يوم أعطيت قاصرًا متسوّلًا سيجارة، "ضميريًا"! القانون الإسرائيليّ وظاهرة الأطفال الفلسطينيّين المتسوّلين

لا يغفل أحد منّا مشاهد الأطفال الفلسطينيين المتسوّلين على مفارق الطّرقات المحاذية لبلداتنا العربيّة. وفيما كانت المشاهد في السابق لأطفال أو أمهات يحملن أطفالًا رضّعًا، يطرقون نوافذ مركباتنا باسطين كفوفهم، نرى اليوم المشاهد غالبًا على شكل أطفال يعرضون بضائع بسيطة للبيع. بعضنا يتأفّف وينزعج من لحظة تردّد "أعطي والا ما أعطي" وبعضنا يسارع بفتح الحقيبة وتناول ما تيسّر من القطع النقديّة المتوفرة فيها أو في تلك الفتحة التي بجانب منفضة المركبة. شعور العجز لدى جميعنا واحد. نرى بأمهات أعيننا يوميًا مظاهر استغلال أطفال واضحة ولا يسعنا إلّا أن نهدئ من روع تأنيب ضميرنا "الحي" بالتصدّق عليهم ببضع قطع نقديّة باتت اليوم لا تغري حتى أطفالنا نحن – أطفال الهواتف الذكيّة. نناول الطفل النقود ونشرح لأطفالنا أهمية "العطاء" ومساعدة "الفقراء".

قبل أسابيع وفي طريق العودة من المحاكم استوقفني شاب قاصر على أحد المفارق القريبة من مدينة شفاعمرو، مادًا يده طالبًا المساعدة الماديّة بلهجة الاستجداء وبالصوت الخافت والوجه الحزين. اعتذرت بحركة اليد المعروفة وكلمة "معيش والله" المعتمدة لدى جميعنا وطبعًا مع شعور تأنيب الضمير لعدم مقدرتي على المساعدة.

نظر الشاب، الذي بدا في سن 13-14 سنة، إلى داخل سيارتي وطلب "سيجارة". لم أتردد للحظة وناولته السيجارة وكأني قمت بتحقيق الحرية لأسير. بعد عبوري الشارّة الضوئية استوعبت أنّني عمليًا أعطيت قاصرًا سيجارة دون أي تفكير مسبق وحتى دون التردد أو التساؤل فيما إذا كان الأمر قانونيًا أصلًا أم لا. غداة إيذاء رئة قاصر بشكل متعمد واحتقار ذاتي ما بعده احتقار، شعرت بحاجة لفحص السبب في أنني أجد نفسي، بعد أكثر من عقدين في العمل الحقوقي في مجالات حقوق الأنسان، أعطي قاصرًا سيجارة بدون تفكير مسبق[1]. وكيف أصلًا تعايشت بسلام مع مشاهد يوميّة لاستغلال أطفال فلسطينيين على مفارق بلداتنا؟ وكيف وصلت درجة الإنكار لدي فيها حد الإيمان بأن واقع الاستغلال هذا لا يمكن تغييره والمساعدة الماديّة هي أضعف الإيمان؟  

لاحقًا نشرت بمواقع التواصل الإجتماعي تساؤلًا فيما إذا كانت هنالك جمعية تعنى بقضايا الأطفال المتسولّين للتواصل معها، ولو بسبب تأنيب الضمير واقتراح المساعدة تعويضًا على الجرم الذي ارتكبته بسيجارتي للقاصر، وكانت إجابة الأصدقاء بالنفي المطلق مقرونة بالحسرة والمطالبة الجماعيّة بإيجاد حل لتلك الظاهرة المقيتة. واللافت كان أن الجميع عبر عن الاستياء من وجود هذه الظاهرة، إيمانًا منهم بأن الحديث عن أطفال يتم تشغيلهم على يد مقاولين سأسميهم فيما يلي "تجّار أطفال".

