المتطرفة المقيمة في المدينة بوضع علامات على البيوت العربية لتسهيل مهمة المستوطنين في الاعتداء عليها  خلال ساعات الليل. 

يشار إلى ان عد المعتقلين العرب خلال هذه الأحداث وصل إلى 300  معتقل مقابل صفر معتقلين من اليهود. وقدمت 53 لائحة اتهام بحق شباب عرب، كلهم على خلفية "هبة الكرامه"، 50 منها تضمنت تهماً إضافية بموجب ما يسمى بـ"قانون مكافحة الإرهاب"، الأمر الذي ضاعف الأحكام التي صدرت بحقهم. وفي المقابل، قُدمت لائحة إتهام واحدة ضد يهودي واحد فقط بتهمة القاء الحجارة، إثر شكوى قدمتها وزارة التربيه والتعليم كون المتهم مدير مدرسة. 

اليوم وبعد سنتين على "هبة الكرامة"، لا نزال نلملم جراحنا ولا زلنا نطالب باعتقال قتلة الشهيد موسى حسونة - بوقفات شهرية – بينما ما  زال 18 شاباً عربياً يقبعون في السجون، منهم 3 شبان اعتقلوا في الآونة الأخيرة، بمعنى أن جهاز المخابرات الاسرائيلية (الشاباك) ما زال ينشط في اللد ويعتقل الشبان ولا تزال البلديه تهمل السكان العرب رغم صدور قرار مراقب الدوله الذي حذر من التمييز المقلق بحق السكان العرب  في مختلف مجالات الحياة. 

عامان على "أحداث أيار" ولا تزال اللد تعيش حالة من القلق والترقب لأحداث من الممكن أن تشعل المدينة مرة أخرى بالاضافه إلى استفحال آفة العنف والجريمة وارتفاع أسعار البيوت جراء الحملة المستشرية التي تقودها الجمعيات اليهودية المتطرفة لمنع البيع للعرب، مما يدعو للتساؤل هل هناك أياد خفية  تتعمد بث الفتنة لتمزيق النسيج الاجتماعي بين الأهالي لتشجيعهم  على الهجرة؟ فقد شهدت اللد 73 حالة قتل خلال السنوات العشر الأخيرة، أي منذ استلام هذه الجماعات المتطرفه زمام الحكم في اللد.

في الختام، لا شك أن اللد تعيش على صفيح ملتهب وخصوصاً إثر ما نراه من تحركات لوزير الأمن القومي بن غفير لإقامة ملييشات ما يسمونه بـ "الحرس القومي"،  ترتكز على توجهات متطرفة وعنصرية تجاه العرب، لتؤكد ما كان مؤكداً  بأن جمعيات التهويد في اللد تدفع نحو مواجهة حتمية، بالرغم من مساعي السكان العرب لتفاديها بكافة الوسائل من طرفهم. 

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن استفزازات اليهود المتطرفين في المدينة باتت شبه يومية، من حمل السلاح في الحيز العام والدفع بالمزيد من النشاطات الاستفزازية في الأحياء العربية، إضافة الى التحايل على ضعيفي النفوس من بين العرب لاستملاك بيوتها. 

مع ذلك، لا زالت هناك بقعة أمل نراها في ارتفاع نسبة المثقفين والأكاديميين العرب في اللد في مختلف المجالات وحقيقة أن غالبية الأطباء والمحامين والمحاسبين في المدينه هم من العرب.

من أهم دروس هبة الكرامة في اللد باعتقادي، وفي ضوء الوضع المتردي في المدينة، هو إقامة جمعيات تقوم بنشاطات ثقافية وسياسية بالإضافة إلى دعم عوائل المعتقلين ومساندتهم، إلى جانب تفعيل اللجنة الشعبية التي تتواصل مع لجنة المتابعة العليا والسفارات والمؤسسات الحقوقية وغيرها من مؤسسات حقوق الانسان.  


الصورة: اللد بعد النكبه اثار الهدم والخراب من مكتبة الكونغرس.

تيسير شعبان

محام وناشط سياسي وعضو اللجنة الشعبيه في اللد ومركز قضايا أسرى "هبة الكرامة" في المدينة

شاركونا رأيكن.م