سنتان على هبة الكرامة؛ وماذا بعد؟
تمر، هذه الأيام، الذكرى السنوية الثانية لأحداث أيار (2021)، أو ما تعارف عليه، إعلامياً باسم "هبة الكرامة". هذه الأحداث التي سلطت الضوء على أوضاع المواطنين العرب في المدن المختلطة والتحديات التي تواجههم وطبيعة مكانتهم وعلاقاتهم مع المؤسسة والأغلبية اليهودية في هذه المدن. ليس صدفة أنه لا توجد سياسة واضحة ومعلومة عن كيفية إدارة العلاقة بين المواطنين اليهود، الذين يشكلون الأغلبية اليوم، وبين أبناء الأقلية الفلسطينية في هذه المدن.
ما يعني الدولة بشكل عام والسلطات المحلية بشكل خاص هو تهويد المكان والزمان في المدن التي كانت فلسطينية قبل 75 سنة.
من يعرف ويواكب ظروف حياة المواطنين العرب في هذه المدن الفلسطينية التاريخية لم يفاجأ بهذه الأحداث، بل كان يتوقع حدوثها. فهي نتيجة حتمية لصيرورة عميقة وطويلة الأمد، بدأت في العام 1948. فما زال هؤلاء المواطنون يعيشون بين مطرقة السياسات الحكومية التمييزية المحلية والقطرية كمواطنين من جهة، وسندان النكبة وتبعاتها والمعركة على تهويد المكان الفلسطيني بين البحر والنهر، من جهة اخرى، مما يجعلهم في خط المواجهة الأول كفلسطينيين. ومن الواضح أن التوتر بين القومي واليومي في هذه المدن هو أكثر منه في أي مكان آخر.
قضايا المواطنين العرب في هذه المدن كانت مهمشة، إلى حد كبير، ليس من جانب السلطات الإسرائيلية فقط، بل من جانب المؤسسات والأحزاب العربية أيضاً، مع العلم أن ممثلين عرباً في الكنيست جاؤوا من هذه المدن. وقد عمقت سياسة الاقصاء والتهميش والإهمال أزمة المواطنين العرب في هذه المدن. لذلك، ليس صدفة مثلاً أن المدن المختلطة تتصدر قائمة ضحايا العنف والجريمة في البلاد، حيث تبلغ نسبة العرب القاطنين في المدن حوالي 11% بينما تتراوح نسبتهم بين ضحايا العنف والجريمة في السنوات العشر الأخيرة بين 22% و27% .
ارتبطت هبة الكرامة في المدن المختلطة في أيار 2021 بما حدث في القدس والأقصى، بشكل كامل، وخصوصا ما حصل في حي الشيخ جراح. إلى جانب الاعتداءات والانتهاكات المتكررة في الأقصى، رأينا استمرار وتكثيف محاولات تفريغ حي الشيخ جراح من سكانه العرب. أحداث كهذه اغضبت أبناء الشعب الفلسطيني، وخاصة في المدن المختلطة: يافا، اللد والرملة وعكا الذين يتعرضون إلى نفس السياسات والأخطار المنتهجة في القدس. وقد تزامن هذا الأمر مع تكثيف التحريض على العرب في المدن المختلطة، والتي تكللت بزيارة الفاشيين بن غفير وسموتريتش قبل انطلاق الهبة في 9 أيار بأيام قليلة.