ومن تأنيب الضمير انتقلت سريعًا إلى سجل القوانين لأبحث أين الخروقات القانونيّة في موضوع تسوّل الأطفال. افترضت في بحثي عن المراجع القانونيّة جدلًا أن الحديث عن أطفال بمعظهم فلسطينيّون من أراض محتلة، سواء القدس الشرقيّة أم الضفة الغربيّة، ولم اخطئ في تقديري.

ويتضح من قراءة سريعة أن ظاهرة تسوّل الأطفال الفلسطينيّين في بلداتنا العربيّة أشغلت بال العديد من المؤسّسات الرسمية والكنيست والشرطة منذ سنة 2005؛ وكانت هنالك محاولات عديدة لايجاد طرق لاجتثاثها وتعيين لجان خاصة وما إلى ذلك، إلا أننا ما زلنا نراها وبكثرة في مناطقنا وفي وضح النهار. فأين الخلل إذن؟

معاينة بعض القوانين دلّت على وجود بنود عديدة لو طبّقت لكنّا نظريًا في وضع آخر؛ لكنها برأيي غير كافية كما سأشرح لاحقًا. فالبند 216 (أ)(2) من قانون العقوبات الإسرائيليّ لعام 1977 ينص على أن كل من يقوم بجعل قاصر دون سن ال-16 يتسوّل (يبسط يده باللغة القانونيّة) في أماكن عموميّة يقوم بارتكاب مخالفة قانونية تعرّف بـ "التصرّف غير اللّائق في مكان عمومي" تصل عقوبتها القصوى إلى ستة أشهر سجن فعلي فقط. ويعتبر كل من يقوم بالتسوّل في أماكن عموميّة مستخدمًا ذرائع كاذبة أيضًا كمن تصرف بشكل غير لائق في مكان عمومي ويعرّض نفسه لمساءلة قانونيّة، قاصرًا كان أم بالغًا. أما عن ظاهرة استخدام أطفال دون سن السادسة وتركهم في الشارع دون رقيب، فهنالك بند قانوني (361) يحظر تواجد قاصر دون سن السادسة بدون رقابة لائقة، تصل عقوبة ذلك إلى ثلاث سنوات سجن فعلي ويمكن بالطبع تطبيقه في حالة الأطفال دون سن السادسة المتواجدين بدون رقابة ذويهم. ولا يمكننا أن نتعامل مع ظاهرة "بيع البضائع" وكأنها نوع من أنواع العمل لأن قانون عمل الشبيبة لعام 1953 يحظر تشغيل أطفال دون سن الخامسة عشر. وحتى تشغيل من بلغ سن الرابعة عشر وما فوق يسمح فقط خلال العطل المدرسيّة شرط أن يكون الحديث عن أعمال سهلة لا تشكل خطرًا على سلامة وصحة القاصر.

ويستدل من نقاش أجرته لجنة حقوق الطفل بفي الكنيست عام 2011 أنه بالإمكان النظر إلى ظاهرة استخدام الأطفال للتّسول وبيع البضائع على مفارق الطرقات أيضًا كنوع من أنواع الإتّجار بالأطفال والعبوديّة والعمل بالإكراه، الأمر الذي يحظره قانون منع الإتجار بالأشخاص لعام 2006 وقد ينزل عقوبة السجن لمدة 20 سنة بكل من يقدم على الإتّجار بالأطفال. والفكرة من وراء الاعتراف بالطفل كضحية لنوع عبودية أو اتّجار تأتي ليس فقط لمعاقبة من قام باستخدامه بل أيضًا من أجل الاعتراف بمكانة خاصة للطفل تؤهله الحصول على رزمة من المساعدات الإجتماعيّة دون أي علاقة بمكانته القانونيّة في البلاد.

ويعرّف قانون الشبيبة (1960) الطفل الذي وجد متسولًا أو بائعًا متجولًا بشكل مناقض للقانون بأنه "طفل محتاج". ويمنح هذا التعريف الطفل المساعدة والرعاية من قبل مكاتب الشؤون والرفاه الإجتماعي دون علاقة بمكانته القانونيّة في البلاد، ظاهريًا على الأقل. وإن تعرض هذا الطفل المحتاج إلى خطر على حياته وصحته فبالإمكان أيضًا استصدار أوامر قضائيّة تحميه بشكل مؤقت وتوفر له العلاج الصحّي حتى دون موافقة الوصي الشرعي عليه (الأهل عادة).

