التصويت في النقب: الاعتبارات والحسابات

اليوم تخوض الدولة والنقب خاصة تجربة انتخابية مميزة، انتخابات للمرة الخامسة خلال ثلاث سنوات ونيف. التجربة سيكون لها تأثير ليس بالقليل وليس فقط على التطور الفكري لمن راقب هذا التكرار الفريد عالميا والدال على أزمة في البناء السياسي لهذه الدولة. ولكن أيضا لمن هم أقل مراقبة ومتابعة لهذا التسلسل للانتخابات الذي أثر بلا شك عليهم ولو بأقل تقدير.

الانتخابات هي أداة استخدمت مع زيادة عدد البشر ومع الدخول في نظام الدولة عالميا حيث كان لا بد من استخدام وسيلة لتحقيق مبدأ الأكثرية بين الناس لاختيار من يمثلهم أو يقودهم. في الماضي البعيد عندما كان عدد البشر قليلا وليس هناك نظام دولة يجمع الكثير من البشر تحته. كان يكفي التجمع في مكان معين والتصويت على من يمثل هذه المجموعة أو تلك وكان الأمر يسيرًا ومقبولًا أما اليوم هناك حاجة ماسة لاختيار ممثلين عن الناس بصورة غير مباشرةٍ لكثرة الناس ولكثرة التنوع في هذه المجتمعات. هذه الأداة مقدسة في النظام الديمقراطي ليس فقط لأنها الوسيلة الأنجع والفعالة في التعبير عن الأغلبية، بل أيضًا لأنه لا توجد طريقة أخرى تحقق أساس النظام مثل: حكم الشعب، الأكثرية، التعددية، المساواة وغيرها.

إذن النظام العالمي السائد والمقبول هو النظام الديمقراطي المبني على أساس المساواة التامة وإتاحة الفرص للجميع على الصعيد النظري على الأقل أولا. ثانيًا هناك تلاقٍ آخر مهم وهو الانتماء الوطني لبناء الدولة، أي إن الالتفاف الوطني حول الدولة والانتماء لها هو أساس لنجاعة هذا النظام. بكلمات أخرى نستطيع القول إنه على العالم الانتقال من النظام القبلي إلى الدولة كنظام سياسي لإدارة شؤونهم أي تم استبدال الأساس العرقي بالأساس الوطني.

هل هذا التطور هو حتمي؟

لا شك أن العالم فرض طريقته مع الوقت فيما هو مقبول في إدارة شؤونه وكل ما لهذا الفرض من إسقاطات على مجرى حياة البشر في شتى المجالات بغض النظر إذا ما كنا نتفق مع هذه التغييرات أو لا. فأصبحت هناك قواعد وأساسيات لكثير من المجالات وأهمها أساسيات قيام دولة ديمقراطية أو أساسيات التمتع بحياة كريمة.

لكن هناك الكثير من المجتمعات التي لم تصل بممارساتها السياسية لهذه القواعد والأساسيات المقبولة حتى الآن وما زالت تتراوح مثلا في الموالاة القبلية وتحديدا وقت الانتخابات أو أنها تستخدم أداة الانتخابات لتعزيز الالتزام القبلي وتوظيفه لصالح مرشحين بعينهم، أي إن الممارسات السياسية في النظام الديمقراطي لم تتحرر من ظلال القبيلة ونزعتها في هذه المجتمعات.

ولكن ما المشكلة في ذلك؟

لا شك أن البناء الاجتماعي في النقب هو عائلي قبلي وهذه هي ثقافة الأفراد السائدة ولا عيب في ذلك. فالفرد يشعر بالانتماء والالتزام نحو هذا البناء الاجتماعي الذي يتبعه في كثير من الأحيان، ولكن على هذا الالتزام أن يترافق مع معايير العدل والمساواة وإحقاق الحق وتحقيق الأمان وألّا يستغله كقوة ونفوذ للحصول على مكاسب بغير وجه حق أو لتعزيز الطبقية القبلية أو لاحتقار مجموعات معينة. بكلمات أخرى السيطرة على الموارد العامة وتسخيرها لخدمة مجموعة معينة على حساب أخرى بغير وجه حق!

تقسيم الموارد العامة على أساس قبلي هو تقسيم غير عادل، أي إن المراضاة والتسويات في أيام الانتخابات مقابل الحصول على التزامهم القبلي للتصويت هو مس صارخ في الموارد العامة التي من المفروض أن توزع بعدل ومساواة تامة بين جميع أطياف المجتمع. كما أن التصويت على أساس عائلي قبلي يمس بجوهر التصويت الذي يعني اختيار من يمثل الناس ومصالحهم على أكمل وجه ويحقق لجميع أفراد المجتمع أهدافه ويخدم جميع أطياف المجتمع بعد الفوز وليس أن يكبل بالالتزامات والوعود التي أعطاها لمجموعة معينة على حساب مصالح باقي المجموعات.

في النقب الصورة مركبة أكثر حيث إن عدم الاندماج في الإطار السياسي القائم الذي عامل أهل النقب بعنصرية وفرض وما زال يفرض عليه سياسات عنصرية مقيتة أدى إلى نفور الناس منه وابتعاده عن محاولة الاندماج فيه بصورته الحالية. أي إن الانتقال إلى المبنى السياسي الجديد- الدولة - لم يتم بصورة كاملة وبالتالي ما زال المجتمع يلجأ للمبنى الذي نشأ علية وما زال مركبا منه في المجال السياسي بالذات.

أعتقد أنه يجب إبعاد القبلية عن المجال السياسي والانتخابات بشكل خاص ويجب اتباع اللعبة الديمقراطية في هذا المجال بالذات لأن في ذلك منفعة للمجتمع وللصالح العام. الانتخابات تأتي لاختيار ممثل يخدم كافة فئات المجتمع ولا يأتي ليخدم فئة معينة فقط؛ أي إن التصويت يجب أن يكون على أساس الكفاءة والقدرات الذاتية ولمن يستطيع خدمة الصالح العام على أكمل وجه وبذلك نختار أفضل ما ينتج المجتمع كي يمثل قضايا الناس في أفضل ما يمكن. إذا تم الأمر على هذا النحو فإن تطور المجتمع سيكون ملحوظا وستكون هناك مراقبة وتغيير دوري لمن لا يفي بالشروط والقدرات المطلوبة لإنجاز مصلحة المجتمع. أما إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه الآن فالنتيجة ظاهرة للعيان وسنعاني منها جميعا- الفساد والمحسوبية المنتشرة بصورة كبيرة، وصول شخصيات غير مؤهلة لمناصب رفيعة فقط لأنها تنتمي لعائلات كبرى، لا رقيب ولا حسيب على سيرورة الخدمات والأعمال العامة وغيرها الكثير.

للوصول إلى هذا الهدف- علينا التصويت على أساس الكفاءات والقدرات والبرامج الانتخابية وعلينا تعزيز الوعي السياسي والثقافة السياسية لدى أفراد المجتمع. ولا بد هنا من التذكير أن بناء الوعي السياسي هو برنامج تثقيفي يأخذ الوقت ويمر بمراحل مختلفة ومستويات مختلفة. ولكن حتى نتمكن من إنجاز ذلك، لا بد لنا من أن نتساءل فيما إذا كانت القيادة السياسية في النقب والمجتمع العربي عامة تعمل على بناء هذا الوعي؟!


مرفت أبو هدوبة - فريح

طالبة دكتوراة في قسم السياسة والحُكم بجامعة بئر السبع

شاركونا رأيكن.م