المؤلم في الامر أن ما حدث في هذه المدن لم يحظ بأي تلخيص جدي. لم تجتمع البلديات، حتى يومنا هذا، لتلخص وتقيّم الأحداث وتأتي باستنتاجات من شأنها مساعدة متخذي القرار في كيفية مواجهة أحداث مستقبلية مشابهة، ومنع تدهور علاقات السكان على مشاربهم المختلفة. مقابل ذلك، تنشط في هذه المدن جمعيات عربية وعربية - يهودية التي لا يقتصر نشاطها على المدن المختلطة وحدها. فإلى جانب عملها في المرافعة عن قضايا المواطنين العرب في المدن المختلطة ومحاولتها التأثير على السياسات محلياً وقطرياً، تعمل بشكل دؤوب مع الناس وممثليهم. إحدى هذه الجمعيات هي "مبادرات إبراهيم" التي تعمل مع سكان هذه المدن وممثليهم منذ العام 2018 حيث بادرت إلى إجراء بحث وسماع آراء المواطنين في مدينة حيفا حول أحداث أيار 2021، إقامة إطار عربي يهودي من أعضاء البلديات للاهتمام بالعلاقات العربية - اليهودية في مدنهم. وكان على رأس هذه النشاطات محاولة التعلم من تجربة الشرخ القائم في مدينة بلفاست في إيرلندا الشمالية بين البروتستانت والكاثوليك. وكان هناك نشاط آخر، هو دعوة مراقب الدولة متنياهو أنغلمان إلى فحص ما جرى ويجري في المدن المختلطة. وقد فحص التقرير سلوك الشرطة والخدمات البلدية المقدمة للمواطنين وأشار إلى فشل الشرطة في عملها وتوقف عند الفجوات القائمة بين المواطنين العرب واليهود في هذه المدن. وخلص التقرير إلى نتيجة مفادها أنه "يجب على البلديات تقديم خدمات بشكل متساو لجميع الفئات السكانية، مع مراعاة خصائصهم المختلفة، والعمل على زيادة الشعور بالانتماء".
إن طرح الخصائص المختلفة لسكان المدن المختلطة وقضية الانتماء من قبل مراقب الدولة هو خطاب بحاجة إلى التوقف عنده، خاصة وأن بعض المدن المختلطة تعزز يهوديتها من جهة، بينما تعمل من جهة أخرى على محو المعالم الفلسطينية وطمس الهوية الفلسطينية لهذه المدن. وقد دعم المراقب أقواله بمثل واضح حول تخصيص العقارات (التي هي بالأصل فلسطينية، في المدن التاريخية) والميزانيات المخصصة للمواطنين العرب. "من بين 500 عقار خصصتها المدن المختلطة التي تم فحصها في العام 2021، تم تخصيص خمسة لهيئات تابعة للسكان العرب"؛ وأضاف التقرير أن "نسبة الدعم المقدم للهيئات في المجتمع العربي من ميزانية دعم بلديات حيفا ونوف هجليل وعكا والرملة هي أقل من %6. لم تدرس بلديات المدن المختلطة التي تم فحصها احتياجات السكان العرب الذين يعيشون فيها".
ومن المهم ذكره أن نسبة لا بأس بها من المواطنين العرب تسكن في هذه المدن وتتراوح بين 11% في حيفا وحوالي 33% في عكا ونوف هجليل.
هنالك تغيرات إيجابية وسلبية تعصف بمجتمعنا العربي وتحديات وجودية لا نعيرها الانتباه الكافي. أمام اتساع شريحة الطبقة الوسطى في مجتمعنا من جهة، وأمام عدم قدرة سلطاتنا المحلية على تقديم الخدمات الضرورية للمواطنين، وخاصة حل قضايا السكن والتخطيط، أصبحت المدن المختلطة والمدن اليهودية الكبرى مراكز لاستيعاب الآلاف من المهنيين العرب الذين يبحثون ليس عن مكان عمل فقط، وانما عن جودة حياة مفقودة في البلدات العربية.
شكلت هبة الكرامة، بحيثياتها ونتائجها، أحد أهم المحفزات التي أدت إلى صعود اليمين الفاشي، المتمثل بالأساس في حزب الصهيونية الدينية في البلاد. وقد ساهم سكان المدن المختلطة اليهود في دعم هذا الحزب ورؤيته العنصرية. لكن يجب أن نتذكر أن غالبية رؤساء السلطات المحلية في هذه المدن هم من الليكود واليمين، كما أن لدى غالبيتهم رغبة في التعاون مع ممثلي الجمهور العربي في هذه المدن. في النهاية، رؤساء السلطات المحلية يريدون النجاح لأنفسهم، وليس لبلداتهم فقط.
إسرائيل كدولة تصبح أكثر اختلاطاً، ما يعني الحاجة إلى سياسة واضحة لعلاقة الأغلبية بالأقلية وإلى التعاون العربي اليهودي المشترك في البلاد عامة والمدن المختلطة خاصة، والتي كان بعضها مختلطاً قبل عام 1948. يتطلب الأمر النظر استراتيجياً إلى التغيرات الديموغرافية المتوقع حدوثها في السنوات القادمة مع ازدياد الهجرة العربية الى هذه المدن.
الصورة: لمدينة اللد من أحداث أيار 2021.
ملاحظة: استعمال الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected].