تحديات الوالدية في العصر الحالي

الوالدية هي المهنة الأصعب والأقدس، بمفهومها الروحاني وبمسؤولياتها تجاه الفرد وتجاه المجتمع.

نحن لا نربي أطفالاً، نحن نربي رجال ونساء الغد. نحن كأهل لنا الدور الأساسي في تكوين الذخيرة الاجتماعية، المحلية والعالمية.

الوالدية مهنة في حد ذاتها، لها أسس، معرفة، آليات، شروط عمل وثقافه في عدة مجالات يجب دراستها وتحديد خطاها وأهدافها من جديد تجاه كل ولد وكل ظرف.

البيت هو الحقل الأولي الذي يجهز الولد للعالم التالي والوسيع. 

الهدف الأساسي في التربية هو تجهيز أولادنا للدنيا وتسهيل انخراطهم بنجاعة في الدوائر الاجتماعية المختلفة.

لضمان نجاعتهم، علينا تمرين أربعة عضلات:

الاستقلالية 

أن يكون الولد مستقلاً في أعماله، في إدارة شؤونه اليومية وفي كل ما باستطاعته القيام به وحده، في كل مرحلة من مراحل تطوره. 

مثلاً: أن يكون مستقلاً في ترتيب غرفته، إدارة وإنجاز مهامه المدرسية، اختيار ملابسه، حمّامه، فرك أسنانه، اختيار أصدقائه وغيرها.

المسؤولية

أن يكون الولد مسؤولاً، بالنتيجة وردة الفعل، عن كل ما يدور في مساحة استقلاليته.

مثلاً: هو الوحيد المسؤول عن علاماته وملاحظات المؤسسة التعليمية عن بذل جهوده وعدم بذل جهوده، عن جديته وعدم جديته. 

هو المسؤول عن نتيجة نظافة جسده ورائحته وغيرها.

هذه عضلة يجد الكثير من الأهل صعوبة في عدم التدخل فيها لأنها تمس بصورتهم هم أمام الغير، سواء في المدرسة أو أمام العائلة.

أولادنا هم بمثابة بطاقة تعريف لنا خارج البيت. لذا كثير من الأهل يجدون صعوبة في إطلاق سراح هذه المسؤولية من دون التقدير والمعرفة لكمّ الأذى الذي يسببه ضعف هذه العضلة مستقبلاً.

الثقة بالنفس

تمرين عضلة الاستقلالية والمسؤولية يساهم في تمرين الذخيرة الأكبر لدى كل شخص منا، ألا وهي: الثقة بالنفس.

انعدام، أو نقص، الثقة بالنفس هو مشكلة تعاني منها الأغلبية في مختلف الأجيال، من كل فئات المجتمع وشرائحه.

تمرين هذه العضلة بالطريقة الصحية نفسيًا، مع تحديد الطريقة، يؤثر بشكل كبير على صحة أولادنا النفسية في المستقبل.

أساليب التخويف، التهميش، التحقير، المقارنة أو الاتكالية المفرطة والضغط، كلها تسبب بشكل مؤلم جروحاً قاتله للنفسية.

أساليب الاحترام، المشاركة، المناقشة، الاتفاقيات، التشجيع، الحزم، المثابرة، القدوة الشخصية وغيرها هي من الآليات التي تساهم في تشكيل الذخيرة الأكبر من أجل انخراط أولادنا في المجتمع ومساهمتهم بشكل بنّاء، مثمر ومعطاء وبصحة نفسية عالية.

الحدود والقوانين

تدريب أولادنا على وعي ذهني وروحي لاحترام قوانين مبنية على مبادئ وقيم واضحة، هو التمرين الأكبر لتجهيزهم للدنيا. 

هو تحديد مساحة الأمان، الوضوح والاحترام لمساحتهم هم ومساحة الغير.

ولد بدون حدود هو أشبه بحالة عاطفية لولد يقف وحده على سطح مرتفع من دون جدران. 

إنه يعيش في حالة تهديد/ رعب كياني، جسدي ونفسي كل دقيقة. 

إنه يعاني من خطر السقوط في كل ثانية.

في السنوات الأخيرة، ظهر خلل جذري في مفاهيم ومعايير السلطة الوالدية التي تشكل تهديداً خطيراً جداً على مسار الفرد، على مبنى العائلة وعلى المجتمع برمّته خلال السنوات القادمة.

ليس مسار العولمة، التقدم، التكنولوجيا، انخراط المرأة في سوق العمل، تطوير مكانة الطفل وتذويت مفاهيم التحقيق الذاتي للفرد – هي العوامل التي تحطم وتعرقل مسار التربية، كما يدعي كثيرون من على كل منصة وفي كل ديوان، بل إنه عدم القدرة والخوف، كرجال ونساء، من التأقلم للواقع الجديد. 

التأقلم والتعامل مع فكرة عدم السيطرة على كل ما يدور في عالم أولادنا، فكرة أننا لسنا المرجع الأولي والوحيد لهم، التأقلم والتعامل مع ضغوطات الحياة اليومية، مع تغيير المبنى، الواجبات والحقوق المتساوية بين الأم والأب داخل إطار العائلة، التخلي عن أفكار كابحة للمرأة العاملة وسعيها إلى تطوير ذاتها، تتطلب الجرأة، الاحترام، التقاسم والمشاركة من الزوج/ الأب.

المعايير الحديثة هي واقع حتمي تتطلب منا التخلي عن أفكار مسبقة تعرقل سلامة العلاقة الزوجية ومسار التربية ومناخ البيت.

التعامل مع الواقع الجديد بطريقه مسالمة يساهم في تخفيف الضغوطات النفسية اليومية لدى الأهل.

نحن في مرحلة تاريخية استثنائية، حتمية، لا مفر منها ولا عودة عنها إلى الماضي، سوى بأشعار وقصص رومانسية.

نحن في مرحلة انتقالية جذرية في مفاهيم التربية والتعامل البشري، الانتقال من الفكر، القيادة والتربية الديكتاتورية الذكورية إلى الفكر والقيادة الديموقراطية.

انكشاف أولادنا على مغريات، تحديات ومسابقات يومية عن طريق شبكات الانترنت دون القدرة على الرقابة المطلقة يصعّب مسار التربية في العصر الحالي.

لدى العديد منا مفاهيم مغلوطة عن التربية والفكر الديموقراطي. الديموقراطية ليست أن نوفر ونصنع للولد كل ما يشاء، ولا أن نكون أصدقاء له، ولا أن نوفر له الخدمة في كل المجالات.

نحن لسنا مهرجين ولا سواقين ولا آلة صراف آلي ولا بائعي سعادة لهم.

التربية الديموقراطية هي، بالأساس، التخلي عن أساليب السيطرة على الفرد، طريق القوة، التخويف وبناء علاقة تقوم على المساواة في القيمة الإنسانية.

نحن نختلف عنهم في الوظيفة ونتساوى معهم في القيمة الإنسانية 

التربية الديموقراطية تتطلب دراسة آليات وأساليب تعامل مبينة على احترام كيان الطفل وذاته.

تشخيص الصعوبات والاحتياجات الخاصه به، تطوير آليات التثقيف، الإرشاد وأحيانًا العلاج لمساعدته على التطور الجسدي، الذهني والعاطفي.

التربية الديموقراطية مبنية على قيم، مبادئ إنسانية، ترتكز على القدوة الشخصية، المثابرة، الشرح والاحترام.

التربية الديموقراطية: تسعى لتطوير فرد قادر على التأقلم والانخراط في المجتمع بشكل فعال ومعطاء، تساهم في تطوير الفرد ودمجه في العالم الكلي الشامل، مع الحفاظ على الهوية الثقافية الخاصة به. التكلم مع الولد وليس إلى الولد.

التربية الديموقراطية: تنمي قيمة وثقة الولد بنفسه وبالحياة وترتكز على أهميته وكينونته المميزة والخاصة به بغض النظر عن سنه، جنسه، ميوله، لونه وهويته الشخصية والجنسية.

التربية الديموقراطية: تغذي الحاجة الأساسية النفسية الأهم لكل فرد في العالم.

" الشعور بالانتماء"

الشعور بالانتماء هو الإحساس الذي يدخل به كل ولد بيته بيقين أعمى، أنه يدخل مملكته الخاصة بكل فخر واعتزاز وله قبول حتمي بدون أي شرط.

الشعور بالانتماء يبدأ داخل البيت أولاً وليس في بالدولة، سواء كنا أقلية أم لا.

الطفل الذي يخرج إلى العالم بشك أو بأذى بشعوره بالانتماء داخل البيت، تكون احتمالاته أقل من الطفل الذي يخرج بكثير من الشعور بالانتماء في دوائر اجتماعية أخرى خارج البيت.

التربية السليمة داخل جدران البيت هي الذخيرة الأساسية لكل مجتمع.

 التعنيف، التحقير والتفريق ليست سوى طرق لتدمير وقمع الروح والفكر لدى أولادنا ومن ثم مجتمعنا.

بالإضافة إلى العوامل السياسية، القمع والتمييز لنا كأقلية عربية، هنالك عوامل أساسية لكل ظواهر العنف في مجتمعنا تعود جذورها إلى مسار التربية.

تجاهل هذه العوامل هو بمثابة تزوير للحقيقة منا وإضعاف لسيطرتنا على واقعنا.

تطوير المراكز، التثقيف وتربية أولادنا هي ضمن مسؤوليتنا الخاصة، كما هو الحال بالنسبة لتطوير مراكز تجارية، مطاعم وسيارات فاخرة.

التحدي الأكبر في مجال عملي هو تشخيص أصنام فكرية ومفاهيم معيقة للتغيير الفعلي لتطوير أفرادنا ومجتمعنا ككل.

التمسك بما هو غير قابل للتغيير هو ضائقة نفسية بحد ذاتها. 

ما علينا إلا اختيار الطريق لتغيير واقعنا الاجتماعي.

نسيبة فلاح

عاملة اجتماعية حاملة للقب الثاني، محاضرة بموضوع الوالدية والاستشارة الزوجية، وصاحبة عيادة خاصة لعلاجات ولإرشادات فردية بموضوع العلاقات الأسرية قي منطقة الشمال

 

اميرة
مقال رائع ومهم، اتمنى لو يصل لاكبر عدد ممكن من الاهل … ابدعت عزيزتي 👌🏻
الاثنين 12 حزيران 2023
رأيك يهمنا