من الواضح طبعًا أن استمرار تواجد الأطفال بشكل علني على مفارق الطرق هو أكبر دليل على أن القوانين العقابيّة والوقائية أعلاه لا قيمة فعلية لها على أرض الواقع. فعلى الرغم من الحظر القانوني المباشر على استخدام الطفل للتسوّل، إلا أن الأمر ما زال قائمًا بشكل علني خلال ساعات النهار وعلى مرأى من دوريّات الشرطة المارة يوميًا بجانب هؤلاء الأطفال. من السهل طبعًا أن نأتي بالملامة الأولى على الشرطة وندعي إخفاقها في تطبيق القانون إلا أنه من الصعب أيضًا أن نرضى بتشجيع مطلب اعتقالات شرطيّة همجية لأطفال على الشوارع ولأمهات مع أطفال رضّع ورميهم على الحواجز الفلسطينيّة. مطلبنا بالأساس هو اجتثات الظاهرة دون الإساءة للطفل بأي شكل من الأشكال، بما في ذلك محاولة تحميله الهمجي في سيارات الشرطة وملاحقته في الشوارع الرئيسيّة على يد الشرطة وتعريض حياته للخطر. ففي النهاية نقدنا الموجه للشرطة يدور حول اخفاقها في القبض على من يتاجر بهؤلاء الأطفال ويجني المكسب الماديّ من استعبادهم.

في محاولة لفهم سبب إحجام الشرطة عن القبض على من قام باستغلال الأطفال واستخدامهم للتسّول على الطرقات، نرى أن من بين ادعاءاتها المركزيّة أن الطفل يرفض التجاوب معها خلال التحقيق معه لمعرفة اسم مشغله المباشر. من السهل تفهّم طفل يخشى أن يسلّم اسم مشغلّه وخوفه من عواقب الأمر من جانب المشغّل لاحقًا، خاصة أن العديد من الأطفال تحدثوا عن تعرضهم للعنف من قبل مشغليهم. وإذا كان تخوف الأطفال من الإفشاء بأسماء مشغّليهم يصعّب ايجاد المسؤولين لتقديمهم للمحاكمة، فهذا لا يعني أن الشرطة تفتقد وسائل أخرى تستطيع بواسطتها التحرّي ومعرفة هوية من أرسل الأطفال. فإن شاءت اجتثاث ظاهرة استغلال الأطفال الفلسطينيين لكانت سخّرت الموارد الملائمة لذلك. إن شاءت!

من ناحية أخرى، موضوع اعتقال المسؤولين عن الإتجّار بالأطفال وإكراههم على العمل في التسوّل لن يأتي بالنفعة المرجوة برأيي، لأنّ غياب فلان سيخلق ألف علّان طالما كان هنالك شعور بأن الحديث عن عمل مربح اقتصاديًا. وكما هو الحال في كل مجال جنائيّ يطوّر المجرمون طرق الإفلات من العقاب والتستّر فهكذا سيكون أيضًا حال تجّار الأطفال. سيجدون ألف طريقة وألف حيلة لعدم الوصول إليهم، كما فعل ويفعل الضالعون في الاتجار بالنّساء وتسخيرهنّ للعمل بالدعارة.

أعتقد أن ما يهمّنا في سياق تسوّل الأطفال هو خلق واقع لا يكون فيه لتسوّل الطفل أي مكسب ماديّ مما سيقلل من المحفزّات الاقتصادية للمشغّلين. هذا بموازاة طبعًا همّنا بتوفير احتياجات الأطفال، ضحايا العبوديّة، قدر الإمكان بواسطة المؤسّسات التي تعنى بالأمر. ومثال السيجارة أعلاه كان أكبر دليل على ضعفنا الإنساني تجاه طفل متسوّل وشعورنا التلقائيّ الملح بضرورة المساعدة بكل وسيلة وإن كنّا في قرارة أنفسنا نعلم أن هذا الطفل لم يأت إلى المفرق طواعيّة، حبًا بالتوسل والتسول خلال قيظ تموز وبرد كانون، إنما إكراهًا واستغلالًا لضيق حاله وصغر سنه وتساهل الشرطة معه مقارنة بتعاملها مع البالغين.

لذا، ومع الإدراك بأن الأموال التي نعطيها للطفل كصدقة ومن دافع الشفقة لن تذهب إلى جيبه أو تستثمر لتحسين رفاهيته فلا بد لنا من وجود كابح قانوني يمنعنا نحن أيضًا من التجاوب مع مطلب الطفل لبعض الشواقل (وحتى لو أدركنا في حالات معينة نظريًا أن المال المجني هو للطفل وعائلته لا أظن أن الإذلال وطلب المساعدة بهذه الطريقة هما أمر نريد لأطفالنا أن ينشأوا عليه. ناهيك عن خطر دهسم طبعًا).

أعي جيدّا صعوبة عدم التجاوب مع توسّلات طفل بملابس مهترئة ووجه مغبر مطلي بدخان المركبات، لما في ذلك المشهد من قساوة ظاهريًّا. لذا أعتقد أنه طالما لا يوجد قانون يمنعنا من تقديم المساعدة فسنستمر بالتصدّق على الأطفال لنرضي ضمائرنا ونكرّس بذلك عبوديّة هذا الطفل وتشجيع التجّار على الاستمرار بالعمل المربح اقتصاديًا. من هنا علينا التفكير مجددًا بسلوكنا نحن تجاه الأطفال بالتوازي طبعًا مع مطالبتنا الجهات الرسمية باتخاذ التدابير ضد المسؤولين. لا أعلم كم منّا سيتجاوب مع قانون يحظر مناولة الأطفال المتسولين المال أو يحظر شراء البضائع منهم، ولكنّي أومن بأن وجود حظر قانوني قد يسهّل علينا اتخاذ قرار الإحجام عن المساهمة في استمرار استغلال الأطفال وعبوديتهم المرئيّة.

سن قانون يمنع السائقين والسائقات والمارين والمارات من تقديم مساعدة ماديّة لطفل متسوّل قد يبدو لأول وهلة تدخلًا سافرًا بحريّاتنا الشخصيّة ورغبتنا في مساعدة الطفل المحتاج. ولكنّا نعلم جميعنا أن رغبتنا في المساعدة ممزوجة بالشعور بأن معظم هؤلاء الأطفال هم ضحايا استغلال وعبوديّة لا يمكن أن نجتثها دون أن نجعل منها عملًا غير مربح اقتصاديًا وغير مغر لتجّار الأطفال. ضبط سلوكنا بواسطة القانون يأتي إضافة طبعًا لضرورة تطبيق القوانين الموجودة حاليًا في كل ما يتعلق بملاحقة المسؤولين عن الإتجار بالأطفال وتلك المتعلقة بتوفير احتياجات الطفل وتأهيله وإصلاحه وترميم ما دمّرته العبوديّة والإذلال.


[1] القانون الاسرائيلي يحظر فقط بيع سجائر لقاصرين. الاستياء الشخصي نابع من رفض السلوك أخلاقيًا دون أي علاقة بكونه قانونيّاً.  

المحامية عبير بكر

محامية ومستشارة قانونية متخصصة في مجال حقوق الإنسان

ثائر تيتي
فش شو اضيف بعد كل هالكلام من الاستاذة عبير لانها شرحت الموضوع بالتفصيل وبشكل مهني وانساني بالمختصر ظاهرة محزنه يجب اجتثاثها لانه هؤلاء الشباب والاطفال والنساء مكانهن بمحلات افضل مش بالشارع وهن بعكسوا الوضع العام بالعالم العربي ككل
الثلاثاء 20 حزيران 2023
شاركونا رأيكن.م